عَنْ أَبِي بَكْرٍ بْنِ مُحَمَّدٍ بْنِ عَمْرِوِ بْنِ حَزْمٍ, عَنْ أَبِيهِ, عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ ... فَذَكَرَ الْحَدِيثَ, وَفِيهِ: «أَنَّ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيِّنَةٍ, فَإِنَّهُ قَوَدٌ, إِلَّا أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ, وَإِنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ, وَفِي الْأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ, وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ, وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ, وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ, وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ, وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ, وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ, وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ, وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ, وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ, وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنَ الْإِبِلِ, وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ, وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ, وَإِنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ, وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي «الْمَرَاسِيلِ» وَالنَّسَائِيُّ, وَابْنُ خُزَيْمَةَ, وَابْنُ الْجَارُودِ, وَابْنُ حِبَّانَ, وَأَحْمَدُ, وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّتِهِ.
تخريج الحديث:
حديث عمرو بن حزم I: رواه أبو داود في ]المراسيل[ (ص/247)، والنسائي (8/59) وغيرهم، وإسناده ضعيف جدًّا، فيه سليمان بن أرقم متروك، وفي بعضها سليمان بن داود، وهو ابن أرقم.
وقد جاء من طرق أخرى رجالها ثقات، رواها الإمام مالك في الموطأ (234)، وعبد الرزاق (4/4)، والنسائي (8/87)، والدارقطني (1/121)، والبيهقي (1/186) وغيرهم، وهي مرسلة، وقد تلقى العلماء هذا الحديث بالقبول مع إرساله، وصرحوا بأن رسول الله H كتبه لعمرو بن حزم I، قال الإمام الشافعي: «لم يقبلوه حتى ثبت عندهم أنه كتاب النبي H»، وقال الإمام أحمد: «لا شك أن النبي H كتبه له»، وقال الفسوي: «لا أعلم كتابًا أصح من كتاب عمرو بن حزم I في الديات، كان الصحابة يرجعون إليه»([1]).
فقه الحديث:
المسألة الأولى: دية الرجل([2]):
أجمع العلماء على أن دية الرجل إذا قُتل عمدًا أو شبه عمد أو خطأ أنها مائة من الإبل، دلت عليه مجموعة من الأحاديث، منها ما في كتاب عمرو بن حزم I، وفيه: «أَنَّ مَنْ اِعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا –أي: قتله بلا موجب- عَنْ بَيِّنَةٍ –أي: عرف القاتل بالبينة من شهود أو إقرار-، فَإِنَّهُ قَوَدٌ –أي: فيه قصاص-، إِلَّا أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ المَقْتُولِ، وَإِنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ مِائَةً مِنْ الإِبِلِ».
واختلفوا في الدية من غير الإبل على قولين:
الأول: تكون الدية من غير الإبل من الذهب أو الفضة أو البقر أو الغنم ولو وجدت الإبل، فهي من الذهب ألف دينار، ومن البقر مائتان، ومن الشياه ألفان، ومن الفضة اثنا عشر ألف درهم، ففي كتاب عمرو بن حزم I: «وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ ألفُ دِينَارٍ»، وعن جابر I: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ H قَضَى فِي الدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاهِ أَلْفَيْ شَاةٍ»، رواه أبو داود (4532) وإسناده ضعيف([3])، وعن ابن عباس L: «أن النبي H جعل دية رجل اثني عشر ألف درهم»، رواه الأربعة، والصحيح فيه الإرسال -كما سيأتي-.
وعن عمر أنه قام خطيبًا فقال: «على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة». رواه أبو داود (4542)، والبيهقي (8/77)، وسنده ضعيف.
وهذا مذهب الحنفية والمالكية والمذهب عند الحنابلة.
الثاني: لا تكون إلا من الإبل، وهو الأصل فقد دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فإن لم يوجد الإبل ينتقل إلى غيره بما يساوي قيمتها.
والأحاديث السابقة ضعيفة، أو يكون ما فيها من التقدير بحسب ذاك الوقت.
وهذا مذهب الشافعية والظاهرية ورواية لأحمد، وهو الراجح.
وسيأتي الكلام على دية المرأة فيما بعد.
المسألة الثانية: دية الأعضاء أو الأطراف من الرجل([4]):
عامة العلماء على أن في العينين دية كاملة، وفي العين الواحدة نصف الدية، أي: خمسون من الإبل، وكذلك في الأذنين والشفتين واليدين والرجلين والبيضتين -الأنثيين- وفي اللسان أو الأنف أو الذكر دية كاملة –أي: مائة من الإبل-؛ لأن كل ما سبق جاء منصوصًا عليه في كتاب عمرو بن حزم I، وصح هذا عن بعض الصحابة.
والذي عليه جمهور العلماء: أن الصلب - وهو العمود الفقري - فيه الدية كاملة، كما في كتاب عمرو بن حزم I .
واختلفوا في دية العضو الذي لم ينص عليه في كتاب عمرو بن حزم I، ولا دليل على تحديد مقدارها -كالأجفان والحاجبين ومنبت الشعر-؛
فقال بعض أهل العلم: في كل عضو منها الدية كاملة، قياسًا على دية الأعضاء التي نُصَّ عليها في كتاب عمرو بن حزم I، ولأنه عضو لا مثيل له في الجسم، وفيه منفعة.
وقال بعض العلماء: فيه حكومة، وهي التعويض المقدر قضاءً، لعدم وجود التقدير الشرعي فيه، فلم يثبت التقدير فيه في السنة ولا عن أحد من الصحابة.
وهذا هو الراجح.
وعامة العلماء على أن العضو إذا ذهبت منفعته بسبب جناية، مع بقاء العضو؛ أن فيه دية كاملة، كذهاب البصر أو السمع أو الكلام.
والكلام على دية أعضاء المرأة سيأتي في مكانه.
المسألة الثالثة: ما يلزم من المال في بعض أجزاء العضو أو بعض منافعه([5]):
عامة العلماء على أن في الإصبع الواحدة من اليد أو الرجل عشرًا من الإبل، ففي كتاب عمرو بن حزم I قال: «فِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِ اليَدِ وَالرِّجْلِ عَشْرٌ مِنْ الإِبِل»، وفي الأنملة الواحدة ثلث العشر - أي: ثلاث من الإبل وثلث-؛ لأن الإصبع الواحدة تحتوي على ثلاث مفاصل-، إلا الإبهام ففي الواحدة خمس من الإبل؛ لأنه مفصلان.
والصحيح الذي عليه جمهور العلماء: أنه يلزم في غير الأصابع حكومة –أي: التقدير القضائي- بحسب النقص في العضو أو المنفعة، كما إذا نقص البصر أو أحولت العين أو عمشت أو قطع بعض الأذن أو ذهب بعض السمع أو بعض اللسان، وهكذا.
المسألة الرابعة: ما يلزم من المال في الشجاج وكسر العظم([6]):
عامة العلماء على أن الجراحة إذا كانت في الرأس أو الوجه وانتهت إلى العظم ولم تكسره -وتسمى بـ«الموضحة»- أن فيها خمس من الإبل، كما في كتاب عمرو بن حزم I.
وإذا كسرت الجراحة العظم وأزالته عن موضعه؛ فيحتاج العظم إلى نقل ليلتئم -وتسمى بـ«المنقِّلة»- ففيها خمس عشرة من الإبل، كما في كتاب عمرو ابن حزم I.
وإذا تهشم العظم ولم يقطع -وتسمى بـ«الهاشمة»- ففيها عشر من الإبل عند جمهور العلماء؛ لأنها جراحة بين الموضحة والمنقلة، وقد ذكر بعض أهل العلم أنها منصوص عليها في كتاب عمرو بن حزم I، ولم أقف عليه.
وعامة العلماء على أن الجراحة إذا وصلت إلى أم الرأس -وهي جلدة فيها الدماغ، وسميت هذه الجراحة «مأمومة أو آمة»؛ لأنها تصل إلى أم الدماغ- أن فيها ثلث الدية الكاملة، كما في كتاب عمرو بن حزم I.
وأما إذا كانت الجراحة في غير عظام الوجه والرأس -كالفخذ والساق والظهر والعضد-؛ فالصحيح الذي عليه جمهور العلماء: أنها حكومة، تقدر من قبل القضاء؛ لعدم ثبوت تقدير فيها عن رسول الله H أو الصحابة M.
ما عدا عظم الضلع والترقوة، وهو العظم المستدير حول العنق؛ فقد صح عن عمر I: «أنه قَضَى فِي التَّرْقُوَةِ بِجَمَلٍ، وَفِي الضِّلَعِ بِجَمَلٍ» رواه ابن أبي شيبة (6/300، 322)، وهو وجه للشافعية، وقول الحنابلة.
ومذهب الحنفية والمالكية والمشهور عند الشافعية: أنه حكومة.
وجمهور العلماء على أن الجراحة التي لا تصل إلى العظم، وإنما تسيل الدم أو تكشط الجلد أو تشق اللحم أن فيها حكومة؛ لعدم وجود تقدير شرعي لها، سواء كانت في الوجه أو الرأس أو غيرهما.
وأما عظم السن؛ فأجمعوا على أن في السن الواحدة خمس من الإبل، جاء هذا التقدير في كتاب عمرو بن حزم I وغيره. وفي كسر بعض السن حكومة بحسب ما نقص منها.
وعامة العلماء على أن الجائفة فيها ثلث الدية الكاملة، كما في كتاب عمرو ابن حزم I.
والجائفة: هي الجراحة التي تصل إلى الجوف، كالصدر أو البطن أو الظهر أو الحلق، ولا تكون في اليدين ولا الرجلين ولا الرقبة، لأنها لا تصل إلى الجوف.
([1]) الرسالة للشافعي (ص/422)، التمهيد لابن عبد البر (17/338)، مجموع الفتاوى (21/266)، تهذيب الكمال (11/419).
([2]) المحلى مسألة (2023)، المغني (12/6)، بداية المجتهد (2/411)، الإنصاف (10/58)، أضواء البيان (3/529).
([3]) ضعفه الألباني في الإرواء (2244).
([4]) المغني (12/106-150، 178)، التمهيد لابن عبد البر (17/370 وما بعد)، الفقه الإسلامي وأدلته (7/5752-5768).
([5]) انظر المراجع السابقة.
([6]) المغني (12/159-176)، الفقه الإسلامي وأدلته (7/5763).