المطلب الأول: الأيام التي يستحب صيامها
فيه مسائل:
المسألة الأولى: صيام ستة من شوال:
اختلف العلماء في حكم صيامها:
القول الأول: يكره صيام ستة من شوال.
وهو قول الإمام مالك، ورواية لأبي حنيفة.
دليلهم: الأول: أنه لا يعلم عن أحد من السلف أنه كان يصومها، أو يحث على صيامها، فدل ذلك على أن صيامها أمر محدث.
الثاني: مخافة أن يُلحق بصيام رمضان ما ليس منه.
الثالث: سدًّا للذريعة حتى لا يظن العامة وجوبها بالمحافظة على صيامها.
القول الثاني: يستحب صيام ستة من شوال.
وهو قول الشافعية، والحنابلة، والظاهرية، والمشهور عند الحنفية، وقول بعض المالكية.
دليلهم: حديث أبي أيوب الأنصاري ا: أن رسول الله ﷺ قال: «من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال؛ كان كصيام الدهر»([1]).
فهذا نصٌ في المسألة، فلا تترك هذه السنة الثابتة؛ لترك الناس لها.
وما نخافه من إلحاق أيام برمضان بسبب صيامها مردود بأنه قد فُصل بين رمضان وبينها بيوم العيد الذي لا يجوز صومه، كما أن النهي عن صيام يوم العيد وحده دليل على أن النهي مختص به، وأن ما بعده وقت إذن وجواز.
وقولهم: "إن العامة قد يظنون وجوبها بالمحافظة عليها" ينتقض باستحباب صوم يوم عاشوراء، وعرفة، فالجميع يقولون باستحبابه مع خشية أن يُظن العامة وجوبهما، فكذلك هنا.
وكيف يقال مثل هذا والسنة قد وردت بذكر فضل صيامها والحض عليها؟!
وقد قال ابن عبد البر: «لم يبلغ مالكًا حديث أبي أيوب هذا».
الترجيح: الراجح: مذهب الجمهور: استحباب صيام هذه الست؛ لوجود الدليل المنصوص.
فروع للمسألة:
الفرع الأول: كيف تُصام هذه الست؟ وما هو الأفضل في صيامها؟
جميع من قال باستحباب صيام هذه الست يقولون: لا فرق بين صومها متوالية، وبين صومها مفرقة، في أول الشهر، أو في آخره، أو بعضها في أوله وبعضها في آخره.
لأن الحديث ورد بها مطلقًا من غير تقييد، فظاهره جعل شوالًا كله محلًا لصومها دون اشتراط التتابع.
واختلفوا في الأفضل:
القول الأول: الجميع سواء التقديم والتأخير.
وهو الصحيح عند الحنابلة.
دليله: لأن فضيلة صيامها كونها تصير مع شهر رمضان ستة وثلاثين يومًا، والحسنة بعشر أمثالها، فتكون بذلك كصيام سنة، ومثل هذا الفضل يحصل بصيامها أول الشهر أو آخره فلا فرق.
ولأن التقديم له مزية، والتأخير كذلك، فالتقديم أرجح كونه أقرب اتصالًا برمضان، وأسرع في أداء القربة، والتأخير أرجح لكونه لا يُلحق برمضان ما ليس منه بسبب البعد، أو يجعل عيدًا ثانيًا بعدها، كما يفعله بعض الناس يفطر عيد الفطر، ثم يصوم ثاني شوال حتى ينتهي من الست، ثم يعتقد أن اليوم الذي بعدها وهو الثامن من شوال يوم عيد، وهذا اعتقاد باطل لا دليل عليه.
القول الثاني: التأخير أفضل.
وهو قول للحنفية.
دليله: حتى لا يزاد في رمضان ما ليس منه بتقديمها بعد العيد مباشرة، فيظن الناس وجوبها؛ لكونها ملحقة برمضان.
القول الثالث: الأفضل أن يصومها في أول الشهر بعد العيد مباشرة، ويصومها متتابعة.
وهو قول الشافعية، وقول للحنفية، وبعض الحنابلة، وقال بعضهم: "لعله مراد أحمد والأصحاب".
دليله: أن في ذلك مسارعة إلى الخير، وقد قال تعالى: ﴿فَٱسْتَبِقُوا۟ ٱلْخَيْرَٰتِ ۚ﴾ [البقرة: ١٤8]، ولأنه لا يدري ما يحدث له فقد يكون اليوم حيًّا وغدًا ميتًا.
الترجيح: الراجح: القول الأخير: الصيام أول الشهر بعد العيد وموالاتها هو الأرجح؛ لقوة ما ذكروه.
ورجحه ابن عثيمين وابن باز([2]).
الفرع الثاني: فضيلة اتباع صوم رمضان بصيام ستة من شوال:
فضيلته أنه كصيام الدهر كما في حديث أبي أيوب – السابق- أي كصيام السَّنة.
فلو قال شخص أنه لا فضيلة خاصة في هذا، وذلك لأنه إذا صام أيّ شهر غير رمضان وصام ستة أيام من أيّ شهر غير شوال سيكون كمن صام السنة، وذلك لأن الحسنة بعشرة أمثالها في كل عبادة، وكذلك إذا صام رمضان وستة أيام من غير شهر شوال، فلماذا اشتراط أن تكون الست من شوال؟!.
والجواب: أن المقصود من قوله: «كصيام الدهر» أي إذا صام رمضان وستة من شوال: أن ذلك كصيام السَّنة كلها فرضًا، فتتميز بهذا عن غيرها، وهذا يختص بما ورد الشرع به، فهو زائد على من صام ستة وثلاثين يومًا بغير هذه الصفة المذكورة في الحديث؛ لأنه ولو حصل على أجر صيام سنة، لكن كمن صامها نفلًا، ولا شك أن الفرض أعظم، وأحب إلى الله من النفل.
وألحقت الست من شوال بفضيلة رمضان، فتساوى رمضان في فضيلة الواجب؛ للقرب من رمضان، ولأن الرغبة للفطر في شوال أكثر؛ لأنه عقب الصوم، فالصوم حينئذ أشق فثوابه فيه أكثر.
قال بهذا الجواب بعض العلماء المحققين كابن رجب وابن حجر([3]).
الفرع الثالث: هل يلزم لحصول هذه الفضيلة صيام رمضان كاملا؟
ظاهر الحديث السابق: أنه لا بد أن يكون صام رمضان، فلو أفطر من رمضان لعذر؛ فيبدأ بقضائه في شوال، ثم يصوم الست، فيكون في هذه الحالة أتبع رمضان بستة من شوال حكمًا؛ لأن قضاء ما أفطره يقع عن رمضان، فكأنه صام جميع رمضان في وقته حقيقة.
فمن كان عليه قضاء من رمضان ثم بدأ بصيام ست من شوال تطوعًا؛ لم يحصل له ثواب من صام رمضان، ثم أتبعه بست من شوال حيث لم يكمل عدة رمضان، أما من بدأ بالقضاء ثم الست، فيصير حينئذ قد صام رمضان، وأتبعه بست من شوال.
قال بهذا بعض الشافعية، وبعض الحنابلة، ورجحته اللجنة الدائمة، والشيخ العثيمين وقال بعض الحنابلة: "لعله مراد الأصحاب".
قلت: وهو الصواب؛ لظاهر الحديث، وذلك حتى يحصل على فضل صيام الدهر كأجر وثواب صيام سنة فرضًا لا نفلًا.
ومن أفطر من رمضان لعذر ثم صام الست ولم يقض مع حرصه على القضاء من بعد، فلن يضيع أجره، ويرجى له أن ينال من الفضل الموجود في هذا الحديث.
وقد قالت اللجنة الدائمة في سؤال على هذا: «إذا التمس العبد الأجر من الله، واجتهد في طاعته؛ فإنه لا يضيع أجره، والذي ينبغي لمن كان عليه شيء من أيام رمضان: أن يصومها أولًا، ثم يصوم ستة أيام من شوال؛ لأنه لا يتحقق له اتباع صيام رمضان بست من شوال إلا إذا كان قد أكمل صيامه»اهـ
قلت: ولو لم يستطع إلا القضاء في شوال فيبدأ به ثم له قضاء الست في ذي القعدة، أو إكمالها فيه.
وكذلك من عجز عن صيام الست أو بعضها في شوال؛ لعذر كمرض، ولو لم يكن عليه قضاء من رمضان؛ فهو معذور، كما يجوز قضاء رمضان بعد رمضان لمن أفطر لعذر.
قال الشيخ ابن عثيمين: «لو لم يتمكن من صيام الأيام الستة في شوال لعذر كمرض أو قضاء رمضان كاملًا حتى خرج شوال، فهل يقضيها ويكتب له أجرها؟
الجواب: يقضيها، ويكتب له أجرها كالفرض إذا أخره عن وقته لعذر، وكالسنة الراتبة إذا أخرها لعذر حتى خرج وقتها»اهـ([4]).
المسألة الثانية: صيام يوم عرفة:
وهو اليوم التاسع من ذي الحجة والكلام عليه على حالتين.
الحالة الأولى: صيام يوم عرفة لغير الحاج:
ذهب أهل المذاهب الأربعة، والظاهرية إلى استحباب صيامه؛ لحديث أبي قتادة ا: أن رسول الله ﷺ قال: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده»([5]).
وفي رواية لمسلم سئل رسول الله ﷺ عن صوم يوم عرفة؟ فقال: «يكفر السنة الماضية والباقية».
ومعنى يكفر السنة الباقية: قيل: معناه: إذا ارتكب فيها معصية؛ جعل الله صوم يوم عرفه الماضي كفارة لها، كما جعله مكفرًا لما في السنة الماضية.
وقيل معناه: أن الله تعالى يعصمه في السنة المستقبلة عن ارتكاب المعاصي التي تحتاج إلى كفارة.
الحالة الثانية: صيام يوم عرفة للحاج:
اختلف العلماء في استحباب صومه للحاج:
القول الأول: لا يستحب للحاج صوم يوم عرفة، بل يستحب له الفطر مطلقًا، سواء كان الصوم يضعفه عن القيام بوظائف وأعمال يوم عرفة، أو كان الصوم لا يضعفه عن القيام بذلك.
وهو قول أكثر العلماء، منهم: المالكية، والمذهب عند الحنابلة، والمذهب عند الشافعية.
دليلهم: الأول: حديث أم الفضل بنت الحارث ك: «أن ناسًا تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي ﷺ، فقال بعضهم: "هو صائم"، وقال بعضهم: "ليس بصائم"، فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه»([6]).
الثاني: حديث ابن عمر م: أنه سئل عن صيام عرفة في عرفة؟ فقال: «لم يصمه رسول الله ﷺ، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان»([7]).
فَتَرْكُ رسول الله ﷺ، وأبي بكر، وعمر، وعثمان ي صيامه مع ما في صيامه من الفضيلة دليل على أن صيامه لا يستحب لأهل عرفة.
الثالث: ما جاء عن عبيد بن عمير: أن عمر ا كان ينهى عن صوم يوم عرفة([8]).
والحكمة من ترك صيامه: ليتقوى الحاج على أعمال الحج، والدعاء في هذا الموقف العظيم الذي يستجاب فيه الدعاء، فالحاج بحاجة ماسة إلى تقوية جسمه في هذا اليوم، فهو بالصوم يضعف، فيقصر في بعض وظائف هذا اليوم، فلذلك لا يستحب صيامه.
وقد جاء من حديث أبي هريرة ا: أن رسول الله ﷺ نهى عن صوم عرفة بعرفات([9]).
القول الثاني: يستحب للحاج صيامه إذا كان لا يُضعفه عن القيام بوظائف هذا اليوم، ولا يستحب إن كان يضعف عن ذلك.
وهو قول بعض السلف، والمشهور عند الحنفية، ورواية لأحمد، وبعض الشافعية.
دليله: لأن العلة من عدم الاستحباب لصومه في عرفه حصول الضعف الذي يترتب عليه التقصير ببعض أعمال هذا اليوم، فإذا قوي عليه وكان لا يضعفه؛ ذهب ما نخشاه من التقصير في أعمال هذا اليوم، وقدر على وظائفه، فالحكم يدور مع علته.
القول الثالث: يستحب له أن يصومه كغير الحاج بلا فرق.
وهو قول إسحاق بن راهويه، والظاهرية.
دليله: عموم حديث أبي قتادة – السابق- في الحث على صيامه.
وكون رسول الله ﷺ لم يصمه، فلا يدل على عدم استحباب صومه للحاج، وقد حض على صيامه، وأخبر أنه يكفر ذنوب سنتين، فربما تركه رسول الله ﷺ لأمر خاص به، وقد كان يترك العمل خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم.
وترك بعض الصحابة العمل به لا يلزم من ذلك كراهيته، فهو اجتهاد منهم، فقد كان أبو بكر وعمر يتركان صلاة الضحى والأضحية.
الترجيح: مذهب الجمهور أرجح فقد حض رسول الله ﷺ على صيامه ثم تركه في عرفة، مع وجود العلة المناسبة لتركه، وهي التقوي لأعمال ذلك اليوم، التي تعتبر أهم من الصيام في ذلك اليوم، على رأسها الإكثار من الدعاء.
وهذا له نظائر على سبيل المثال: فضل قراءة القرآن فيه أدلة مستفيضة، ومع هذا لا يجوز قراءته والإمام يخطب في الجمعة؛ لأن الاستماع هنا لخطبة الإمام في الجمعة أفضل([10]).
المسألة الثالثة: صيام العشر الأوائل من ذي الحجة:
أما بالنسبة ليوم عرفة؛ فقد مر الكلام عليه.
والكلام هنا على بقية أيام العشر دون يوم العيد ويوم عرفة.
قال ابن رجب: «ممن كان يصوم العشر ابن عمر، وذكر الحسن، وابن سيرين، وقتادة فضل صيامه، وهو قول أكثر العلماء، أو كثير منهم».
قلت: وهو الذي عليه الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية.
دليلهم: الأول: حديث ابن عباس م: عن النبي ﷺ أنه قال: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام» – يعني أيام العشر قالوا يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء»([11]).
والصوم من أفضل الأعمال الصالحة، فيدخل في الحديث، كما تدخل فيه سائر العبادات والقرب.
الثاني: ما جاء عن بعض أزواج رسول الله ﷺ: أن رسول الله كان يصوم تسعًا من ذي الحجة، وثلاثة أيام من كل شهر: اثنين وخميسين([12]).
وجاء من حديث أبي هريرة ا قال: قال رسول الله ﷺ في العشر من ذي الحجة «صيام كل يوم منها يَعدِل بصيام سنة ...»([13]).
وأما ما جاء عن عائشة ك: أنها قالت: «ما رأيت رسول الله ﷺ صائماَ في العشر قط» وفي رواية: «لم يصم العشر»([14])؛ فأجابوا عنه أنه محمول على أنه ﷺ لم يصمها: إما لعارض يعرض له كسفر أو مرض، وإما لانشغاله بما يراه أهم وأعظم من الصوم، كالغزو، والدعوة للإسلام بين الناس، واستقبال الوفود، لا أن يفهم من تركه لصومها أنها لا تشرع.
وأيضًا كون عائشة لم تره يصوم لا يلزم من ذلك عدم صيامه فيها أبدًا، فإنه كان يقسم لتسع نسوة فلعائشة يوم من التسع، فلعله لم يتفق صيامه في نوبتها خاصة.
ولو صح حديث هنيدة الخزاعي –السابق الذكر- فربما كان يصوم بعضه ويفطر بعضه، وينشغل بطاعات أخرى.
فلا يستقيم حديث عائشة كدليل يدل على إخراج الصوم من عموم العمل الصالح المرغب به في هذه الأيام.
والقول باستحباب صيام هذه العشر كباقي الأعمال الصالحة، اختارته اللجنة الدائمة، وابن باز، والعثيمين.
قلت: وهو صحيح، ولم أقف على أحد من الفقهاء قال بعدم مشروعية الصوم فيها، لكن كلام ابن رجب السابق يفهم منه وجود خلاف.
قال العثيمين: «ورجح بعض العلماء النفي». ولم يسمهم.
ويتسرع بعض الناس فيقول: "صومه بدعة؛ لأن الرسول ﷺ لم يفعله"، وهذا خطأ واضح، وسئل ابن باز عمن يقول صيامها بدعة فقال: «هذا جاهل يُعلَّم» ثم ذكر حديث ابن عباس السابق قال: «ورسول الله r قد تعرض له أمور تشغله عن الصوم» اهـ
قلت: قوله: "إنه جاهل" صحيح؛ فترك رسول الله ﷺ للصوم مع ترغيبه بالعمل الصالح والصوم منه لا يدل على أن فعله بدعة، لكن لو قال: "تركه والانشغال بغيره من العبادات أفضل، فلا شك أن رسول الله ﷺ كان يكثر من الصالحات في هذه الأيام، ولم يكن يصوم فيها، فيدل على أن غيره من الطاعات أفضل"؛ لكان له وجه.
مع أن الجواب هنا: أن أفضلية الصوم هنا لأكثر المسلمين متحققة، وربما كانت هنالك أعمال في هذه الأيام أفضل من الصوم، كالسفر فيها للحج، أو الغزو، أو الخروج دعوة، لكن هذه لا تتفق إلا لقليل من المسلمين.
تنبيه: الحاج أيضًا يستحب له صيامها كعمل صالح يدخل فيه كما يدخل فيه غيره، إلا يوم عرفة كما مر، ويوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة، ذكره بعض المالكية.
قلت: وهو صحيح، لكن يوم التروية يقيد الترك فيما إذا ضعف عن القيام بوظائف هذا اليوم، فليس معنا دليل على كراهية صومه، إنما هو تشبيه له بيوم عرفة، لكنه تشبيه مع بعض الفارق، فأعمال عرفة أكثر وأعظم وأهم، فالحج عرفة([15]).
المسألة الرابعة: صيام شهر الله المحرم:
قال العلماء -منهم: فقهاء الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة-: يستحب صيام شهر محرم؛ لما جاء عن أبي هريرة ا: أنه قال: قال رسول الله ﷺ: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل»([16]).
تنبيه: سيأتي عند الكلام على صيام شعبان الكلام عن أفضل الأشهر التي تصام بعد شهر رمضان([17]).
المسألة الخامسة: صيام يوم عاشوراء:
هذه المسألة حول حكم صيام يوم عاشوراء ثم لها فروع ستأتي عقبها.
فقد ذهب بعض الصحابة إلى عدم استحباب صيام يوم عاشوراء؛ لأن رسول الله ﷺ إنما أمر بصيامه قبل رمضان، فلما فرض صيام رمضان لم يأمر رسول الله ﷺ بصيامه.
فعن الأشعث بن قيس أنه دخل على ابن مسعود يوم عاشوراء وهو يأكل فقال له: «ادن فكل»، فقال: "إن اليوم عاشوراء"، فقال ابن مسعود: «كنا نصومه فلما نزل رمضان تُرك»([18]).
وعن ابن عمر م قال: «صام النبي ﷺ عاشوراء وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان تُرك»، وكان عبد الله بن عمر لا يصومه إلا أن يوافق صومه([19]).
وذهب جمهور العلماء إلى استحباب صيامه بعد فرضية رمضان.
فعن عائشة ك قالت: إن قريشًا كانت تصوم عاشوراء في الجاهلية، ثم أمر رسول الله بصيامه، حتى فرض رمضان، فقال رسول الله ﷺ: «من شاء فليصمه، ومن شاء أفطر»([20]).
وبنحوه من حديث معاوية ا قال: قال رسول الله ﷺ: «هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم فمن شاء فليصمه، ومن شاء فليفطر»([21]).
فصامه رسول الله بعد فرض رمضان، وأقر على بقاء صيامه لمن أحب أن يصومه.
وعن ابن عباس م قال: «ما رأيت النبي ﷺ يتحرى صيام يوم فضله الله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، ولا صيام شهر إلا هذا الشهر يعني شهر رمضان»([22]).
فبين ابن عباس م أن رسول الله ﷺ كان يتحرى صيام يوم عاشوراء يلتمس فضله، مع فريضة رمضان في نفس الوقت.
وعنه أيضًا: أن رسول الله قال: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن اليوم التاسع» قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله ﷺ([23]).
ووجه الدلالة: أن رسول الله ﷺ كان يصومه إلى آخر عام في حياته.
ولما في صومه من الفضل الكبير الذي ينبغي الحصول عليه، فعن أبي قتادة ا: أن رسول الله ﷺ قال في صوم عاشوراء: «يكفر السنة الماضية»([24]).
الترجيح: الراجح: استحباب صيامه، وما جاء من القول بعدم استحبابه انقرض القول به بعد ذلك.
فروع للمسألة:
الفرع الأول: تحديد يوم عاشوراء:
فيه خلاف يسير:
القول الأول: يوم عاشوراء: هو اليوم التاسع من محرم.
وهو قول الإمام ابن حزم، وقلة من السلف.
دليله: ما جاء عن الحكم بن الأعرج قال: انتهيت إلى ابن عباس م فقلت له: "أخبرني عن صوم عاشوراء"، فقال: «إذا رأيت هلال محرم فاعدد، وأصبح يوم التاسع صائما» قلت: "هكذا كان رسول الله ﷺ يصومه ؟" قال: «نعم»([25]).
فبين ابن عباس: أن صومه يكون في اليوم التاسع، وأن هذا فعل رسول الله ﷺ.
وأيضًا عن ابن عباس م قال: حين صام رسول الله يوم عاشوراء قالوا: "يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى"، فقال: «فإذا كان العام المقبل صُمنا اليوم التاسع»([26]).
وجه الدلالة: أن رسول الله ﷺ قرر نقل العاشر إلى التاسع.
وسمي يوم عاشوراء بناء على الليلة الآتية، وهي الليلة العاشرة، فإذا قيل: (يوم عاشوراء) فكأنه قيل: يوم الليلة العاشرة.
القول الثاني: يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من محرم.
وهو قول جمهور العلماء.
دليلهم: أن هذا مقتضى الاشتقاق والتسمية، أي: عاشوراء من عاشر، هذا هو المعروف عند أهل اللغة.
وما نقله ابن عباس عن رسول الله ﷺ، فظاهره أنه ﷺ كان يصوم العاشر، وهو يوم عاشوراء، ثم همَّ بصيام
التاسع في العام المقبل أن يضيفه إلى عاشوراء؛ لأجل مخالفة اليهود والنصارى، لا أنه أراد نقله إلى التاسع، فليس العلة في صيام عاشوراء متوفرة فيه، وهي أن يوم عاشوراء هو اليوم الذي نجى الله فيه موسى u، وأغرق فرعون وجنوده.
فعن ابن عباس م قال: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة وجد اليهود تصوم يوم عاشوراء، فسألهم رسول الله ﷺ، فقالوا: "هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه"، فقال رسول الله ﷺ: «فنحن أحق وأولى بموسى منكم» فصامه رسول الله ﷺ وأمر بصيامه([1]).
وقد جاء صريحًا عن ابن عباس م القول بصوم اليومين معًا، فقد قال ا في يوم عاشوراء: «صوموا التاسع والعاشر خالفوا اليهود»([2]).
وجاء عن ابن عباس م: أن رسول الله ﷺ أمر بصوم يوم عاشوراء العاشر من محرم([3]).
الترجيح: الراجح: ما عليه الجمهور: يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم؛ لما سبق ذكره.
الفرع الثاني: تحديد اليوم الذي يصام مع عاشوراء؛ لأجل مخالفة اليهود:
اختلفوا فيه:
القول الأول: يستحب أن يُصام يومًا قبله أو يومًا بعده.
وهو قول بعض الحنفية.
دليله: ما جاء عن ابن عباس م قال: قال رسول الله ﷺ: «صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود، وصوموا يومًا قبله، أو يومًا بعده»([4]).
القول الثاني: يستحب صوم التاسع خاصة مع العاشر.
وهو قول المالكية، والشافعية، والحنابلة، وبعض الحنفية، وغيرهم.
دليله: ما سبق عن ابن عباس في ”صحيح مسلم“ قال: قال رسول الله ﷺ : «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع» أي مع العاشر.
والغرض منه مخالفة اليهود والنصارى؛ لأن الرسول ﷺ عندما علم أنهم يعظمون يوم عاشوراء نوى صيام التاسع مع العاشر؛ لأجل المخالفة لهم، ورسول الله ﷺ وإن لم يصم التاسع لكنه نوى ذلك، ثم توفي قبل مجيء الشهر، ولا دليل على أنه يصوم يومًا بعد العاشر، إنما جاء الدليل في صوم يوم قبله.
الترجيح: الراجح: القول الثاني: استحباب تاسوعاء خاصة؛ لأنه الذي صح في الدليل.
تنبيه: إذا اشتبه على الناس وقت رؤية الهلال قال الإمام أحمد وغيره: يصومون يومًا قبله ويومًا بعده تحوطًا.
تنبيه آخر: من فاته صوم تاسوعاء؛ فله صوم الحادي عشر بدله.
قاله بعض الشافعية، وهو جيد؛ لأن الغرض المخالفة لليهود، وبه تحصل.
الفرع الثالث: لو اقتصر الشخص على صوم يوم عاشوراء فقط:
مقتضى كلام أهل المذاهب الأربعة والظاهرية أنه يصح منه، ويحصل على فضل يوم عاشوراء، ويكون مخالفًا للأفضل بتركه صوم يوم معه؛ لأن المرغب بصومه هو يوم عاشوراء خاصة، وصوم يوم معه إنما هو لأجل مخالفة أهل الكتاب، فإن تركه لم تفت فضيلة عاشوراء.
قلت: والأمر على هذا([5]).
المسألة السادسة: صيام الإثنين والخميس من كل أسبوع:
القول الأول: يكره تحري صيامها.
وهو قول الإمام مالك.
دليله: حتى لا يعتقد الجاهل وجوبها؛ بسبب التحري لصومها.
وأيضًا ضعف بعض المالكية الأحاديث التي جاءت في فضل صوم الإثنين والخميس .
القول الثاني: يستحب تحري صيامها.
قول الجمهور، منهم: الحنفية، والحنابلة، والظاهرية، وجماعة من المالكية.
دليلهم: الأحاديث التي نصت على استحباب صيامها.
كحديث عائشة ك قالت: كان رسول الله ﷺ يتحرى صيام الإثنين والخميس([6]).
وحديث أسامة بن زيد ا كان رسول الله ﷺ يصوم الإثنين والخميس، ويقول: «ذانك يومان تُعرض فيهما الأعمال، فأحب أن يُعرض عملي وأنا صائم ...»([7])
وحديث أبي قتادة ا: أن رسول الله ﷺ سئل عن صوم الإثنين؟ قال: «ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت فيه، أو أنزل علي فيه»([8]).
الترجيح: الراجح: مذهب الجمهور: استحباب صيام يومي الخميس والإثنين؛ لثبوت الأحاديث في ذلك، ويعلم الناس بأن صومهما ليس واجبًا، فيزول ما نخشاه من ظن وجوب صومهما([9]).
المسألة السابعة: صيام ثلاثة أيام من كل شهر:
المسألة هذه على صورتين:
الأولى: صيام ثلاثة أيام من كل شهر دون تخصيص الأيام بعينها:
لا يُعلم خلاف بين العلماء في استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، سواء في أوله، أو في أوسطه، أو في آخره، والأحاديث في هذا كثيرة.
منها: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص م قال له رسول الله ﷺ : «صم من كل شهر ثلاثة أيام، فذلك صوم الدهر كله»([10]).
وحديث أبي هريرة ا قال: أوصاني خليلي ﷺ بصيام ثلاثة أيام من كل شهر([11]).
وحديث أبي قتادة ا: أن رسول الله ﷺ قال: «وصيام ثلاثة من كل شهر، ورمضان إلى رمضان صوم الدهر كله»([12]).
وحديث رجل من بني أقيش معه كتاب من رسول الله ﷺ فيه: «صيام ثلاثة أيام يذهب وحر الصدر»([13]).
وحر الصدر: قيل: غشه ووساوسه، وقيل: الحقد والغيض، وقيل: العداوة، وقيل: الغضب. كما في ”النهاية“ لابن الأثير.
الثانية: صيام الثلاثة الأيام البيض في كل شهر:
وسميت بيضًا لبياض لياليها كلها لاكتمال القمر فيها، والتقدير أيام الليالي البيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر.
اختلفوا في حكم صيامها:
القول الأول: يكره تعمد صيامها بعينها على اعتقاد حصول الثواب بذلك.
وهو مذهب الإمام مالك.
دليله: أن الأحاديث الصحيحة جاءت باستحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر مطلقًا، بدون تقييدها بأيام البيض.
وأما أحاديث صيام أيام البيض خاصة؛ فهي أحاديث ضعيفة.
ولأن الرسول ﷺ كان يصوم هذه الثلاثة من أي أيام الشهر دون تخصيصها بأيام البيض.
فعن معاذة قالت: سألت عائشة ك: أكان رسول الله يصوم ثلاثة أيام من كل شهر؟ قالت: «نعم»، فقلت: من أي أيام الشهر؟ قالت: «لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم»([14]).
وأيضًا حتى لا يعتقد الجاهل وجوبها بتعمد صومها في كل شهر.
القول الثاني: يستحب تعمد صومها، واعتقاد حصول الثواب على ذلك.
وهو قول الحنفية، والشافعية، والحنابلة.
دليلهم: الأحاديث التي دلت على استحبابها.
الأول: حديث أبي ذر ا قال أمرني رسول الله ﷺ: أن أصوم من الشهر ثلاثة أيام البيض: ثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر([15]).
الثاني: حديث قتادة بن ملحان ا قال: كان رسول الله ﷺ يأمرنا أن نصوم أيام البيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة([16]).
الثالث: عن جرير بن عبد الله ا قال: قال رسول الله ﷺ: «صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، وأيام البيض: صبيحة ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة»([17]).
الرابع: عن ابن عباس م قال: كان رسول الله ﷺ لا يفطر أيام البيض في حضر ولا سفر([18])
فقد ثبت الحديث في استحباب صيام أيام البيض، وأما رسول الله ﷺ فلعله كان يصوم الثلاثة الأيام من الشهر أحيانًا في أيام البيض، وأحيانًا في غيرها من الشهر، إما لبيان الجواز وأن الأمر واسع، أو لأنه كان يعرض له ما يشغله عن مراعاة صيام أيام البيض، فرأت عائشة ك كل ذلك عنه فأطلقت، ولم تقيدها بأيام معينة.
الترجيح: القول الثاني أرجح ما دام أن أحاديث صيام أيام البيض قد ثبتت([19]).
المسألة الثامنة: صيام يوم وإفطار يوم:
المسألة هذه الكلام عليها من جهتين:
الأولى: حكم صيام يوم وإفطار يوم:
لا خلاف بين الفقهاء في استحبابه وهو صيام داود u.
فعن عبد الله بن عمرو م قال له رسول الله ﷺ: «صم يومًا، وأفطر يومًا، فذلك صيام داود u، وهو أفضل الصيام» فقال: "إني أطيق أفضل من ذلك"، فقال له رسول الله ﷺ: «لا أفضل من ذلك»([20]).
ولم ينقل عن رسول الله ﷺ أنه كان يصوم هكذا، بل كان يسرد الصوم أحيانًا، ويسرد الفطر أحيانًا، وذلك لأنه كان يتقوى بالفطر على ما هو أهم من هذا الصوم، كالجهاد وتبليغ الرسالة.
الثانية: هل صيام داود أفضل صيام النفل مطلقًا؟
فيه خلاف بين العلماء:
القول الأول: سرد الصيام وهو صوم الدهر أفضل من صيام يوم وإفطار يوم.
وهو قول جماعة من المالكية، وبعض الشافعية.
دليله: أن الأجر والثواب أكثر؛ لأن صوم الدهر أكثر عملًا، فيكون أكثر أجرًا، وما كان أكثر أجرًا وثوابًا فهو أفضل وأكمل، وهذا مع إفطار يوم العيدين وأيام التشريق – كما سيأتي-.
وأما حديث عبد الله بن عمرو م: «أن صيام يوم وإفطار يوم أفضل الصوم»؛ فهذا في حق من يضعف عن صوم السرد؛ فهو خاص بعبد الله بن عمرو، ومن كان على شاكلته ممن يتضرر بسبب صوم السرد، أو يُفوت بسببه حقًّا واجبًا عليه.
القول الثاني: صوم يوم وإفطار يوم أفضل الصيام مطلقًا.
وهو قول الحنفية، والحنابلة، والظاهرية، وبعض الشافعية، وبعض المالكية.
دليلهم: حديث عبد الله بن عمرو م فهو صريح بكون صوم يوم وإفطار يوم أفضل الصوم، فقد قال له رسول الله ﷺ: «أفضل الصيام صيام داود u» وقال أيضًا: «ولا أفضل منه».
وفي البخاري (1131) ومسلم (8/38) قال لعبد الله بن عمرو: «وأحب الصيام إلى الله صيام داود» وهذا يقتضي ثبوت الأفضلية مطلقًا، فهو أحب الصيام إلى الله، وأما سرد الصوم فهو يُضعف البدن، ويضعف الشخص عن أداء الواجبات؛ لهذا جاء النهي عنه كما سيأتي.
الترجيح: الراجح: القول الثاني: صوم داود أفضل الصيام لمجيء النص فيه([21]).
فائدة: قال ابن رجب: «لا يضر تفريق الصوم والفطر أكثر من يوم ويوم، إذا كان القصد به التقوي على ما هو أفضل من الصيام، من أداء الرسالة، وتبليغها، والجهاد عليها، والقيام بحقوقها، وكان صوم يوم وإفطار يوم يضعفه عن ذلك»([22]).اهـ
المسألة التاسعة: صيام شعبان:
الكلام على هذه المسألة من جهتين:
الأولى: حكم صيام شهر شعبان:
القول الأول: يستحب صيامه.
وهو قول الحنفية، والمالكية والشافعية وجماعة من الحنابلة.
دليلهم: حديث عائشة قالت: «ما رأيت رسول الله ﷺ استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان»([23]).
وفي رواية لمسلم: «لم أره صائمًا من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان كان يصوم شعبان كله إلا قليلا».
وحديث أم سلمة قالت: «لم يكن رسول الله ﷺ يصوم من السنة شهرًا تامًا إلا شعبان يصل به رمضان»([24]).
والمراد من قول أم سلمة: «شهرًا تامًا إلا شعبان»، وفي بعض حديث عائشة: «شعبان كله»، أي: معظم شعبان، كما جاء أيضًا في بعض طرق حديث عائشة: «يصوم شعبان إلا قليلًا» ويجوز في لغة العرب أن يطلق على من صام أكثر الشهر أنه صامه كله، من باب التغليب، كما يقال: قمت ليلة، ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره.
القول الثاني: لا يذكر أكثر الحنابلة استحباب صيام شعبان.
وحملوا ما جاء عن رسول الله ﷺ أنه صام شعبان مع رمضان: أن هذا كان أحيانًا، وليس على سبيل المداومة.
الترجيح: الراجح: استحباب الصوم في شعبان؛ لفعل الرسول ﷺ، وسيأتي فيما بعد الكلام على صيام النصف الثاني من شعبان.
فائدة: الحكمة من إكثاره ﷺ من صوم شعبان:
فيه أقوال:
والصحيح: لأنه شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وشهر يغفل عنه الناس، كما جاء عن أسامة بن زيد ا: أنه قال لرسول الله ﷺ: لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: «ذاك شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم»([25]).
فرفع الأعمال فيه؛ أي: أعمال العام جملة، ويغفل عنه الناس؛ لأن قبله رجب من الأشهر الحرم، وبعده رمضان فيشتغل الناس بهما عنه.
الثانية: هل صيام شهر شعبان أفضل من صيام أي شهر آخر غير رمضان؟
القول الأول: صيام شعبان أفضل من صيام أي شهر آخر غير رمضان.
قاله ابن رجب الحنبلي.
ودليله: وذلك لقربه من رمضان فهو قبل رمضان مباشرة، فهو بمثابة السنة الراتبة مع الفريضة، والسنة الراتبة تلتحق في الفضل بالفرائض، وهي تكملة لنقص الفرائض، والسنة الراتبة أفضل من السنة المطلقة؛ لالتحاقها بالفرض؛ لهذا كان رسول الله ﷺ أكثر ما يصوم في شعبان، ولم ينقل عنه الإكثار من صيام شهر محرم، وذلك لأن صيام شهر شعبان أفضل من غيره حتى شهر محرم، وذلك لأنه كالراتبة القبلية لرمضان، وكذلك مثل صيام ستة من شوال فهو كالنافلة الراتبة البعدية لرمضان.
ويكون صيام محرم أفضل من ناحية التطوع المطلق بالصيام، أما بالمقارنة مع شعبان؛ فصيام شعبان أفضل؛ لأنه ملحق برمضان، كرواتب الصلاة المكتوبة أفضل من نفل الصلاة المطلقة عند أكثر العلماء.
وقد جاء من حديث أنس أن رسول الله ﷺ سئل: أي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: «شعبان تعظيمًا لرمضان»([26]).
القول الثاني: صيام شهر محرم أفضل من صيام أي شهر آخر حتى شعبان غير رمضان.
وهو قول الشافعية، والحنابلة.
ودليله: لنص الحديث السابق في مسألة صيام محرم، قال رسول الله ﷺ: «أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم»([27]).
وكون رسول ﷺ كان يصوم شعبان أكثر منه كما يفهم من حديث عائشة وأم سلمة؛ فليس معناه: أن صومه أفضل من صوم شهر محرم، فلعل رسول الله ﷺ كان يترك صيامه؛ لعذر كمرض أو سفر، أو لانشغاله بما هو أهم في ذلك الوقت، من غزو، ودعوة للتوحيد، أو أن أفضلية صوم محرم إنما شرعت متأخرة، فلم يتمكن من المداومة على صيام محرم.
الترجيح: الراجح: الثاني لنص الحديث.
وكلام ابن رجب قوي جدًّا، لكنه محل احتمال، وعلى كل صيام هذين الشهرين أفضل من غيرهما من أشهر السنة ما عدا رمضان([28]).
([1]) رواه البخاري (2004) ومسلم (1130).
([2]) سنده صحيح: رواه عبد الرزاق (4/287)، والطحاوي في ”شرح معاني الآثار“ (2/78).
([3]) سنده ضعيف: رواه الترمذي (755)، عن الحسن البصري، عن ابن عباس، والحسن لم يسمع من ابن عباس، كما نص عليه جماعة من الحفاظ، كما في ”جامع التحصيل“ (ص/196).
([4]) سنده ضعيف: رواه أحمد (1/241)، وابن خزيمة (2095)، والبيهقي (4/287)، وغيرهما.
وضعفه الألباني كما في التعليق على ”صحيح ابن خزيمة“.
([5]) ”فتح باب العناية“ (1/580)، ”حاشية ابن عابدين“ (3/300/302)، ”حاشية الدسوقي“ (2/139)، ”مواهب الجليل“ (3/314)، ”البحر الرائق“ (2/408)، ”المجموع“ (6/383)، ”فتح الباري“ (4/771)، ”النجم الوهاج“ (3/356)، ”المغني“ (4/441)، ”الإنصاف“ (3/346) كتاب الصيام من ”شرح العمدة“ (2/569)، ”المحلى“ المسألة/رقم/793).
([6]) سنده صحيح: رواه أحمد (6/80، 89)، والنسائي (4/203)، وابن ماجة (1739)، وغيرهم.
وفي سنده بعض الاختلاف الذي لا يقدح في ثبوت الحديث، وقد صححه الألباني في ”الإرواء“ (4/105)، وحسن سنده شيخنا مقبل الوادعي في كتابه ”الجامع الصحيح“ (2/443).
([7]) سنده حسن: رواه أحمد (5/201)، والنسائي (4/202)، وغيرهما.
وله طرق أخرى إلى أسامة بن زيد فيها ضعف.
انظرها في ”مسند أحمد“ (5/200، 204)، وأبي داود (2433)، وابن خزيمة (2119).
ورقى الألباني بها الحديث إلى الصحة كما في ”الإرواء“ (948).
([8]) رواه مسلم (8/42).
([9]) مراجع: ”فتح باب العناية“ (1/580)، ”المنتقى شرح الموطأ“ (2/76)، ”المجموع“ (6/386)، ”المغني“ (4/445)، ”المحلى“ مسألة رقم (791)، ”مواهب الجليل“ (3/318).
([10]) رواه البخاري (1979) ومسلم (1159)
([11]) رواه البخاري (1981) ومسلم (721).
([12]) رواه مسلم (1162)
([13]) سنده صحيح: رواه أحمد (5/77)، وصححه شيخنا الوادعي في ”الجامع الصحيح“ (2/443).
([14]) رواه مسلم (1160).
([15]) رواه أحمد (5/150، 162)، والنسائي (4/222، 223) وابن خزيمة (2127) والترمذي (761) والبيهقي (4/294).
([16]) رواه أحمد (4/165و5/27) وأبو داود (2449) والنسائي (4/222) وابن ماجة (1707).
([17]) رواه النسائي (4/221)
([18]) رواه النسائي (4/199).
وكل هذه الأحاديث لا تخلوا من ضعف عندي لكن بمجموعها ترتقي إلى الحسن لغيره على أقل أحوالها، وتدل على أن صيام أيام البيض له أصل.
وقد حسن الألباني سند حديث ابن عباس وأبي ذر وجرير، كما في ”الصحيحة“ (580)، و”الإرواء“ (947).
([19]) مراجع: ”فتح باب العناية“ (1/580) و”حاشية ابن عابدين“ (3/301) المنتقى شرح الموطأ (2/77)، ”حاشية الدسوقي“ (2/141)، ”المجموع“ (6/385)، ”فتح الباري“ (4/748)، ”الإنصاف“ (3/342) كتاب الصيام ”شرح العمدة“ (2/587)، ”المحلى“ مسألة رقم/791).
([20]) رواه البخاري (1976) ومسلم (1159)
([21]) مراجع: ”البحر الرائق“ (2/408)، ”فتح باب العناية“ (1/582)، ”مواهب الجليل“ (3/376)، ”حاشية الخرشي“ (3/53)، ”المفهم“ للقرطبي (3/227)، ”فتح الباري“ (4/741، 744)، ”شرح مسلم“ للنووي (8/34)، ”النجم الوهاج“ (3/362)، ”لطائف المعارف“ (ص/309)، ”الإنصاف“ (3/342)، ”المحلى“ مسألة رقم/790)، ”المغني“ (4/445).
([22]) ”لطائف المعارف“ (ص/309).
([23]) رواه البخاري (1969) ومسلم (8/31).
([24]) سنده صحيح: رواه ابن أبي شيبة (2/285)، وأحمد (6/311)، والترمذي (7/603)، وابن ماجة (1648).
وصححه الألباني في ”صحيح الترمذي“ (588).
([25]) سنده حسن :رواه أحمد (5/201) والنسائي (4/202)، وحسنه الألباني في ”الإرواء“ (948).
([26]) سنده ضعيف: رواه الترمذي (663)، وابن أبي شيبة (2/346)، وأبو يعلى (3421)، والبيهقي (4/305)، وضعفه الألباني في ”ضعيف الترمذي“ (104).
([27]) رواه مسلم (1163).
([28]) الفتاوى الهندية (1/202)، ”مواهب الجليل“ (3/319)، ”المجموع“ (6/387)، ”فتح الباري“ (4/732)، ”النجم الوهاج“ (3/365)، ”الإنصاف“ (3/345، 347)، ”كشاف القناع“ (2/340، 338) لطائف المعارف (ص/307). ”الاستذكار“ لابن عبد البر (10/240).
([1]) رواه مسلم (1164).
([2]) مراجع للمسألة والفرع الأول: ”حاشية ابن عابدين“ (3/375)، ”فتح باب العناية“ (1/581) ”الاستذكار“ (10/257)، ”حاشية الدسوقي“ (2/141)، ”المجموع“ (6/379)، ”المغني“ (4/438)، كتاب الصيام ”شرح العمدة“ (2/559)، ”الإنصاف“ (3/343)، ”الممتع“ (6/465)، ”فتاوى ابن باز“ (15/390)، ”لطائف المعارف“ لابن رجب (ص/489).
([3]) مراجع: ”مغني المحتاج“ (1/602)، ”مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح“ (4/544)، ”الإنصاف“ (3/344)، ”فيض القدير“ للمناوي (6/161)، ”النجم الوهاج“ (3/359)، ”حاشيتا قليوبي وعميرة“ (2/118)، ”لطائف المعارف“ (ص/493).
([4]) مراجع: ”مغني المحتاج“ (1/602)، ”حاشيتا قليوبي وعميرة“ (2/118)، لطائف المعارف (ص/497)، ”كشاف القناع“ (2/338)، ”الإنصاف“ (3/344)، ”فتاوى اللجنة الدائمة“ (10/392)، ”فتاوى ابن باز“ (15/392)، ”الممتع“ (6/466).
([5]) رواه مسلم (1162).
([6]) رواه البخاري (1988) ومسلم (1123).
([7]) حسن لغيره: رواه أحمد (2/47، 73)، وعبد الرزاق (4/285)، والترمذي (751)، والنسائي في ”الكبرى“ (2838، 2839)، والطبري في ”تهذيب الآثار“ (596) في مسند عمر بن الخطاب من طريقين عن ابن عمر فيهما ضعف يرتقي الحديث بهما إلى الحُسن، وصححه الألباني في ”صحيح الترمذي“ (659).
([8]) سنده صحيح: رواه النسائي في ”الكبرى“ (2845) في باب النهي عن صوم يوم عرفه.
([9]) سنده ضعيف: رواه أحمد (2/304)، وأبو داود (2440)، والنسائي في ”الكبرى“ (2843)، وابن ماجة (1732)، والبيهقي (4/284).
([10]) مراجع ”حاشية ابن عابدين“ (3/301)، ”بدائع الصنائع“ (2/79)، ”فتح باب العناية“ (1/581)، ”مواهب الجليل“ (3/311)، ”حاشية الدسوقي“ (2/139)، ”المجموع“ (6/380)، ”المغني“ (4/440، 444)، ”الإنصاف“ (3/344)، ”المحلى“ مسألة رقم/793).
([11]) رواه البخاري (969).
([12]) رواه أحمد (5/271)، وأبو داود (2437)، والنسائي (4/219)، والبيهقي (4/284)، وغيرهم، من طريق الحر بن صالح، عن هنيدة بن خالد الخزاعي، عن امرأته عن بعض أزواج النبي ﷺ والسند صحيح إلى هنيدة..
وله طريق أخرى صحيحة إلى الحر عن هنيدة بن خالد سمعت أم المؤمنين تقول: كان رسول الله يصوم من كل شهر ثلاثة أيام أول اثنين وخميسين» رواه النسائي (4/220) و”الكبرى“ (2736). وهنا صرح بسماعه هو من أم المؤمنين – ولم يسمها- ولم يذكر صيام التسع من ذي الحجة.
وله طريق ثالثة ثابتة إلى هنيدة قال: عن أمه عن أم سلمة كان يأمر رسول الله بصيام ثلاثة أيام: الخميس والإثنين والإثنين. رواه أحمد (6/289)، وأبو داود (2452)، والنسائي (4/220)، والبيهقي (4/295)، وغيرهم وهنا الواسطة أمه وأيضًا ليس فيه ذكر العشر من ذي الحجة.
وهناك طرق أخرى ضعيفة إلى هنيدة لا داعي لها.
قلت: والاضطراب في السند والمتن حاصل، وضعفه شعيب الأرناؤط بهذا الاضطراب، كما في تحقيقه لـ”مسند أحمد“ (5/271).
وهنيدة اختلف في صحبته والأقرب أنه تابعي صدوق.
وأمه وامرأته ذكر ابن حجر أنهما صحابيتان، كما في الإصابة (3/612).
والاضطراب قد يمكن الخلاص منه بترجيح أقوى الطرق، وهي هنا طريق هنيدة عن امرأته به.
لكن لا دليل على إثبات صحبة امرأته وأمه.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/196): «فيه أم هنيدة لم أعرفها»اهـ .
وضعف الحديث الزيلعي في ”نصب الراية“ (2/157).
وصحح الألباني طريق هنيدة عن امرأته عن بعض أزواج رسول الله ﷺ، وطريق هنيدة سمعت أم المؤمنين وجعله من المزيد من متصل الأسانيد. كما في ”صحيح أبي داود“ (2106).
([13]) إسناده ضعيف جدًا: رواه الترمذي (758)، وابن ماجة (1/551)، وضعفه الألباني في ”ضعيف الترمذي“ (123).
([14]) رواه مسلم (1176).
([15]) مراجع: ”الفتاوى الهندية الحنفية“ (1/201)، ”مواهب الجليل“ (3/312)، ”حاشية الدسوقي“ (2/139)، ”المجموع“ (6/386)، ”شرح مسلم“ للنووي (8/58)، ”المحلى“ مسألة رقم 794)، ”الإنصاف“ (3/345) لطائف المعارف (ص/583)، ”فتاوى اللجنة الدائمة“ (10/385)، ”فتاوى ابن باز“ (15/417)، ”الممتع“ (6/469).
([16]) رواه مسلم (1163).
([17]) مراجع: ”الفتاوى الهندية“ (1/202)، ”حاشية الدسوقي“ (2/139)، ”المجموع“ (6/387)، ”الإنصاف“ (3/345).
([18]) رواه مسلم (1127).
([19]) رواه البخاري (1892)، وروى مسلم (1126) الموقوف منه مع متن آخر.
([20]) رواه البخاري (1893) ومسلم (1125).
([21]) رواه البخاري (2003) ومسلم (1129).
([22]) رواه البخاري (2006) ومسلم (1132)
([23]) رواه مسلم (1133).
([24]) رواه مسلم (1162).
([25]) رواه مسلم (1133).
([26]) رواه مسلم (8/11).