وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ, وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ, فَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ. قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا, فَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ, فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ, فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ, وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى مَنْ زَنَى, إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ, إِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ, أَوْ كَانَ الْحَبَلُ, أَوْ الِاعْتِرَافُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
تخريج الحديث:
حديث عمر بن الخطاب I: رواه البخاري (6830)، ومسلم (1691).
فقه الحديث:
المسألة الأولى: شروط الإحصان([1]):
لا خلاف بين العلماء على أنه لا يكون الإحصان إلا بالنكاح، فلا يحصل الإحصان بالتسري -وهو الوطء بملك اليمين- ولا بالزنى، لأن كل ذلك لا يسمى نكاحًا، ولا يجري فيه أحكام النكاح، وقد قال D: ﴿ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ ﴾ [النساء: ٢٤]، أي: المتزوجات.
ولابد في هذا النكاح من الوطء في القُبُل، فإن كان مجرد عقد أو عقدًا وخلوة أو وطءًا دون الفرج؛ فلا يحصل به الإحصان باتفاق الفقهاء، وضابط الوطء في القبل: غياب الحشفة، عند عامة العلماء.
ولابد أن يكون النكاح نكاحًا صحيحًا، عند عامة العلماء، فلا يحصل الإحصان بالنكاح الباطل، كنكاح المعتدة من مفارقة زوج أول.
ويشترط العقل والبلوغ في هذا النكاح، حتى يحصل الإحصان، فلو وطء وهو صبي أو مجنون، ثم بلغ أو عقل؛ لم يكن محصنًا، وعلى هذا عامة العلماء.
واختلفوا في اشتراط وجود الكمال فيهما جميعًا حال الوطء:
فمذهب الحنفية، والصحيح عند الحنابلة، ووجه للشافعية: يشترط ذلك، فلابد من توفر شروط الإحصان فيهما جميعًا عند الوطء، فلو تزوج الرجل صغيرة أو مجنونة، وجامعها؛ لم يحصل له التحصين، ولو تزوجت المرأة صغيرًا أو مجنونًا وحصل الوطء؛ لم يحصل التحصين، لأنه وطء لم يُحصَّن به أحدهما، فلم يحصَّن به الآخر، ولأنه لا يحصل به كمال الوطء والتلذذ، فلا يحصل به الإحصان.
ومذهب المالكية، والأظهر عند الشافعية، ورواية للحنابلة: لا يشترط ذلك، فالكامل منهما يكون هذا الوطء تحصينًا له، لأنه بالغ عاقل، ووطء في نكاح صحيح، فالرجل إذا تزوج الصبية أو المجنونة ووطأها صار محصنًا، والمرأة إذا تزوجت المجنون ووطأها صارت محصنة، وأما الصبي؛ فلا يحصِّن المرأة ولو وطئها؛ لعدم إمكانه.
وهذا هو الأرجح.
المسألة الثانية: البينة وما يشترط لها([2]):
لا خلاف بين العلماء على أنه يشترط في البينة التي يثبت بها حد الزنى شهادة أربعة رجال، قال E: ﴿ فَٱسۡتَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِنَّ أَرۡبَعَةٗ مِّنكُمۡ ﴾ [النساء: ١٥]، وقال سبحانه: ﴿ ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ ﴾ [النور: ٤].
وعامة العلماء - إلا من شذ - أن النساء لا تقبل شهادتهن في حد الزنى، لخطورة هذا الأمر، ولعدم الإدراك الكامل من قبل المرأة، وإنما تقبل شهادة النساء في الأموال، وفيما لا يطلع عليه إلا النساء في الغالب -كالرضاعة والبكارة وغيرهما-.
ولابد من عدالة الشهود، بلا خلاف بين العلماء، لأن دين الفاسق لا يردعه عن ارتكاب محظورات الدين، فلا يؤمن منه الكذب والإفتراء، فلا تحصل الثقة بخبره.
ويشترط اتحاد المشهود به عند عامة العلماء، وهو أن يجمع الشهود على فعل واحد في المكان والزمان، فإن اختلفوا؛ فلا تقبل شهادتهم، فلا حد عليه، كما لو شهد بعضهم أنه زنى بها في مكان كذا، وشهد الآخرون أنه زنى بها في مكان آخر، أو شهد بعضهم أنه زنى بها في يوم كذا، وشهد الآخرون أنه زنى بها في يوم آخر.
ويشترط فيهم أن يصفوا الزنى، فيقولون مثلًا: «رأيت ذكره في فرجها كالميل في المكحلة»، وقد جاء عن النبي H أنه طلب هذا من الشهود، ولا يثبت عنه، رواه أبو داود (4417، 4440) وغيره من حديث جابر وأبي هريرة L، وصح هذا عن عمر I في مشهد من الصحابة، وأجمع
عليه العلماء.
المسألة الثالثة: ثبوت الزنى بالحبل([3]):
اختلف العلماء في لزوم الحد على المرأة بالحبل:
مذهب المالكية: أن عليها الحد، ولا يقبل منها دعوى الإكراه أو عدم الشعور، إلا ببينة تشهد لها بذلك، فالحمل يعد بينة تدل على زناها، ما دام أنه ليس لها سيد ولا زوج، وقد قال عمر I: «وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَلَى مَنْ زَنَى، إِذَا أُحْصِنَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتْ البَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الحَبَلُ، أَوْ الاعْتِرَافُ».
ومذهب جمهور العلماء: أنه لا يقام عليها الحد إلا بقيام البينة أو الإقرار، وذلك لوجود الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، فيقبل منها دعوى الإكراه أو عدم الشعور، كأن يكون نومها ثقيلًا، أو نوِّمت فما شعرت إلا وقد ذهبت بكارتها.
وما جاء عن عمر I فهو اجتهاد منه، وقد جاء عنه خلافه، فقد روى ابن أبي شيبة (5/515)، والبيهقي (8/235) أن عمر I رفع إليه امرأة حبلى فقالت: «كُنْتُ امْرَأَةً ثَقِيلَةَ الرَّأْسِ، وَكَانَ اللَّهُ يَرْزُقُنِي مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، فَصَلَّيْتُ لَيْلَةً، ثُمَّ نِمْتُ، فَوَاللَّهِ مَا أَيْقَظَنِي إلَّا الرَّجُلُ قَدْ رَكِبَنِي، فَرَأَيْتُ إلَيْهِ مُقَفِّيًّا مَا أَدْرِي مَنْ هُوَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ قَتَلْتُ هَذِهِ خَشِيتُ عَلَى الْأَخْشَبَيْنِ النَّارَ»، فلم يقم عمر I عليها الحد، وإسناده صحيح.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية V: «إذا ادعت شبهة قوية، كدعوى الإكراه أو عدم الشعور قبل منها، وإلا حُدَّت بدون شهود أو إقرار، لأن الحمل لا يكون إلا بالجماع، والمنع من الحد مطلقًا يفتح باب شر كبير وفساد».
وبهذا يجمع بين الأثرين الثابتين عن عمر I.
وهذا هو الأرجح، واختاره ابن عثيمين V.
([1]) شرح مسلم (11/158)، روضة الطالبين (7/360)، بداية المجتهد (2/435)، المغني (12/316)، المحلى مسألة (2004)، فتح الباري (14/76)، الإنصاف (10/171).
([2]) تفسير القرطبي (5/56)، (6/14)، بداية المجتهد (2/439)، المغني (12/362-372)، الإنصاف (10/190-194)، الفقه الإسلامي وأدلته (7/5375).
([3]) شرح مسلم (11/160)، بداية المجتهد (2/438، 440)، فتح الباري (14/124)، أضواء البيان (6/38)، الطرق الحكمية (ص/4)، الفقه الإسلامي وأدلته (7/5372).