عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ - امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ- عَلَى رَسُولِ اللَّهِ . فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ, فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ? فَقَالَ: «خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ, وَيَكْفِي بَنِيكِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
تخريج الحديث:
حديث عائشة J: رواه البخاري (2211)، ومسلم (1714).
فقه الحديث:
المسألة الأولى: إنفاق الأب على أولاده([1]):
أجمع العلماء على أنه يجب على الأب الغني أن ينفق على أولاده الفقراء إذا كانوا عاجزين عن الكسب، إما لصغَر، وإما لمرض، فقد قال E: ﴿ وَعَلَى ٱلۡمَوۡلُودِ لَهُۥ رِزۡقُهُنَّ وَكِسۡوَتُهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِ ﴾ [البقرة: ٢٣٣]، وقد ذكرت هند بنت عتبة J امرأة أبي سفيان لرسول الله H أن أبا سفيان لا يعطيها ما يكفيها ويكفي بنيها من النفقة، فأذن لها رسول الله H أن تأخذ من ماله ما يكفيها ويكفي بنيها بقدر المعتاد في الكفاية، فإذا أذن للابن أن يأخذ من مال أبيه بغير إذنه إذا قصر في النفقة عليه دل ذلك على أنه يجب على الأب أن ينفق على ابنه.
فإذا كان الابن متكسبًا لبلوغه وصحته؛ فلا يجب على الأب النفقة عليه، وكذلك الأنثى إذا تزوجت، فنفقتها على زوجها.
واختلفوا في الولد القادر على الكسب، ولا كسب له –أي: لا حرفة له-:
فقال جمهور العلماء: لا تلزم النفقة على أبيه؛ لأنه يستطيع الاستغناء عنه بالكسب.
والمذهب عند الحنابلة: أن النفقة تلزم على الأب لأن الولد فقير، فأشبه الصغير والمريض المزمن، وفي حديث هند بنت عتبة J لم يستثنِ
رسول الله H من النفقة الواجبة البالغ الصحيح، فهو عام يشمل جميع من لا مال له من الولد.
وهذا هو الأرجح.
المسألة الثانية: إذا منع الرجل زوجته من النفقة([2]):
إذا منع الرجل زوجته من النفقة مع يساره؛ جاز لها أن تأخذ من ماله قدر حاجتها، ولا تزيد، فقد قال النبي H لهند بنت عتبة J: «خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالمَعْرُوفِ –أي: بحسب المعتاد عرفًا- مَا يَكْفِيكِ، وَيَكْفِي بَنِيكِ».
وليس لها الفسخ في هذه الحالة.
فإن لم تقدر رافعته إلى الحاكم، فيأمره بالإنفاق ويجبره عليه، وإلا حبسه.
وهذا مذهب الأئمة الأربعة.
المسألة الثالثة: الحالة المعتبرة في نفقة الزوجة([3]):
اختلف العلماء في هذه المسألة:
القول الأول: المعتبر بحال الزوجة في النفقة، فقد قال النبي H
لهند بنت عتبة J: «خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ»، فاعتبر كفايتها دون حال زوجها، ولأن النفقة واجبة لدفع حاجة الزوجة، فكان الاعتبار بما تندفع به حاجتها. نقله بعض العلماء عن الإمام مالك.
القول الثاني: المعتبر حال الزوج في النفقة، قال D: ﴿ لِيُنفِقۡ ذُو سَعَةٖ مِّن سَعَتِهِۦۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيۡهِ رِزۡقُهُۥ فَلۡيُنفِقۡ مِمَّآ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ﴾ [الطلاق: ٧]، وقال سبحانه:
﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِ ﴾ [البقرة: ٢٣٦]، وقال D: ﴿ أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ ﴾ [الطلاق: ٦].
ويحمل ما جاء في حديث هند J أن النبي H اعتبر بما يكفيها على أنه يعلم أن أبا سفيان كان موسرًا.
وهذا مذهب الشافعي، وظاهر مذهب الحنفية، ومذهب الظاهرية، وبعض الحنابلة.
القول الثالث: المعتبر حالهما جميعًا، فتجب في الموسرين نفقة اليسار، وفي المعسرين نفقة الإعسار، وإذا كان أحدهما معسرًا والآخر موسرًا؛ فتجب نفقة بين الحالين، وهي حال الوسط، جمعًا بين حديث هند بنت عتبة J والآيات السابقة، فالجمع يقتضي مراعاة الطرفين.
وهذا هو المذهب عند الحنابلة، والمشهور عند الحنفية، والمعتمد عند المالكية.
والراجح -والله أعلم-: أنه يعتبر بحال الزوج وحده؛ لصراحة دليله، وإمكان الرد على حديث هند بنت عتبة J.
وسيأتي فيما بعد قدر النفقة على الزوجة.
([1]) روضة الطالبين (6/491)، المغني (11/377)، المحلى مسألة (1929)، زاد المعاد (5/547)، الإنصاف (9/398)، حاشية ابن عابدين (5/268).
([2]) المغني (11/363).
([3]) المحلى مسألة (1918)، المغني (11/350)، روضة الطالبين (6/453)، فتح الباري (10/638)، الإنصاف (9/352)، البحر الرائق (4/267)، حاشية الدسوقي (3/478).