وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا, فَمَنْ أَلَمَّ بِهَا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ تَعَالَى, وَلِيَتُبْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى, فَإِنَّهُ مَنْ يَبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ D». رَوَاهُ الْحَاكِمُ, وَهُوَ فِي «الْمُوْطَّإِ» مِنْ مَرَاسِيلِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
تخريج الحديث:
حديث ابن عمر L: رواه الحاكم (4/244)، والبيهقي (8/330)، والصحيح أنه عن عمرو بن دينار عن رسول الله H مرسلًا، ورواه الإمام مالك (2/825) عن زيد بن أسلم مرسلًا، فالحديث يرتقي للحسن بهما.
فقه الحديث:
المسألة الأولى: الستر على النفس:
يستحب للمسلم إذا وقعت منه هفوة أو زلة أن يستر على نفسه ويتوب بينه وبين الله D، وألا يرفع أمره إلى السلطان ولا يكشفه لأحد، لأنه هتك
لستر الله ومجاهرة بالمعصية، وقد أمر النبي H بعض من وقع في الزنى أن يتوب ويستر على نفسه، وقال H: «اِجْتَنِبُوا هَذِهِ القَاذُورَاتِ التِي
نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا –أي: القبائح التي توجب الحد-، فَمَنْ المَّ بِهَا -أي فعلها- فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِيَتُبْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى -فأمر بالاستتار مع التوبة-، فَإِنَّهُ مَنْ يَبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ –أي: يظهر لنا فعلته وجريمته- نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ –أي: الحد الشرعي-».
المسألة الثانية: سقوط الحد بالتوبة([1]):
اتفق الفقهاء على أن من تاب مما فيه الحد بعد رفعه إلى الحاكم فإن توبته لا تسقط عنه الحد، فيجب على الإمام أن يقيم عليه الحد.
واختلفوا في التوبة قبل القدرة عليه ورفعه إلى الحاكم:
فالأظهر عند الحنفية والمالكية والشافعية، ومذهب الظاهرية، ورواية لأحمد: أن الحد لا يسقط عنه، لأن في إسقاطه بالتوبة تشجيعًا للجرائم، وقد جاء ماعز I وغيره إلى النبي H وقد تابوا من الزنى، فأقام النبي H عليهم الحد، ولا دليل على إسقاط الحد عن هؤلاء بالتوبة إلا في حد الحرابة لدليل فيه.
القول الثاني: يسقط الحد عنه بتوبته قبل رفعه للحاكم والقدرة عليه، وهذا هو الراجح عند الحنابلة، وقول بعض علماء الحنفية والمالكية والشافعية، لأن فيه ترغيبًا في التوبة، والتوبة تهدم ما قبلها، وقد نص الشرع على إسقاط حد الحرابة عن التائب، فقال D: ﴿ إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبۡلِ أَن تَقۡدِرُواْ عَلَيۡهِمۡ ﴾ [المائدة: ٣٤]، فيقاس عليه بقية الحدود، بل هي أولى بالسقوط؛ لأن ضررها أخف، وقد جاء في القرآن ما يفهم منه سقوط الحد عن هؤلاء، فقال D في الزانيين: ﴿ وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فََٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآ ﴾ [النساء: ١٦]، وقال D في السارق: ﴿ فَمَن تَابَ مِنۢ بَعۡدِ ظُلۡمِهِۦ وَأَصۡلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيۡهِۚ
إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ٣٩ ﴾ [المائدة: ٣٩].
وتوبة ماعز I وغيره كانت مطهرة لهم، إلا أنهم اختاروا التطهير بالحد، لأنه أبلغ وأعظم، فأقام عليهم الحد، لأنهم أصروا عليه باختيارهم.
وهذا هو الأرجح، واختاره ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله.
المسألة الثالثة: الحدود كفارة لأصحابها([2]):
الصحيح الذي عليه جمهور العلماء: أن الحدود تكفر الذنب في الدنيا والآخرة، فتسقط عنه العقوبة في الآخرة، ففي ]الصحيحين[ أن النبي H قال لأصحابه: «تُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ
عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ».
([1]) إعلام الموقعين (2/48، 78)، (3/19، 127)، (4/398)، المحلى مسألة (2171)، الموسوعة الفقهية الكويتية (17/134)، الفقه الإسلامي وأدلته (7/5523، 5567).
([2]) الموسوعة الفقهية الكويتية (17/136)، الفقه الإسلامي وأدلته (7/5531).