وَعَنْ عَائِشَةَ : أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أُمِّي اُفْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وَلَمْ تُوصِ, وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ, أَفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا? قَالَ: «نَعَمْ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
تخريج الحديث:
حديث عائشة J: رواه البخاري (1388)، ومسلم (1004).
فقه الحديث:
المسألة الأولى: قضاء دين الميت قبل الوصية([1]):
أجمع العلماء على أن قضاء دين الميت مقدم على الوصية وحق الورثة، فقضاء الدين واجب والوصية مستحبة، وقد روى الإمام أحمد (1/79) وغيره عن علي I: «قَضَى النَّبِيُّ H بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ»، وفي سنده ضعف، ولكن العمل عليه عند أهل العلم، والدين إذا كان حقًّا لله E كزكاة أو حجة إسلام أو كفارة أو نذر؛ فإخراجه مقدم على ديون الناس، فديون الله D تقضى قبل ديون الغرماء، ففي الصحيحين أن رسول الله H قال:
«فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى».
وهذا مذهب الشافعية والظاهرية وغيرهم، وهو الراجح.
المسألة الثانية: إهداء ثواب العبادات للأموات([2]):
لا خلاف بين العلماء أن أجر الصدقة والحج والعمرة يصل إلى الميت إذا نوى به الحي الأجر له، فقد سأل رجل النبي H عن الصدقة عن أمه فقال: «أَفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ»، وكذلك سألت امرأة رسول الله H عن الحج عن أبيها فقال: «حُجِّي عَنْهُ»، وكذلك يصل إليه الدعاء بالإجماع.
واختلف العلماء في إهداء ثواب العبادات البدنية المحضة للميت وفي وصولها إليه، كثواب الصلاة والصيام وتلاوة القرآن ونحوها، على قولين:
القول الأول: لا يجوز إهداء ثوابها للميت ولا تصل إليه، وهو المشهور عند الشافعية، وعليه أكثر المالكية، واختارته اللجنة الدائمة([3])، وقد قال تعالى: ﴿ وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ ﴾ [النجم: ٣٩]، وقال E: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡ ﴾ [البقرة: ٢٨٦]. وثبت عن النبي H أنه قال: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ، إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»، فذكره لها يدل على أن غيرها لا تصل إلى الميت، فيقتصر على ما ثبت فيه الدليل، كهذه الثلاثة والصدقة عنه، والحج والعمرة والدعاء، زاد بعضهم: الصيام إن كان عليه صوم، والعبادات توقيفية لا يشرع منها إلا ما دل عليه الدليل، ولم يكن معروفًا عند السلف الصالح إهداء ثواب الأعمال للأموات، مع حرصهم الشديد على نفع أمواتهم؛ فكان بدعة.
القول الثاني: يجوز إهداء ثوابها للميت وتصل إليه، وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد وجماعة من المالكية وجماعة من الشافعية، فقد نص الشرع على وصول ثواب الصدقة، وهي عبادة مالية محضة، ونص على وصول ثواب الحج وهي عبادة مالية وبدنية، ونص على وصول ثواب الصوم لمن مات وعليه صوم، والصوم عبادة بدنية محضة، ولم يأت دليل على المنع من وصول ثواب بقية العبادات إلى الميت حتى يقتصر على المنصوص، فالأصل الجواز حتى يقوم دليل على المنع.
وقوله تعالى: ﴿ وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ ﴾ [النجم: ٣٩] ونحوها من الآيات، لم ينف انتفاع الميت بسعي الحي، وإنما نفى ملكه لغير سعيه، فأخبر أنه لا يملك إلا سعيه، وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه، فإن شاء أبقاه لنفسه وإن شاء بذله لغيره، ولم يقل D: «لا ينتفع إلا بما سعى»، وفرق بين الأمرين.
وقوله في الحديث: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ»، لم يقل: «انقطع انتفاعه إلا من ثلاث»، وإنما أخبر عن انقطاع عمله، واستثنى الثلاثة المذكورة؛ لأنها من سعي الشخص وكسبه، وأما عمل غيره فهو لعامله، فإن وهبه للميت وصل إليه ثواب عمل العامل لا ثواب عمله، لأنه قد انقطع عمله، فالمنقطع في الحديث شيء، والواصل إليه شيء آخر.
ولم ينقل هذا عن السلف الصالح؛ لما عرفوا به من كتمانهم لأفعال الخير.
والراجح في المسألة: ما خلص به شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشيخ ابن عثيمين - رحمهم الله - أن الأفضل والأولى: أن نقتصر في نفع الميت على الأعمال الصالحة التي نص الشرع على انتفاع الميت بها، فلم يكن من عادة السلف إذا صلوا أو صاموا أو قرؤوا القرآن أن يهدوا ثواب ذلك إلى الأموات، فلا ينبغي العدول عن طريق السلف، فطريقة السلف أفضل وأكمل.
([1]) المحلى مسألة (1764)، تفسير القرطبي (5/49)، فتح الباري (6/31).
([2]) مجموع الفتاوى (24/313)، (31/41)، الأخبار العلمية (ص/137)، الروح لابن القيم (ص/187)، حاشية ابن عابدين (9/52)، فتح القدير لابن الهمام (3/142)، الإنصاف (2/559)، الشرح الممتع (5/464)، توضيح الأحكام للبسام (2/288).
([3]) فتاواها (9/62)، مجموع فتاوى ابن باز (13/150).