الخميس ، ٢٣ يناير ٢٠٢٥ -

الرئيسية

المقالات العامة

المبحث الأول: حكم النكاح

المبحث الأول: حكم النكاح
2

مقدمة الشيخ/ محمد بن عبد الله الإمام

الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

أما بعد:

فبين يدي كتاب:

(الجامع لمسائل النكاح والعشرة بين الزوجين وتعدد الزوجات)

لمؤلفه المبارك الشيخ الفقيه/ توفيق بن محمد البعداني ـ حفظه الله ـ وهذا الكتاب من أَنفس ما أُلف في هذا الباب، ومن أجمع ما كتب فيه، ومن أحسن ما بسطت فيه المسائل وتوسط في الكلام فيها، فليس بالمطول الممل ولا بالمختصر المخل، بل هو صالح لا شية فيه.

والمؤلف ـ حفظه الله ـ متجرد مع الدليل والقول السديد والراجح في المسائل، فترجيحات المؤلف محل اعتبار وقبول إلا ما لا يسلم منه بشر.

يسر الله طباعته ونشره والاستفادة منه.

ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وكتبه/ محمد بن عبد الله الإمام

في 20/11/1437هـ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد:

فقد جعل الله E إيجاد الكيان البشري بعد خلق آدم من الزوج والزوجة، وأوجب لكل منهما حقوقا على الآخر لكي تكون الحياة الزوجية مستقرة، تتحقق فيها المودة والألفة والسكنة والمحبة والتعاون بين الزوجين.

قال تعالى: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَجَعَلَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا لِيَسۡكُنَ إِلَيۡهَا ﴾ [الاعراف: ١٨٨].

وقال تعالى: ﴿ وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗ وَرَحۡمَةًۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ ٢١ ﴾ [الروم: ٢١] 

وقال تعالى: ﴿ وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبۡ لَنَا مِنۡ أَزۡوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعۡيُنٖ ﴾ [الفرقان: ٧٤].

وللزواج فوائد ومصالح كثيرة، منها:

بقاء النسل، تكوين الأسرة، إيجاد الولد، حفظ الفرج، حصول العفاف، حصول الأنس والسكنة والمتعة للزوجين، حصول الأجر والثواب من الله E، فقد قال H: «في بضع أحدكم صدقة»([1])، تكثير سواد الأمة؛ فالبيان لمسائله وأحكامه الشرعية له أهمية عظيمة في حياة المسلمين سواء منهم المتزوجين أو الذين لم يتزوجوا بعد؛ إذ لا يمكن لأحد أن يستغني عن الزواج وهو سليم البنية مستقيم الفطرة.

ومن نظر في حال المسلمين وجد الأخطاء تقع منهم في كثير من المسائل والأحكام والآداب المتعلقة بالزواج الإسلامي.

وقد قمت بكتابة هذا المؤلف المبارك الذي أسميته:

(الجامع لمسائل النكاح والعشرة بين الزوجين وتعدد الزوجات)

الذي لا شك في نفعه وإفادته لمن قرأه واطلع عليه.

وهو كتاب فقهي مقارن مدعم بالدليل الشرعي والترجيح، فأذكر فيه المذاهب الفقهية الأربعة المعروفة وأضيف إليها في كثير من المسائل مذهب الظاهرية، وأحيانا أذكر معها أقوال بعض السلف، وكثيرا ما أذكر آراء بعض كبار علماء العصر، وقد أقتصر على ذكر بعض المذاهب الأربعة لا جميعها إذا صعب عليَّ العثور على أقوال لأصحاب المذاهب الأخرى، وأعتمد في نقل أقوال كل مذهب على كتبهم إلا إذا لم أعثر على قول لأصحاب هذا المذهب في كتبهم فإني أنقل قولهم في المسألة من كتب غيرهم إذا أمكن ذلك.

وأذكر أدلة أصحاب المذاهب في المسألة وأقوم بتخريج الأحاديث والآثار مع بيان حالها من الصحة أو الحسن أو الضعف ما وجدت إلى ذلك سبيلا.

ثم أذكر الراجح عندي من هذه الأقوال، وقد أضيف بعض الفوائد أو التنبيهات لبعض المسائل، وأذكر المصادر والمراجع التي أخذت منها المسألة عند ذكر عنوان المسألة في البداية، وقد أضيف بعض المراجع في ثنايا المسألة أو عند ذكر بعض الفوائد أو التنبيهات.

وهذا الكتاب يحتوي على خمسة فصول، وكل فصل يحتوي على عدة مباحث، وكل مبحث يحتوي على أكثر من مسألة، وبعض هذه المسائل أذكر في آخرها بعض الفوائد أو التنبيهات المتعلقة بها وبعض المسائل تحتوي على أكثر من مسألة، لكني أجمعها في مسألة واحدة لمصلحة أراها.

هذا وأسأل من الله العلي العظيم أن يجعل عملي في هذا الكتاب خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين، وأن يديم نفعه إلى آخر الزمان، كما أسأله E أن يكتب لي الأجر والمثوبة ولوالدي ولأهلي ولكل من قرأ في هذا الكتاب أو نقل منه بغرض الاستفادة والتفقه في الدين.

والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه أبو مالك

توفيق بن محمد بن نصر البعداني

دار الحديث ـ معبر ـ اليمن

10/11/1437هـ

 


([1]) رواه مسلم (1006).

المبحث الأول: حكم النكاح

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: تعريف النكاح ومشروعيته([1])

 

النكاح لغة: الضم والتداخل.

شرعا: عقد يتضمن إباحة الاستمتاع بالمرأة بلفظه المطلوب.

فقوله: (عقد) أي: اتفاق بين طرفين.

وقوله: (إباحة) أي: بعد أن كان محرما.

وقوله: (الاستمتاع بالمرأة) يشمل الوطء ومقدماته.

وقوله: (بلفظه المطلوب) أي: بلفظ نكاح أو تزويج أو معناهما.

والأصل في مشروعيته: الكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب، فقوله تعالى: ﴿ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ [النساء : ٣].

وأما السنة، فكحديث عبد الله بن عمرو بن العاص I قال رسول الله H: «الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة»([2]).

وأجمع العلماء على أن النكاح مشروع.

المسألة الثانية: الأصل في حكم النكاح([3])

تمهيد: حكم النكاح يختلف باختلاف الأحوال فتنطبق عليه الأحكام التكليفية الخمسة، فقد يكون واجبا، وقد يكون محرما، وقد يكون مستحبا أو مكروها أو مباحا فقط، كما سيظهر لنا إن شاء الله من خلال المسائل الآتية.

وقد اختلف العلماء في الأصل في حكم النكاح ـ مع قطع النظر عن أحوال الناكحين ـ هل هو الوجوب، أم الندب، أم الإباحة؟ أي: إنها تكون الحالة الغالبة عند أكثر الناس، وقد يُخرج عن حكم هذا الأصل لسبب:

القول الأول: الأصل فيه الوجوب، فيجب على من له شهوة وقدر على النكاح، ولو لم يخش على نفسه الوقوع في المحظور.

وهو مذهب الظاهرية وهو رواية للإمام أحمد، وهو مقتضى كلام الحنفية في الأصح عندهم، فقد قالوا عنه في هذه الحالة: سنة مؤكدة على الأصح، فيأثم بتركه، إلا أنهم لا يسمونه واجبا. ورجح هذا القول الشيخ العثيمين.

دليل هذا القول: الأول: حديث ابن مسعود I قال رسول الله H: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء»([4]). فهذا أمر للشباب بالزواج، والأصل في الأمر الوجوب.

ومعنى: (الباءة) في الحديث أي: القدرة على مؤن النكاح. وقال بعضهم: يشمل مؤن النكاح والقدرة على الوطء. وينتقض الثاني بقوله في الحديث: «فمن لم يستطع فعليه بالصوم».

الثاني: حديث أنس I في الرجال الذين جاءوا يسألون أمهات المؤمنين رضي الله عنهن عن عبادة النبي H، فقال أحدهم: لا أتزوج النساء أبدا، فقال H: «ولكني أتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»([5]).فأنكر بشدة على من أراد ترك الزواج وتبرأ منه.

الثالث: حديث أنس I قال: كان النبي H يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهيا شديدا، ويقول: «تزوجوا الودود الولود إني مكاثر الأنبياء يوم القيامة»([6]). فقد نهى عن التبتل والانقطاع عن النساء وترك النكاح، والنهي عند الإطلاق يقتضي التحريم.

الرابع: حديث «تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم»([7]).

الخامس: حديث عكاف بن وداعة I أن رسول الله H قال له: «هل لك من زوجة؟» قال: لا قال: «ولا جارية» قال: ولا جارية قال: «وأنت موسر بخير» قال: وأنا موسر بخير قال: «أنت إذا من إخوان الشياطين، لو كنت من النصارى كنت من رهبانهم، إن من سنتنا النكاح، شراركم عزابكم»([8]).

القول الثاني: الأصل فيه الاستحباب فيستحب لمن له شهوة وقدر على النكاح أن يتزوج ولو أمن على نفسه من الوقوع في المحظور.

وهو مذهب المالكية، والمذهب عند الحنابلة، وقول بعض الحنفية وبعض الشافعية ونقله بعضهم عن جمهور العلماء، واختارت هذا القول اللجنة الدائمة في السعودية برئاسة ابن باز.

ودليلهم: أن الشارع أمر به، ولما فيه من المصالح العظيمة كإعفاف النفس وتكثير النسل المسلم، ولا يصل إلى الوجوب لوجود أدلة تقتضي عدم القول بوجوبه وهي:

الأول: قوله تعالى: ﴿ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ ﴾ [النساء : ٣].

والشاهد في الآية من وجهين:

الوجه الأول: أن الله أمر بالنكاح وعلقه على الاستطابة، والواجب لا يقف على الاستطابة.

ورُد بأن المراد بقوله: «ما طاب» أي: الحلال من النساء.

والوجه الثاني: أنه خير بينه وبين ملك اليمين، وملك اليمين غير واجب بالإجماع، فيكون النكاح غير واجب أيضًا لأنه لا يقع التخيير بين واجب ومندوب.

ورُد بأن معناه: أن القادر على النكاح الواجب في حقه الزواج أو التسري.

الثاني: قوله تعالى: ﴿ وَٱلَّذِينَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَٰفِظُونَ ٥ ﴾ [المؤمنون : ٥] ولا يقال في الواجب: إن فاعله غير ملوم وإنما يقال في المباح.

الثالث: أنه أقام الصوم مقام النكاح لمن لم يقدر على النكاح كما في حديث ابن مسعود السابق، والصوم ليس بواجب فدل على أن النكاح ليس بواجب أيضا؛ لأن غير الواجب لا يقوم مقام الواجب.

ورُدَّ بأنه لا مانع أن يقول القائل: أوجبت عليك كذا فإن لم تستطع فأندبك إلى كذا.

الرابع: أن الصحابة M كان منهم من لم يتزوج ولم يُنكر عليه، والصحابة فتحوا البلاد ونقلوا ما جل ودق من الفرائض ولم يذكروا من جملتها النكاح.

والرد على أصحاب القول الأول كالتالي:

أولا: الأمر بالتزويج في حديث ابن مسعود هو أمر للاستحباب فقط، أو يُقال: إنه للوجوب لكنه في حق من يخشى على نفسه الوقوع في الفاحشة بتركه ويوضحه ذكره للغرض من الأمر بالنكاح بقوله: «إنه أغض للبصر وأحصن للفرج».

ثانيا: حديث أنس في إنكاره H على من قال: لا أتزوج النساء، بأن الحديث ليس فيه الإنكار على التارك للنكاح بل على الراغب عنه إعراضا عنه ولا شك أن الراغب عن السنة المستهين بها يستحق الإنكار عليه.

ثالثا: نهيه عن التبتل إنما هو للكراهة فقط أو في حق من يخشى على نفسه الوقوع في المحذور لتركه الزواج أو في حق من رغب عن الزواج أو في حق من قصد التشبه بالنصارى الذين يعرضون عن النكاح رهبانية.

رابعا: في أمره بالزواج لأجل تكثير المسلمين؛ فالجواب عليه: أن المقصود منه تكثير المسلمين بالطريق الشرعي وعدم انقطاعهم وهذا يحصل بفعل بعض المسلمين فلا يستفاد منه أن يكون النكاح واجبًا عينيا.

خامسا: حديث عكاف بن وداعة سنده ضعيف ـ كما مر ـ فلا يُعتمد عليه.

القول الثالث: الأصل في النكاح أنه مباح، فليس هو من العبادات والقُرب، إلا إن قصد به طاعة من ولد صالح أو إعفاف فيكون مستحبا.

وهو المذهب عند الشافعية.

ودليلهم: أنه يصح من الكافر أيضًا ولو كان عبادة لما صح منه.

ورُدَّ بأنه يصح من الكافر وليس هو منه عبادة ويصح من المسلم وهو منه عبادة، لأن رسول الله H أمر به المسلم والعبادة تتلقى من الشرع، والنكاح منها.

واختلف الشافعية في الأفضل له إذا لم يقصد بتركه التخلي للعبادة في هذه الحالة، فالأصح عندهم أن الأفضل له التزوج لكيلا يفضي به الفراغ إلى الوقوع في الفاحشة، فيستحب له التزوج في هذه الحالة.

والوجه الثاني عندهم: أن تركه أفضل لخشية التقصير في القيام بواجباته.

الترجيح: الراجح أن الأصل فيه الاستحباب كما قاله أهل المذهب الثاني، فهو أرفع من المباح لأمر الشرع به، ودون الواجب لإمكانية الرد على قائله. وقد يقال: إن ما ذهب إليه الشافعية ـ في الأصح عندهم ـ يوافق هذا القول كما يظهر وقد صرح بعض الشافعية بهذا، فقال: أصله الندب، وتعبير بعضهم بالإباحة مراده: عدم الوجوب([9]).

قلت: وقد لا يستبعد القول بوجوب المبادرة بالزواج في هذا العصر لشدة الفتن فيه وكثرتها. وسيأتي الكلام على حكمه في (حكم من خاف على نفسه الوقوع بالفاحشة).

المسألة الثالثة: ترك من له شهوة للنكاح مع قدرته عليه لأجل التخلي للعبادة مع أمنه من الوقوع في المحظور([10]).

هذه المسألة فيها خلاف عند أهل المذاهب:

القول الأول: الأفضل له ترك النكاح لأجل التفرغ لنوافل العبادة.

وهو المذهب عند المالكية والمذهب عند الشافعية ورواية للإمام أحمد.

دليلهم: الأول: أن الله سبحانه مدح يحيى بن زكريا S بقوله: ﴿ وَسَيِّدٗا وَحَصُورٗا ﴾ [ال عمران: ٣٩]. والحصور: الذي لا يأتي النساء مع القدرة على الإتيان.

الثاني: قوله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ ﴾ [ال عمران: ١٤] وهذا في معرض الذم.

الثالث: أن النكاح وسيلة لتحصيل بعض القربات كإعفاف النفس وتكثير المسلمين والنوافل قربان في ذاتها والمقاصد مقدمة على الوسائل.

القول الثاني: النكاح أفضل له من التخلي لنوافل العبادة.

وهو قول الحنفية والمذهب عند الحنابلة وقول بعض المالكية وبعض الشافعية.

دليلهم: الأول: أن رسول الله H أمر به وحض عليه كما سبق من حديث ابن مسعود I.

الثاني: أن هذا هو الذي فعله رسول الله H وأصحابه وهم أكثر الناس حرصا على العبادة ولا يشتغلون إلا بالأفضل.

الثالث: أن النبي H نهى عن التبتل وهو هنا ترك النكاح والانقطاع عن النساء انقطاعا إلى عبادة الله فعن سعيد بن أبي وقاص I قال رد رسول الله H على عثمان بن مضعون التبتل ولو أذن له لاختصينا([11]).

ومن حديث أنس I في نهيه H عن التبتل ـ سبق تخريجه ـ وفي إنكاره على من قال: لا أتزوج النساء أبدا. وتبرؤه منه ـ سبق تخريجه ـ.

الرابع: ما في النكاح من فوائد كثيرة ومصالح عظيمة يجزم من وقف عليها بأن النكاح أفضل من التخلي لنوافل العبادة.

وما ذكر عن يحيى S فهو شرعه، وشرعنا على خلافه، والاستدلال بحال رسولنا H أولى، وأيضًا قال بعض المفسرين: مدح يحيى S بأنه حصور، ليس معناه: أنه لا يأتي النساء، بل معناه: أنه معصوم عن الفواحش والقاذورات، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن.

الترجيح: الراجح: القول الثاني، التزوج أفضل له ويكفي الاستدلال له بحال أفضل العُباد وخيرهم: رسول الله H.

فائدة: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كانت العبادات فرض كفاية كالعلم والجهاد قدمت على النكاح إن لم يخش العنت. قال البعلي: وما قاله أبو العباس ـ يعني: ابن تيمية ـ ظاهر إن قلنا أن النكاح سنه[12]. اهـ

قلت: وهو وجيه، فالواجب الكفائي أقوى من المستحب وعند التعارض يقدم الأقوى مع أن الزواج في الحقيقة لا يشغل عن العلم والقيام بالدعوة إلى الله بل هو معين عليه لما فيه من سكون النفس([13]).

المسألة الرابعة: من قدر على النكاح واحتاج إليه وكان ذا شهوة لكنه لا يخشى على نفسه الوقوع في المحظور([14]).

وهذا كأن تكون نفسه تاقت للنكاح أو يريد منه مزيد تحصين أو يرجو من ورائه نسلا أو الاستعانة به على المصالح الدنيوية أو الأخروية، فهذا مقدم على نوافل العبادة عند عامة الفقهاء من أهل المذاهب، ثم جمهورهم على استحباب النكاح في هذه الحالة وغيرهم على وجوبه كما مر معنا في المسألة الثانية.

والراجح: أنه لا يجب أيضًا في هذه الحالات وإن كان الاستحباب قد يزداد في بعضها عن بعضها بحسب الغرض والمصلحة من هذا الزواج.

المسألة الخامسة: من قدر على النكاح وخاف على نفسه الوقوع في الزنا إذا تركه([15]).

اختلف العلماء فيه: هل يصير الزواج واجبًا في حقه أم لا؟

القول الأول: يستحب له الزواج في هذه الحالة ولا يجب عليه.

وهو المذهب عندا لشافعية.

دليلهم: الأدلة التي سبق ذكرها في المسألة الثانية والتي دلت على عدم وجوب النكاح هنالك يستدل بها على عدم وجوب النكاح مطلقا سواء خاف على نفسه العنت ـ ألزنا ـ أم لا.

القول الثاني: يجب عليه الزواج في هذه الحالة ما دام أنه لا يمكنه الأمان من الوقوع في الزنا إلا به.

وهو مذهب جمهور العلماء منهم المالكية والحنفية والحنابلة ووجه للشافعية واختارته اللجنة الدائمة في المملكة العربية السعودية.

دليلهم: الأول: حديث ابن مسعود السابق وفيه: أن رسول الله H أمر بالزواج وبين علة هذا الأمر وهي لأجل التحرز من الوقوع في المحظور فقد قال فيه: «فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج».

الثاني: أن الامتناع من الزنا واجب وما دام أنه لا يمكنه الامتناع منه إلا بالنكاح فيكون النكاح واجبًا فما لا يتوصل إلى الواجب إلا به يكون واجبًا أيضًا.

الترجيح: الراجح مذهب جمهور أهل العلم أنه يجب عليه الزواج في هذه الحالة سواء تيقن من الوقوع في الفاحشة بتركه أم غلب على ظنه ذلك.

تنبيه: إن كان يندفع ما يخشاه من الوقوع في الفاحشة بمثل التسري ـ ملك اليمين ـ أو الصوم فلا يجب النكاح عندهم حينئذ.

وقال الشوكاني: وإن كان يندفع بمثل الصوم أو السفر أو التقليل من طعامه وشرابه أو أكل غير ما فيه دسومة من الأطعمة لم يجب عليه النكاح لإمكان دفع المعصية بدونه([16]).

قلت: وهو صحيح فالحكم يدور مع علته وجودا وعدما فيجب مع وجودها ولا يجب مع فقدها.

المسألة السادسة: إذا خشي الوقوع في محظور أخف من الزنا.

أي: أن يقع في معصية دون الزنا بسبب تركه للنكاح وجب عليه المبادرة بالزواج ما دام أن له قدرة عليه، لأنه يجب عليه ترك المعصية فإذا لم يتمكن من تركها إلا بالنكاح يكون النكاح في حقه واجبا، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، قال ابن عابدين: وكذا فيما يظهر لو كان لا يمكنه منع نفسه عن النظر المحرم أو عن الاستمناء بالكف فيجب التزوج وإن لم يخف الوقوع في الزنا([17]).

وقال الشوكاني V: قد علم بنصوص الكتاب والسنة وبإجماع الأمة أن الزنا حرام وكذلك ما يؤدي إليه وما هو مقدمة له فمن خشي على نفسه الوقوع في هذا وجب عليه دفعه عن نفسه فإن كان لا يندفع إلا بالنكاح وجب عليه ذلك([18]).

وقال العثيمين: ويجب النكاح إذا كان الرجل قوي الشهوة ويخاف على نفسه من المحرم إن لم يتزوج فهنا يجب عليه أن يتزوج لإعفاف نفسه وكفها عن الحرام([19]). وذكر حديث ابن مسعود I السابق.

وقال ابن قدامة: من يخاف على نفسه الوقوع في محظور إن ترك النكاح، فهذا يجب عليه النكاح في قول عامة الفقهاء؛ لأنه يلزمه إعفاف نفسه، وصونها عن الحرام، وطريقه النكاح([20]).

وظاهر كلامه هذا يشمل كل محظور من زنا أو مقدماته ونحوه قول القرطبي إن حديث ابن مسعود في الشاب الذي يخاف الضرر على نفسه ودينه من العزبة بحيث لا يرتفع عنه إلا بالتزويج وهذا لا يختلف في وجوبه عليه([21]).

وسئلت اللجنة الدائمة عن شاب وقع كثيرا بالنظرات المحرمة. فقالت: يجب على الشاب أن يتزوج إذا خاف على نفسه الفتنة وكانت عنده القدرة المالية على الزواج([22]).

المسألة السابعة: حكم النكاح في حق من ليست له نية طاعة منه.

أي: إن نيته فقط قضاء الشهوة فليست نيته امتثال الأمر به أو تحصين النفس أو اتقاء الوقوع في المحظور أو تكثير الموحدين من المسلمين أو تحصيل الأجر باجتناب الحرام أو الاكتفاء بالحلال أو أي معنى شرعي آخر كما هو حال أكثر الناس في هذا الزمان.

فهذا يكون النكاح في حقه مباحا فقط ولا يثاب عليه فالأعمال بالنيات، قال ابن عابدين الحنفي: والظاهر أنه إذا لم يقصد إقامة السنة بل قصد مجرد التوصل إلى قضاء الشهوة ولم يخف شيئا لم يثب عليه إذ لا ثواب إلا بالنية فيكون مباحا أيضًا كالوطء لقضاء الشهوة لكن لما قيل له H: إن أحدنا يقضي شهوته فكيف يثاب فقال ما معناه: أرأيت لو وضعها في محرم أما كان يعاقب فيفيد الثواب مطلقا إلا أن يقال المراد في الحديث قضاء الشهوة لأجل تحصين النفس وقد صرح في الأشباه بأن النكاح سنة مؤكدة فيحتاج إلى النية وأشار بالفاء إلى توقف كونه سنة على النية. ثم رأيت في الفتح قال وقد ذكرنا أنه إذا لم يقترن بنية كان مباحا لأن المقصود منه حينئذ مجرد قضاء الشهوة ومبنى العبادة على خلافه([23]).

وقال الشيخ ابن عثيمين: وينبغي لمن تزوج ألا يقصد قضاء الشهوة فقط، كما هو مراد أكثر الناس اليوم، إنما ينبغي له أن يقصد بهذا التالي:

أولاً: امتثال أمر النبي ـ O.

ثانياً: تكثير نسل الأمة؛ لأن تكثير نسل الأمة من الأمور المحبوبة إلى النبي ـ O.

ثالثاً: تحصين فرجه وفرج زوجته، وغض بصره وبصر زوجته، ثم يأتي بعد ذلك قضاء الشهوة([24]).

المسألة الثامنة: إذا قدر على مؤن النكاح لكنه فقير يعجز عن الإنفاق عليها.

والمرد هنا: معرفة حكم النكاح في حقه فننقل ما عند أهل المذاهب فيه:

فعند الحنفية: من لم يقدر على النفقة فلا يجب في حقه الزواج ولا يسن له ولو خاف على نفسه الوقوع في الزنا فالنفقة حق العبد والمنع من الزنا حق من حقوق الله تعالى وحق العبد مقدم عند التعارض لاحتياج العبد وغنى المولى تعالى.

ومقتضى كلامهم: أن النكاح يكره في هذه الحالة([25]).

وعند المالكية: يحرم الزواج على من لم يخف على نفسه العنت ـ الزنا ـ وكان يضر بالمرأة لعدم قدرته على النفقة أما إذا خاف على نفسه العنت فيجب عليه النكاح ولو أدى لضرر الزوجة بعدم النفقة عليها وهذا من باب ارتكاب أخف الضررين([26]).

وقال الشافعية: من تتوق نفسه إلى النكاح ولا يقدر على المهر والنفقة فالمستحب له أن لا يتزوج بل يتعاهد نفسه بالصوم فإنه له وقاية ولا يشغل ذمته بالمهر والنفقة([27]).

والذي عليه الحنابلة في المذهب عندهم ونص عليه الإمام أحمد أن الفقير العاجز عن الإنفاق يستحب له النكاح كالقادر على الإنفاق فقد كان رسول الله H يتزوج النساء وهو في حالة فقر شديد وقد زوج رسول الله H رجلا لم يقدر على خاتم من حديد ولا وجد إلا إزارا([28])، ولأن التزوج أحصن له والنفقة سيغنيه الله من فضله.

وقال بعض الحنابلة: لا يستحب له النكاح إنما يستحب في حق القادر([29]).

الترجيح: الراجح ما ذهب إليه الإمام أحمد أنه يستحب له النكاح كالقادر فقد كان رسول الله H يأمر الشباب بالزواج ولا يقيده بمن كان قادرًا على الإنفاق وإنما يقتصر على تقييده بالقدرة على مؤن النكاح كما في حديث ابن مسعود I: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج...».

المسألة التاسعة: من احتاج للنكاح لكنه لا يقدر على مؤنه وحكم الصوم عليه.

الواجب عليه تقوى الله واجتناب المحرمات والاستعفاف قدر الإمكان عملا بقوله تعالى: ﴿ وَلۡيَسۡتَعۡفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغۡنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ﴾ [النور : ٣٣].

كما أنه يؤمر بالصوم، فقد قال رسول الله H: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج... فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء»([30]).

ومعنى: «عليه بالصوم» أي: المواظبة عليه والإكثار منه قدر الاستطاعة.

وتظهر فائدة الصوم في هذا المجال من وجوه:

الوجه الأول: قطع الشهوة لأن شهوة النكاح تابعة لشهوة الأكل فتتقوى بقوتها وتضعف بضعفها.

وعدل في الحديث عن قوله فعليه بالجوع وقلة ما يزيد الشهوة إلى ذكر الصوم لأن ما جاء لتحصيل العبادة أولى فصومه لهذا القصد صحيح ويثاب عليه فيجتمع للإنسان في هذا عبادة الصوم وتقليل الشهوة.

الوجه الثاني: يكسر الشهوة لإضعافه القوة وتخفيفه الرطوبة التي يتولد منها المني.

الوجه الثالث: يُضعف مجاري العروق ويجففها فبذلك تضعف مجاري الشيطان لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.

الوجه الرابع: أن الصوم يكون فيه هذا السر والنفع لهذا المرض ولو أكل وشرب كثيرا إذا كانت نيته صحيحة فيكون علاجا روحانيا.

ومعنى قوله: «فإنه له وجاء» أي: أن الصوم يقطع الشهوة ويدفع شر المني كما يفعله الوجاء. والوجاء في الأصل هو رض الخصيتين ودقهما بحجر أو نحوه لتضعف الفحولة.

والقول بأنه يزيد في الشهوة فإن ذلك إذا صام أياما قلائل أما إذا أكثر منه انكسرت شهوته([31]).

وأما بالنسبة لحكم الصوم لمن أراد النكاح وعجز عن مؤنه، ففيه تفصيل:

فإن كان يخشى على نفسه الوقوع في محظور ولا يستطيع دفعه إلا بالصوم فالظاهر أن الصوم يكون واجبًا في حقه فقد أمر به رسول الله H، ومن باب: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإن كان لا يستطيع الصوم فلا يجب عليه. قال القرافي: إن كان يخشى الزنا فإن كان يذهبه الصوم وجب أحد الثلاثة على التخيير: النكاح أو التسري أو الصوم([32]).

وقال الحطاب المالكي: إن كان لا يقدر على التزويج ولا يقدر على نكاح الأمة أيضًا فيتعين عليه الصوم([33]).

والظاهر أنه قول اللجنة الدائمة في المملكة العربية السعودية والشيخ ابن عثيمين فقد قالت اللجنة الدائمة لأحد السائلين: الواجب عليك إذا لم تستطع الزواج تقوى الله C، ومراقبته وغض بصرك والصيام قدر استطاعتك، وأفضل الصيام أن تصوم يوما وتفطر يوما، وهو صيام نبي الله داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام([34]).

وقال ابن عثيمين: وقوله في الحديث «فعليه بالصوم» أي: فيلزم الصوم([35]).

ولم أقف على من قال بوجوب الصوم إلا من سبق ذكرهم وظاهر كلام غيرهم أنه أمر للندب فقط([36]).

وأما إن كان يحتاج للزواج كما لو تاقت نفسه له لكنه لا يخشى على نفسه الوقوع في المحظور بتركه فلا يجب عليه الصوم حينئذ وإنما يستحب فقط وكذلك إذا خشي الوقوع في المحظور وأمكنه دفعه بغير الصوم فلا يجب الصوم عليه أيضًا كاستخدام أدوية لتخفيف الشهوة دون ما يقطعها أصالة([37])، إلا إذا كانت تضر بالإنسان فلا تجوز([38]).

المسألة العاشرة: حكم التزوج لمن عجز عن مؤن النكاح والاستدانة لأجل الزواج.

لا يجب النكاح على من عجز عن مؤنه وتكاليفه عند عامة الفقهاء([39]).

وأما الاستدانة لأجل التزوج في هذه الحالة فإن كان يظن من نفسه القدرة على الوفاء بدينه إما بما سيأتيه وإما بتكسب وسعي وكان في نفس الوقت يتيقن من نفسه الوقوع في المحظور إذا ترك التزوج فتجب عليه الاستدانة لأجل التزوج فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ومن باب ارتكاب أخف الضررين، وإن كان يأمن على نفسه من الوقوع في المحظور فتستحب له الاستدانة ولا تجب والله تعالى سيعينه على الوفاء ما دام أن نيته التحصين والتعفف.

وأما من كان يظن من نفسه عدم القدرة على الوفاء فهذا تكره له الاستدانة وقد تحرم لخطورة تحمل الدين ولما فيه من إلزام النفس بما لا قدرة لها عليه، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَلۡيَسۡتَعۡفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغۡنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ﴾ [النور : ٣٣]. قال ابن عابدين: وينبغي حمل ما ذكر من ندب الاستدانة على ما ذكرنا من ظنه القدرة على الوفاء وحينئذ فإذا كانت مندوبة عند أمنه من الوقوع في الزنا فينبغي وجوبها عند تيقن الزنا([40]).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن لا مال له: هل يستحب أن يقترض ويتزوج؟ فيه نزاع في مذهب الإمام أحمد وغيره. وقد قال تعالى: ﴿ وَلۡيَسۡتَعۡفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغۡنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ﴾ [النور : ٣٣]([41]).

ونقل صالح بن الإمام أحمد عن والده أنه قال: يقترض ويتزوج([42]).

وقالت اللجنة الدائمة في السعودية لسائل يخشى الوقوع في الزنا ولا يقدر على الزواج: إن تيسر لك أن تستدين وتتزوج مع القدرة مستقبلا على تسديد الدين فافعل إعفافا لفرجك([43]).

المسألة الحادية عشر: حكم النكاح لمن يعجز عن الجماع([44]).

وهذا يشمل من ليس له قدرة على الجماع من أصل الخلقة كالعنين ومن له قدرة عليه في الأصل لكنها ذهبت لعارض من مرض أو كبر أو غيره.

وفي حكم النكاح له خلاف بين العلماء:

القول الأول: يستحب له النكاح كالقادر على الجماع.

وهو وجه للحنابلة.

دليلهم: عموم الأمر بالنكاح فيشمل الجميع.

القول الثاني: يكره له النكاح والحالة هذه.

وهو مذهب الشافعية ووجه للحنابلة ومقتضى كلام الحنفية.

دليلهم: الأول: أنه يُعرض نفسه لواجبات وحقوق ـ لعله لا يتمكن من القيام بها ـ من غير حاجة كافية.

الثاني: يمنع زوجته من التحصين بغيره ويضر بها.

القول الثالث: يباح له النكاح إذا أعلمها بعيبه ورضيت ولا نقول إنه يكره في حقه أو يستحب.

وهو قول المالكية والصحيح عند الحنابلة.

دليلهم: أنه لما كان لا يُحصَّل به مصالح النكاح الأساسية من تحصين أو قضاء شهوة أو حصول على ولد لم يكن مستحبا له والأدلة التي فيها الأمر بالنكاح تحمل على من له شهوة كما هو الظاهر منها ففي حديث ابن مسعود I أمر رسول الله H بالتزوج. وعلله بقوله: «فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج» ولا يكون مكروها أيضًا لأن الشرع لم ينه عنه ولأن مقاصد النكاح لا تنحصر في الجماع فحقه أن يكون مباحا.

الترجيح: الراجح أنه يباح فقط لقوة ما اعتمد عليه القائلون بهذا القول، إلا أنه ربما ارتقى للندب إذا أمكن من ورائه تحقيق مصلحة أقوى من مفسدة نكاحه كأن يُرجى منه نسلٌ مع حالته هذه وربما نزل إلى الكراهة إذا ترتب عليه تفويت مندوب كقطعه عن نوافل العبادة بسبب الاشتغال بحقوق الزوجة كما نص عليه علماء المالكية.

تنبيه: أهل الظاهر يقولون بعدم وجوب النكاح عليه في هذه الحالة([45]).

المسألة الثانية عشر: حكم النكاح للمرأة([46]).

الذي صرح به المالكية والشافعية والحنابلة أن حكم النكاح للمرأة كحكمه للرجل، فالأمر في قوله H: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج...» يشمل الذكور والإناث، فعليه إذا خافت على نفسها الوقوع في الفاحشة بسبب تركه وجب عليها التزوج كما قاله المالكية والحنابلة.

وقال ابن حزم: ليس النكاح واجبًا على النساء لقوله تعالى: ﴿ وَٱلۡقَوَٰعِدُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ ٱلَّٰتِي لَا يَرۡجُونَ نِكَاحٗا ﴾ [النور : ٦٠] فعليه: لا تلحق المرأة ـ عنده ـ بالرجل في حكم النكاح.

والصحيح: أن المرأة مأمورة بالنكاح كالرجل إما وجوبا وإما استحبابا بحسبه، فيجب عليها التزوج متى خافت على نفسها الفتنة فالعلة واحدة وهي الخوف من ارتكاب المحرم فعليها البدار بالتزوج إذا تيسر لها الخاطب الكفءُ([47]).

المسألة الثالثة عشر: هل يسقط الأمر بالتزوج بفعله مرة واحدة في العمر؟

الذي يفهم من كلام الفقهاء ـ كما في المراجع السابقة ـ أن الأمر للشخص بالنكاح باقي في مجموع العمر فإذا لم توجد الزوجة فيؤمر بالتزوج وجوبا أو استحبابا بحسب حاجته. وقد صرح به جمهور الحنابلة.

وقال بعض الحنابلة: يكتفي بمرة واحدة في العمر ويسقط الأمر له بالنكاح بعد ذلك([48]). ونقله بعض العلماء عن الظاهرية([49]).

الترجيح: الراجح أن الأمر بالنكاح لا يسقط بمرة واحدة في العمر، بل هو في مجموع العمر فكلما وجدت علة الأمر وجد الأمر به.

المسألة الرابعة عشر: من أمره والداه أو أحدهما بالتزوج.

قال الحنابلة: يجب عليه التزوج لوجوب بر والديه وليس لهما إلزامه بنكاح من لا يريد نكاحها لعدم حصول الغرض بها فلا يكون عاقا بمخالفتهما في ذلك كأكل ما لا يريد أكله([50]).

المسألة الخامسة عشر: صور يحرم فيها النكاح.

الأولى: أن يتيقن من نفسه الظلم والجور لمن سيتزوج بها([51]).

الثانية: أن ينوي بالتزوج بها الإضرار بها([52]).

 

 

 

([1]) مراجع: حاشية ابن عابدين (4/52)، فتح الباري (10/129)، مغني المحتاج (3/159)، المغني (6/339، 340)، الفقه الإسلامي وأدلته (9/6513)، الشرح الممتع (12/5).

([2]) رواه مسلم (1467).

([3]) مراجع: فتح القدير (3/187)، حاشية ابن عابدين (4/56)، المبسوط للسرخسي (2/813)، بدائع الصنائع (2/228)، بداية المجتهد (2/3)، مواهب الجليل من أدلة خليل (3/14)، المفهم للقرطبي (4/82)، الذخيرة للقرافي (4/190)، نهاية المطلب (12/26)، النجم الوهاج (7/11)، مغني المحتاج (3/162)، فتح الباري (10/138)، المجموع شرح المهذب (17/205)، المغني (9/341) الإنصاف (8/7)، المحلى مسألة (1819)، فتاوى اللجنة الدائمة (18/12) مرقاة المفاتيح للقاري (6/263)، الفقه الإسلامي وأدلته (9/6517)، شرح صحيح مسلم للعثيمين (4/580).

([4]) رواه البخاري (5065)، ومسلم (1400).

([5]) رواه البخاري (5063)، ومسلم (1401).

([6]) سنده حسن: رواه أحمد (3/158)، وابن حبان (4028)، والبيهقي (7/81) وغيرهم.

([7]) ضعيف: جاء من حديث عائشة J، رواه ابن ماجه (1846)، وسنده ضعيف جدا.

ومن حديث أبي أمامة رواه البيهقي (7/78)، وسنده ضعيف. ومن حديث ابن عمر، أخرجه صاحب مسند الفردوس، قاله ابن حجر في تلخيص الحبير (3/133) وسنده ضعيف جدا. وجاء عن سعيد بن أبي هلال عن رسول الله H به، رواه عبد البرزاق (10391) وسنده ضعيف جدا، لكن ثبت عن جماعة من الصحابة M أن رسول الله H قال: «تزوجوا الودود الولود فإنه مباهى بكم الأمم» وسيأتي تخريجه قريبا.

([8]) ضعيف: رواه عبد الرزاق (10387)، وأحمد (5/164)، وأبو يعلى (6856)، والطبراني في مسند الشاميين (381) وغيرهم، وكل طرقه لا تخلو من ضعف واضطراب كما قاله الحافظ ابن حجر في الإصابة (2/495).

([9]) حاشية قليوبي وعميرة (3/313).

([10]) مراجع: فتح باب العناية (2/4)، فتح القدير (3/189)، الذخيرة (4/190)، النجم الوهاج (7/11) شرح مسلم للنووي (9/149-151)، المغني (9/341)، الإنصاف (8/15)، تفسير ابن كثير، سورة آل عمران، آية (39).

([11]) رواه البخاري (5073)، ومسلم (1402).

[12] الاختيارات الفقهية للبعلي (ص/202).

([13]) انظر فتاوى اللجنة الدائمة (18/39).

([14]) مراجع: حاشية الدسوقي (3/4)، الذخيرة (4/190)، المجموع شرح المهذب (17/206)، مغني المحتاج (3/163)، فتح الباري (10/138)، النجم الوهاج (7/9)، المغني (6/341).

([15]) مراجع: بدائع الصنائع (2/228)، حاشية ابن عابدين (4/55)، الذخيرة (4/189)، حاشية الدسوقي (3/3)، شرح مسلم (10/148)، طرح التثريب للعراقي (7/4)، النجم الوهاج (7/12)، المغني (6/340)، الإنصاف (8/9).

([16]) السيل الجرار (2/243).

([17]) حاشية ابن عابدين (4/55).

([18]) السيل الجرار (2/243).

([19]) رسالة صغيرة بعنوان (الزواج) (ص/12).

([20]) المغني (9/341).

([21]) المفهم لما أشكل من تخليص كتاب مسلم (4/82).

([22]) فتاواها (18/19).

([23]) حاشية ابن عابدين (4/57).

([24]) الشرح الممتع (12/9).

([25]) انظر حاشية ابن عابدين (4/56-57).

([26]) انظر حاشية الدسوقي (3/3)، ومواهب الجليل من أدلة خليل (3/14).

([27]) انظر المجموع شرح المهذب (17/205).

([28]) رواه البخاري (5087)، ومسلم (1425) من حديث سهل بن سعد I.

([29]) انظر كشاف القناع (5/6)، والإنصاف (8/7).

([30]) سبق تخريجه.

([31]) يراجع لما سبق: الذخيرة (4/190)، طرح التثريب (7/8)، المغني (9/344)، مرقاة المفاتيح (6/262)، إعلاء السنن للتهانوي (8/3634)، شرح مسلم للعثيمين (4/581).

([32]) الذخيرة (4/189).

([33]) مواهب الجليل (5/19).

([34]) فتاوى اللجنة الدائمة (18/33).

([35]) شرح مسلم (4/581).

([36]) إكمال المعلم (4/523).

([37]) فتح الباري (10/139).

([38]) شرح مسلم للعثيمين (4/582).

([39]) مراجع: حاشية ابن عابدين (4/7)، حاشية الدسوقي (3/4)، روضة الطالبين (5/363)، الإنصاف (8/11)، المحلى مسألة (1819).

([40]) حاشية ابن عابدين (4/54).

([41]) مجموع الفتاوى (32/6).

([42]) كشاف القناع (5/6).

([43]) فتاوى اللجنة الدائمة (18/22).

([44]) مراجع: حاشية ابن عابدين (4/57)، مواهب الجليل (5/20)، حاشية الدسوقي (3/3)، روضة الطالبين (5/363)، مغني المحتاج (3/163)، المغني (9/343)، الإنصاف (8/8)، كشاف القناع (5/6)، الفقه الإسلامي وأدلته (9/6517).

([45]) المحلى المسألة (1819).

([46]) مراجع: النظر في أحكام النظر لابن القطان (ص/398)، مواهب الجليل (5/20)، طرح التثريب (7/6)، مغني المحتاج (3/162)، الإنصاف (8/12)، كشاف القناع (5/7)، الموسوعة الفقهية الكويتية (41/217)، فتاوى اللجنة الدائمة (18/30).

([47]) مجموع فتاوى ابن باز (20/422).

([48]) الإنصاف (8/12)، كشاف القناع (5/7).

([49]) شرح مسلم للنووي (9/148).

([50]) الإنصاف (8/14)، كشاف القناع (5/7).

([51]) حاشية ابن عابدين (4/57).

([52]) تسهيل الإلمام للفوزان (4/305).

2 قراءة
فتاوى الشيخ
المصحف الشريف
مع التفسير
الأكثر زيارة
آخر الإضافات
تهنئة