المطلب الثاني: من يجب عليه صوم رمضان ومن لا يجب عليه صومه:
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: حكم صيام رمضان:
صيام رمضان واجب على المسلم البالغ العاقل المقيم الصحيح الذكر والأنثى، إلا الحائض والنفساء، بإجماع المسلمين، وركن من أركان الإسلام.
ودليله من الكتاب: قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ إلى قوله: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 183- ١٨٥].
ودليله من السنة: أحاديث كثيرة منها حديث ابن عمر قال: قال رسول ﷺ: «بني الإسلام على خمس» و ذكر منها: « ... صوم رمضان» ([1]) ([2]).
المسألة الثانية:صيام المجنون:
لا يلزمه الصوم في هذا الحال بالإجماع.
لحديث: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل»([3]).
ولأنه ليس أهلًا لفهم الخطاب والتوجيه بسبب ذهاب عقله([4]).
المسألة الثالثة: صيام الكافر:
لا يلزم عليه الصيام في حال كفره بإجماع العلماء؛ لأن الصيام عبادة تفتقر إلى النية فكان من شرطه الإسلام كالصلاة ([5]).
المسألة الرابعة: صيام الصبي والصبية:
وفيها فرعان:
الفرع الأول: هل يجب صيام الصبيان؟
وفيه خلاف يسير:
القول الأول: يجب على من بلغ عشر سنين -إن طاقه وقدر عليه-، وإن تركه لغير عذر أثم.
وهو رواية للإمام أحمد، وقول بعض الحنابلة.
وحجتهم: القياس على الصلاة؛ لأنهم يرون وجوب الصلاة على الغلام إذا بلغ عشر سنين، فكذلك هنا.
القول الثاني: يجب عليه متى أطاقه وقدر عليه، دون تحديد سن معين.
وهو رواية لأحمد، وقول بعض الحنابلة، وابن الماجشون المالكي.
دليله: ما جاء عن محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ قال: «إذا صام الغلام ثلاثة أيام متتابعة فقد وجب عليه صيام شهر رمضان»([6]).
القول الثالث: لا يجب عليهم الصوم حتى يبلغوا الحلم.
وهو قول الجمهور من العلماء، وهو المذهب عند الحنابلة.
ودليلهم: الحديث السابق: «رفع القلم عن ثلاثة: -منهم- الصبي حتى يحتلم».
وهو كذلك حتى في الصلاة فلا تجب عليهم إلا عند البلوغ حيث دل الحديث على أنهم غير مكلفين بالعبادة.
الترجيح: الراجح مذهب الجمهور؛ للحديث المذكور.
الثاني: هل يجب على الولي أن يأمر الغلام بالصيام، ويضربه على تركه؟
فيه خلاف بين العلماء:
القول الأول: لا يؤمر الصغير به لا وجوبًا ولا استحبابا، إنما يؤمر البالغ بالصيام، فلا صيام على الصبيان حتى يبلغوا الحلم.
وهو المشهور عند المالكية.
ودليلهم: أن الصوم لا يقاس على الصلاة؛ لأن الصبيان إنما أمروا بالصلاة لكثرة أحكامها وتكررها في كل يوم، فيتمرنوا عليها قبل البلوغ، ولما في الصيام من المشقة عليهم وإلحاق الضر بهم.
القول الثاني: يجب على ولي الصبي أن يأمره بالصيام لسبع سنين، ويضربه على تركه إذا بلغ عشر سنين إذا أطاق الصوم.
وهو مذهب الحنفية، والشافعية، وبعض الحنابلة.
ودليلهم: القياس على الصلاة حيث يؤمر بالصلاة لسبع سنين، ويضرب عليها لعشر([7])، فيتمرن الصبي على الصيام ويتعود عليه كما في الصلاة.
وردوا على المالكية بأن الصحابة كانوا يُصوُّمون صبيانهم في عهد رسول الله ﷺ وبعد موته.
فعن الربيع بنت معوذ ك قالت – في صيام عاشوراء-: «كنا نصومه، ونُصوُّم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار»([8]).
وجاء عن عبد الله بن أبي الهذيل أن عمر أتي برجل نشوان قد أفطر في رمضان، فلما رفع إليه عثر، فقال: «على وجهك، وصبياننا صيام» فضربه الحد، وكان إذا غضب على إنسان سيره إلى الشام، فسيره إلى الشام([9]).
القول الثالث: يجب على وليه أن يأمره بالصيام، ويضربه على تركه، ويكون الأمر والضرب عليه إذا أطاقه، ولا يحدد بسبع أو عشر.
وهو قول أكثر الحنابلة.
ودليلهم: أما الأمر بالصوم والضرب عليه فقياسًا على الصلاة فكلاهما عبادة بدنيه، وحتى يتمرن عليه ويتعوده، وأما عدم اعتبار السن فيه كما في الصلاة؛ فذلك لأن الصوم أشق فاعتبرت له الطاقة والقدرة؛ لأنه قد يطيق الصلاة من لا يطيق الصوم.
القول الرابع: يُسن لوليه أمره وضربه ولا يجب عليه.
وهو قول بعض الحنابلة.
ولعل دليل هذا القول: أنه ليس هناك دليل على أمر الولي بأمر الصبي بالصيام وضربه عليه، حتى نقول بوجوبه على وليه كما في الصلاة، لكنه يستحب للولي ذلك؛ لما فيه من مصلحة التمرن على الصيام، والتعود عليه.
القول الخامس: يؤمرون بالصوم ولا يضربون عليه.
وهو رواية للإمام أحمد، قال ابن عقيل الحنبلي: "هل يلزمه يعني الصبي ويضرب عليه؟ على روايتين" اهـ
قال ابن تيمية –معقبًا-: «فعلى هذا لا يضرب على ترك الصوم قبل الوجوب وإن ضُرب على الصلاة» اهـ ([10]).
ودليله: أن الضرب على الترك إنما جاء في الصلاة.
الترجيح: الراجح عندي: أنه يستحب لوليه أمره بالصوم، ولا يجب على الولي؛ لعدم وجود دليل شرعي يأمر الولي بذلك حتى يجب عليه، مع وجود المقتضى لأمر الشرع له بذلك، حيث إن الصيام من أركان الإسلام وعبادة متكررة سنويًا، ومع هذا لم يأت دليل يوجب على الولي أن يأمر الصبيان بصيام شهر رمضان.
ويؤمر الصبيان بالصيام كما كان الصحابة يُصوُّمون صبيانهم، وحتى يتمرنوا عليه ويعتادوه، وقد صح عن جماعة من السلف منهم: ابن سيرين، وعطاء، والزهري، وقتادة، وهشام بن عروة: أنهم قالوا: «يؤمر الصبيان بالصيام إذا أطاقوه»([11]).
وأمر الصبي بالصوم ليس له سن معينة، وإنما متى استطاع له وقدر عليه دون ضرر عليه، فإنه يؤمر به في هذه الحالة، ويختلف ذلك بحسب الأجسام والمواسم.
قال ابن عابدين الحنفي([12]): "يختلف ذلك باختلاف الجسم، واختلاف الوقت صيفا وشتاء، والظاهر أنه يؤمر بقدر الإطاقة". اهـ
وقال الشيخ ابن عثيمين: "إذا كان صغيرًا لم يبلغ؛ فإنه لا يلزمه الصوم، ولكن إذا كان يستطيعه دون مشقة؛ فإنه يؤمر به وكان الصحابة ي يصوُّمون أولادهم، حتى إن الصغير منهم ليبكي فيعطونه اللعب يتلهى بها، ولكن إذا ثبت أن هذا يضره فإنه يمنع منه"([13]) اهـ
ولا يضرب عليه الصبي؛ إذْ لا دليل على ضربه على الصوم إذا لم يبلغ الحلم بعد، ولا يقاس على الصلاة؛ لما في الصوم من المشقة بخلاف الصلاة، فليس فيها تلك المشقة، فناسب أن يضرب عليها. والله أعلم([14]).
ملاحظة: صيام غير المقيم وهو المسافر، وغير الصحيح وهو المريض، والحائض والنفساء سيأتي الكلام عليه في الفصل الثاني -إن شاء الله تعالى-.
([1]) رواه البخاري (8) ومسلم (16).
([2]) مراجع المسألة: ”المغني“ (4/323)، ”بداية المجتهد“ لابن رشد (1/283)، ”المحلى“ لابن حزم مسألة رقم (727).
([3]) حديث صحيح: رواه أحمد في ”مسنده“ (6/101، 144) وأبو داود (4398) وابن ماجة (2041) والنسائي في ”المجتبى“ (3432) و”الكبرى“ (5/265) وابن حبان في ”صحيحه“ (142) وغيرهم عن عائشة ك مرفوعًا وسنده حسن.
ورواه أحمد (1/154، 157، 116، 118). وأبو داود (4399، 4400، 4401) و النسائي في ”الكبرى“ (6/487-488) وابن حبان (143) والبيهقي (8/264) وغيرهم. من حديث علي بن أبي طالب مرفوعًا وموقوفًا وصوب النسائي في ”الكبرى“ والدارقطني في ”علله“ (3/72) وقفه وسنده صحيح.
وجاء عن جماعة آخرين من الصحابة بأسانيد ضعيفه.
انظرها في ”نصب الراية“ للزيلعي (4/161).
([4])، ”المجموع“ (6/254).
([5]) مراجع للمسألة: ”المجموع“ (6/253)، ”الفقه الإسلامي وأدلته“ للزحيلي(3/1663)، ”كشاف القناع“ (2/308)
([6]) سنده ضعيف جدًا: رواه عبد الرزاق (4/154).
([7]) حديث حسن: رواه أحمد (2/180، 187) وأبو داود (495) والبيهقي (2/229) والدارقطني (1/230). وغيرهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله ﷺ: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع» وسنده حسن.
وجاء كذلك من حديث سبرة بن معبد الجهني ا عن رسول الله ا بنحوه رواه أحمد (3/404) وأبو داود (494) والترمذي (407) والبيهقي (2/14) وغيرهم وفي سنده ضعف.
وحكم الشيخ الألباني/على الحديث بأنه صحيح لغيره كما في ”الإرواء“ (رقم/271) بهاتين الطريقين.
([8]) رواه البخاري (1960) ومسلم (1136).
([9]) إسناد رجاله ثقات: رواه البخاري معلقًا عن عمر ا في باب (صوم الصبيان)، ووصله البغوي في ”مسند ابن الجعد“ رقم (614).
([10]) كتاب الصيام من ”شرح العمدة“ (1/50).
([11])، ”مصنف عبد الرزاق“ (4/153).
([12]) في حاشيته المسماة بـ”رد المحتار على الدر المختار“(3/344)
([13])، ”فتاوى إسلامية“ لمجموعة من العلماء (2/120).
([14]) مراجع للمسألة: ”حاشية ابن عابدين“ (3/344)، ”تنوير المقالة في حل ألفاظ الرسالة“ للقيرواني المالكي (3/164)، ”المجموع“ (6/253)، ”فتح الباري“ (4/715)، ”المغني“ (4/412)، ”الإنصاف“ (3/281)”كشاف القناع“ (2/308) كتاب الصيام من ”شرح العمدة“ (1/47)، ”نيل الأوطار“ للشوكاني (3/125)، ”المحلى“ لابن حزم (4/382)، ”الفقه الإسلامي وأدلته“ (3/1664)، ”مجموع فتاوى ومقالات ابن باز“ (15/180).