وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ اِمْرَأَتَهُ - وَهِيَ حَائِضٌ - فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ? فَقَالَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا, ثُمَّ لْيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ, ثُمَّ تَحِيضَ, ثُمَّ تَطْهُرَ, ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ, وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ بَعْدَ أَنْ يَمَسَّ, فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا, ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا».
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ: «وَحُسِبَتْ عَلَيْهِ تَطْلِيقَةً».
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ; فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ H أَمَرَنِي أَنْ أُرَاجِعَهَا, ثُمَّ أُمْهِلَهَا حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى, وَأَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا, فَقَدْ عَصَيْتَ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَرَدَّهَا عَلَيَّ, وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا, وَقَالَ: «إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ».
تخريج الحديث:
حديث ابن عمر L: الرواية الأولى: في البخاري (5251)، ومسلم (1471). والرواية الثانية: في مسلم. والرواية الثالثة في البخاري (5253). والرواية الرابعة في مسلم. والرواية الخامسة في مسلم، إلا قوله: «وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا»، فلم يروها مسلم، وإنما رواها أحمد (2/29) وأبو داود (2185) وغيرهما عن أبي الزبير عن ابن عمر L، وقد أنكر الأئمة هذه الزيادة على أبي الزبير، فقد روى الحديث جماعة من الحفاظ عن ابن عمر L بدون هذه الزيادة([1]).
فقه الحديث:
المسألة الأولى: طلاق الحائض والطاهر في طهر جامعها فيه زوجها([2]):
أجمع العلماء على حرمة طلاق الحائض، فقد غضب النبي H من ابن عمر L عندما طلق زوجته وهي حائض، وأمره أن يطلقها طاهرًا أو حاملًا.
وعامة العلماء على تحريم طلاق المرأة في طهر جامعها زوجها فيه، فقد قال النبي H في حديث ابن عمر L: «وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ»، أي: يجامع.
واختلفوا في وقوع الطلاق في الحيض وفي الطهر بعد الجماع:
فقال بعض العلماء: لا يقع الطلاق، لأن الشرع حرمه، فأفاد ذلك عدم جواز إيقاعه، وقد قال ابن عمر L: «فَرَدَّهَا عَلَيَّ، وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا»، يعني: رسول الله H. وما جاء في بعض الروايات أن ابن عمر L احتسبها تطليقة؛ فهذا موقوف، وليس من رسول الله H، والمرفوع مقدم على الموقوف.
وهذا قول قلة من السلف، وبعض الحنابلة، وابن حزم وابن تيمية وابن القيم والصنعاني وابن باز وابن عثيمين رحمهم الله([3]).
وذهب جمهور العلماء إلى وقوع الطلاق، فقد طلق ابن عمر L زوجته وهي حائض وقال: «وَحُسِبَتْ عَلَيَّ تَطْلِيقَةً»، وفي ]صحيح مسلم[ قال: «وَحَسَبْتُ لَهَا التَّطْلِيقَةَ الَّتِي طَلَّقْتُهَا»، وكان ابن عمر L يفتي من سأله عن طلاق الحائض بوقوع طلاقه، فقد قال: «أَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ H: أَمَرَنِي بِهَذَا، وَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ، وَعَصَيْتَ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكَ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ»، أي: في غير الحيض.
وسئل: «إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ أَتَعْتَدُّ بِتِلْكَ التَّطْلِيقَةِ، فقَالَ: فَمَهْ أَوَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ»، رواه مسلم، أي: نعم. ولا يمنع من احتسابها عجزه وحماقته عندما طلقها وهي حائض.
وأيضًا قد أمر النبي H ابن عمر L أن يراجع زوجته، والمراجعة في الشرع تكون من طلاق.
وما جاء في رواية أن النبي H «لَمْ يَرَهَا شَيْئًا» فهي رواية شاذة، أنكرها الأئمة، ولو صحت لكان معناها: لم يرها شيئًا صوابًا مستقيمًا، لكونها لم تقع على السنة؛ جمعًا بين الروايات.
وهذا هو الراجح، واختاره الألباني([4]) والوادعي رحمهما الله.
المسألة الثانية: حكم مراجعة من طلقت وهي حائض أو في طهر مسها زوجها فيه([5]):
اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يستحب له أن يراجعها ولا يجب عليه؛ لأن ابتداء النكاح لا يجب، فلا تجب استدامته، وأمر النبي H لابن عمر L بمراجعة زوجته هو أمر للاستحباب.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
القول الثاني: يجب عليه مراجعتها؛ لأن الطلاق لما كان محرمًا في هاتين الحالتين كانت استدامة النكاح فيهما واجبة.
وهذا مذهب بعض المالكية، وهو وجه للشافعية، ورواية لأحمد.
القول الثالث: يجب عليه أن يراجعها إذا طلقها وهي حائض؛ لأن النبي H أمر ابن عمر L بمراجعة زوجته، عندما طلقها وهي حائض، فقال: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا»، والأمر يقتضي الوجوب عند الإطلاق، ولما فيه من تطويل للعدة.
ولا يجب عليه أن يراجعها إذا طلقها في طهر مسها فيه؛ لأن النبي H لم يأمر بالمراجعة في هذه الحالة، ولا تطول العدة فيها، وإنما لأنها قد تحمل من هذا الجماع.
وهذا مذهب الظاهرية، والمشهور عند المالكية، وقول بعض الحنفية، ورواية لأحمد، وهذا القول قوي، والقول الثاني أقوى، فالأصل عدم التفريق بين المتماثلات.
المسألة الثالثة: من طلق امرأته وهي حائض، هل تحسب هذه الحيضة من العدة([6])؟
عامة العلماء على أن هذه الحيضة لا تحسب من عدة المرأة ولا تعتد بها، لهذا كان من أهم أسباب تحريم طلاق الحائض أن عدتها تطول.
المسألة الرابعة: إذا طلقها وهي حائض ثم راجعها وأراد طلاقها([7]):
قال بعض العلماء: يجوز له أن يطلقها في الطهر الأول الذي بعد هذه الحيضة مباشرة؛ لأنه يكون قد طلق في طهر لم يمسها فيه.
فقد قال الرسول H: «ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا»، وفي رواية: «إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ».
وما جاء في رواية أن النبي H قال: «فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ»، أي: أنه يطلقها في الطهر الثاني، فهذا يحمل على الاستحباب؛ جمعًا بين الروايات.
وهذا القول رواية للحنفية، ووجه للشافعية، ورواية لأحمد.
وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز له أن يطلقها في الطهر الأول، وإنما يطلقها في الطهر الثاني، ففي الحديث: «ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ»، وهذه الرواية مقدمة على الرواية التي ظاهرها أن له أن يطلقها في الطهر الأول؛ لأنها أتم، ولأن من حفظ زيادة فهو مقدم على من لم يحفظ، وأيضًا هذه الرواية أصح، فهي في ]الصحيحين[، وقصة ابن عمر L واحدة؛ فلا تحمل على حالتين.
وهذا القول هو الأرجح، والغرض منه: ليكون قصده من مراجعتها إمساكها لا لأجل طلاقها، ولأنه يطول مقامه معها، فقد يجامعها، فيذهب ما في نفسه من سبب طلاقها؛ فيمسكها.
المسالة الخامسة: طلاق الحامل([8]):
عامة العلماء على أنه يجوز طلاق الحامل، فقد قال النبي H: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا». ولعدم وجود دليل يمنع منه.
المسألة السادسة: طلاق المرأة في العدة قبل مراجعتها([9]):
ذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز أن يطلق الرجل زوجته ولا زالت في عدتها من طلاق سابق إذا كانت في طهر منها، فلا دليل على تحريم ذلك.
وهذا مذهب الحنفية والشافعية وابن حزم، ورواية لأحمد.
وذهب جمهور العلماء إلى حرمة طلاق المرأة في عدتها قبل مراجعتها، فقد أمر النبي H ابن عمر L أن يطلق قبل أن يمس، ثم قال: «فَتِلْكَ العِدَّةُ التِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ»، أي: في قوله E: ﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ [الطلاق: ١]، أي: قبيل العدة، وذلك إذا طلقها في طهر لم يجامعها فيه، فتشرع في العدة مباشرة. فدل ذلك على أن الطلاق أولًا ثم العدة بعده. والطلاق في العدة يخالف ما في الآية والحديث أن الطلاق قبل العدة لا في أثنائها؛ ومخالفة أمر الله محرمة، وهذا هو الراجح.
ويقع الطلاق في العدة عند عامة العلماء، وشذ ابن تيمية V فقال: «لا يقع»؛ لأنه طلاق محرم، فلم يصح الطلاق فيه حتى يراجع أولًا.
([1]) معالم السنن (3/203)، جامع العلوم والحكم (1/187).
([2]) شرح مسلم (10/52)، المغني (10/327)، الاستذكار (18/7)، المحلى مسألة (1949)، مجموع الفتاوى (33/7، 12، 99)، زاد المعاد (5/221)، فتح الباري (10/444)، الانصاف (8/448).
([3]) سبل السلام (3/359)، فتاوى اللجنة الدائمة (20/58)، فتاوى نور على الدرب للعثيمين (10/376).
([4]) الإرواء (7/133).
([5]) شرح مسلم (10/53)، الاستذكار (18/21)، بداية المجتهد (2/64)، المغني (10/328)، فتح الباري (10/439، 441)، الانصاف (8/453).
([6]) انظر المراجع السابقة.
([7]) بداية المجتهد (2/64)، المغني (10/328)، فتح الباري (10/440)، الإنصاف (8/451).
([8]) شرح مسلم (10/57)، فتح الباري (10/441).
([9]) بداية المجتهد (2/63)، المحلى مسألة (1949)، المغني (10/326)، مجموع الفتاوى (33/72، 79)، الإنصاف (8/451).