المبحث الثالث: الكفاءة في النكاح
فيه مسائل:
المسألة الأولى: معنى الكفاءة وضابطها([1]).
الكفاءة في اللغة: المماثلة والمساواة.
وفي الاصطلاح: مساواة الرجل للمرأة في صفات معينة يوجب فقدها نقصا وعارا للمرأة وأوليائها.
وضابطها: أن ينطبق على الرجل والمرأة اسم تلك الصفة المعتبرة في الكفاءة كاسم الشرف واسم المال واسم الدين وإن كان أحدهما أعلى درجة من الآخر، فالمفضول كفء للأفضل والمشروف كفء للأشرف والصالح كفء للأصلح، لأنهما قد اشتركا في أصل ذلك المعنى فلا يلزم أن يكونا بقدر واحد متساوي فيما يُعد كفاءة وذلك لأنه لا يلحق المرأة وأولياءها عار وضرر في هذه الحالة. وقد نقل بعض أهل العلم اتفاق العلماء على هذا كله.
المسألة الثانية: خصال الكفاءة([2]).
أي: الصفات التي تعتبر فيها المماثلة والمساواة بين الرجل والمرأة بحيث يكون الرجل بها كفئا للمرأة.
وقد اختلف العلماء في أي شيء تعتبر الكفاءة:
القول الأول: الكفاءة المعتبرة تكون في الدين والنسب والصناعة وهذا قول جمهور العلماء.
دليلهم: أما الدين، فقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكَٰتِ حَتَّىٰ يُؤۡمِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢١]. وقوله: ﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤۡمِنٗا كَمَن كَانَ فَاسِقٗاۚ لَّا يَسۡتَوُۥنَ ١٨ ﴾ [السجدة : ١٨]. وقوله: ﴿ أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ كَٱلۡمُفۡسِدِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ نَجۡعَلُ ٱلۡمُتَّقِينَ كَٱلۡفُجَّارِ ٢٨ ﴾ [ص : ٢٨].
فالمشرك أو الفاجر أو الفاسق لا يكافئ المسلمة العفيفة الصالحة، فالمشرك خارج من الملة والفاسق أو الفاجر مرذول غير مأمون على الدين والنفس والمال ناقص عند الله وعند خلقه، فليحق المرأة والأسرة الصالحة عار ونقص بالموافقة على الرجل الفاسق أو الفجر أو المبتدع.
وأما النسب، فدليل اعتباره الآتي:
الأول: حديث عائشة J قالت: قال رسول الله H: «تخيروا لنطفكم فانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم»([3]).
الثاني: حديث جابر I قال: قال رسول الله H: «لا تنكحوا النساء إلا الأكفاء ولا يزوجهن إلا الأولياء»([4]).
الثالث: ما جاء عن عمر بن الخطاب I أنه قال: لأمنعن فروج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء([5]).
الرابع: حديث: «العرب بعضهم أكفاء لبعض والموالي بعضهم أكفاء لبعض»([6]).
الخامس: أن التفاخر يقع بسبب النسب ولأنه يلحق المرأة وأولياءها نقص إذا تزوجت المرأة بمن هو دونها بالنسب.
واختلفوا في كيفية حصول الكفاءة بالنسب:
الاختيار الأول: بنو هاشم لا يكافئهم إلا هاشمي فقط وقريش لا يكافئهم إلا قرشي فقط والعرب أكفاء لبعض ولا تكافئهم العجم.
وهو اختيار الشافعية في الصحيح عندهم وهو رواية لأحمد.
دليلهم: حديث واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله H: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم فأنا خيار من خيار»([7]).
والشاهد: أن العرب فضلت على الأمم برسول الله H وقريش أخص به من سائر العرب وبنو هاشم أخص به من قريش.
الاختيار الثاني: قريش ـ الهاشمي وغيره ـ أكفاء لبعضهم ولا يكافئهم غير القرشي، والعرب ـ من غير قريش ـ أكفاء لبعض ولا يكافئهم العجم، والعجم أكفاء لبعض.
وهو اختيار الحنفية ووجه للشافعية.
دليلهم: أما كون قريش جميعهم أكفاء لبعض فلأن رسول الله H زوج ابنتيه رقية ثم أم كلثوم بعد وفاة رقية بعثمان بن عفان I وهو قرشي أموي لا هاشمي وزوج علي بن أبي طالب I ابنته أم كلثوم بنت فاطمة بعمر بن الخطاب وهو قرشي عدوي لا هاشمي فدل على أن الكفاءة في قريش لا تختص ببطن دون بطن.
والعرب لا تكافئ قريشًا لفضيلة قريش على سائر العرب.
والعجم لا تكافئ العرب لكون رسول الله H منهم فكان العرب أفضل.
الاختيار الثالث: العرب جميعهم من قريش وغيرها أكفاء لبعض ولا يكافئهم العجم، والعجم أكفاء لبعضهم.
وهو اختيار الحنابلة في الصحيح عندهم.
دليلهم: أما كون العرب كلهم سواء فلأن نساء من قريش تزوجت بعرب غير قرشيين فزوج رسول الله H زينب بنت جحش وهي قرشية وأمها هاشمية بزيد بن حارثة وهو مولى كلبي، وكذلك زوج فاطمة بنت قيس وهي قرشية بأسامة بن زيد وهو مولى كلبي، وتزوجت ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب وهي ابنة عم رسول الله H بالمقداد بن الأسود وهو كندي، وزوج أبو بكر الصديق أخته بالأشعث بن قيس وهو كندي، وزوج أبو حذيفة بن عتبة ابنة أخيه الوليد على مولاه سالم.
وكون العرب لا تكافئهم العجم فلحديث: «العرب أكفاء لبعض والموالي بعضهم أكفاء لبعض إلا حائك أو حجام»([8]). ولما جاء عن سلمان الفارسي I أنه قال: ثنتان فضلتمونا بها يا معشر العرب: لا ننكح نساءكم ولا نؤمكم. وفي لفظ عنه قال: إنا لا نؤمكم ولا ننكح نساءكم إن الله هدانا بكم([9]).
وأما الصناعة: فأصحاب الحرف الممتهنة كالزبال والحجام وقيم الحمام والحائك والدباغ ليسوا أكفاء لبنات أصحاب الحرف الرفيعة كالقاضي والعالم والتاجر والبناء والخياط والبزاز والعطار، ويرجع إلى عادة البلد في الحرف والصناعات فبحسب عادة البلد تحدد مستوى الحرف والصناعات.
دليلهم: الأول: الحديث السابق وفيه: «إلا حائك أو حجام».
الثاني: واقع الناس فهم يفتخرون بشرف الحرفة ويعيرون بالدنىء منها فتزوج صاحب الحرفة الممتهنة بأبنة صاحب الحرفة النفيسة يعتبر نقصا في عرف الناس.
القول الثاني: الكفاءة المعتبرة في الدين والنسب والصنعة واليسار.
أما الثلاثة الأُول، فكما مر.
وأما اليسار، فمعناه: تساويهما في وجود اليسار فليس الفقير كفئا للغنية.
وهو وجه للحنفية ووجه للشافعية ووجه للحنابلة.
ودليل اعتبار اليسار ـ المال ـ في الكفاءة الآتي:
الأول: حديث فاطمة بنت قيس أنها قالت: إن معاوية بن أبي سفيان، وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أبو جهم، فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد»([10]). دل الحديث على أن معاوية لم يكن كفئا لها بسبب فقره.
الثاني: حديث بريدة I قال: قال رسول الله H: «إن أحساب أهل الدنيا الذي يذهبون إليه المال»([11]). فدل الحديث على أن المال يجعل من لا حسب له حسيبا فيقوم المال مقام النسب الشريف.
الثالث من ناحية المعنى: أن على الموسرة ضررا في إعسار زوجها لإخلاله بنفقتها المناسبة لها ولأن التفاخر بالمال غالبًا يكون أكثر من التفاخر بغيره.
الرابع: قوله تعالى: ﴿ وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلرِّزۡقِ ﴾ [النحل: ٧١].
ملاحظة: الأصح عند الحنفية وعند الحنابلة اعتبار الكفاءة في اليسار، لكنهم لا يقصدون به المساواة للمرأة وأن يكون غنيا مثلها وإنما يقصدون به قدرته على دفع مهرها والنفقة عليها لهذا لم أدخل قولهم تحت من يقول: إن اليسار يعتبر في الكفاءة، لأن الغرض منه عندهم حتى لا يخل بحقوقها إلا أن فيه نقصا وعارا يلحق المرأة وأولياءها.
القول الثالث: الكفاءة المعتبرة إنما هي في الدين والنسب لا غير.
وهو رواية لأبي حنيفة ولأبي يوسف ووجه للشافعية ورواية لأحمد مشهورة.
دليلهم: أن الأدلة والواقع يشهدان باعتبار الدين والنسب دون الحرفة والمال وذلك لأن الشخص يمكنه التحول من حرفة إلى أخرى ويمكنه أن يجد في اكتساب المال فيتحول من حال إلى آخر فهما وصفان قابلان للتحول والتبديل، ولأن الفقر شرف في الدين والمال لا يفتخر به أهل المروءات والبصائر إنما يفتخر به أهل الرعونات والشهوات.
القول الرابع: لا تعتبر الكفاءة إلا في الدين فقط
فالمسلمون كلهم أكفاء لبعضهم البعض دون نظر إلى صنعة أو مال أو نسب، وقال شاعرهم:
ألا إنما التقوى هي العز والكرم *** وحبك للدنيا هو الذل والسقم
وليس على عبد تقي نقيصة *** إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم
وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين والأئمة ومذهب المالكية والظاهرية وقول للشافعي وقول بعض الحنفية واختاره ابن تيمية وابن القيم وذكر بعض الحنابلة عن الإمام أحمد ما يدل عليه.
دليلهم: وجود أدلة من الكتاب وقول وفعل رسول الله H وأصحابه تدل على عدم اعتبار الكفاءة في النسب أو الصنعة أو المال:
فمن الكتاب: قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةٞ ﴾ [الحجرات: ١٠]. وقوله: ﴿ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡ ﴾ [الحجرات: ١٣]. وقوله: ﴿ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖ ﴾ [التوبة: ٧١]. وقوله: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ مِنَ ٱلۡمَآءِ بَشَرٗا فَجَعَلَهُۥ نَسَبٗا وَصِهۡرٗا ﴾ [الفرقان: ٥٤].
ومن السنة القولية: ما جاء عن رجل من الصحابة أنه قال: قال رسول الله H: «يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى»([12]).
وعن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله H يقول: «إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين»([13]).
وحديث أبي هريرة I أن رسول الله H قال: «إن أوليائي يوم القيامة المتقون وإن كان نسب أقرب من نسب»([14]).
وعن سهل بن سعد I، قال: مر رجل على رسول الله H، فقال: «ما تقولون في هذا؟» قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع، قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: «ما تقولون في هذا؟» قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع، فقال رسول الله H: «هذا خير من ملء الأرض مثل هذا»([15]).
وحديث أبي هريرة I أن أبا هند حجم رسول الله H فقال رسول الله H: «يا بني
بياضة أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه»([1]).
وحديث: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض»([2]).
وأما فعل رسول الله H وفعل أصحابه، فكما مر متفرقا وفيه تزويج بعض الهاشميات بغير الهاشميين وتزويج بعض القرشيات بغير القرشيين من العرب، ونُقل أيضًا أن أخت عبد الرحمن بن عوف كانت تحت بلال بن رباح وهو مولى حبشي.
والرد على من اعتبر الكفاءة بأمر زائد على الدين بالآتي:
أما حديث: «تخيروا لنطفكم...» فالصحيح ضعفه، وعلى ثبوته فيُحمل على الأكفاء في الدين والخلق([3]).
وبقية الأحاديث في الكفاءة في النسب ضعيفة وأثر سلمان موقوف عليه وهو من اجتهاده ولم يصح مرفوعا([4]).
وحديث واثلة بن الأسقع ـ في الاصطفاء ـ يدل على فضيلة بني هاشم على غيرهم وفضيلة قريش على غيرها.
وأما الاستدلال به على الكفاءة في النكاح ففيه نظر، بدليل فعل رسول الله H وأصحابه M في تزويج الهاشمية بقرشي والقرشية بعربي من غير قريش، ففعلهم هذا يدل على أن الشرع أسقط اعتبار تلك الفضيلة في باب النكاح.
وأما حديث فاطمة بن قيس فلا يدل على أن الفقير لا يكون كفئا للغنية وإنما هو من باب النصح فبين لفاطمة أن معاوية I فقير قد يعجز عن حقها ثم إنه نصحها بأسامة مع أنه كان فقيرا أيضًا ولكن قدمه رسول الله H لفضله([5]).
وحديث بريدة في الحسب بالمال المراد منه: أن من شأن أهل الدنيا رفعة كثير المال ولو كان وضيعا فلا يدل على اعتبار الكفاءة فيه وكون البعض فضل بزيادة مال فليس معناه أن غيره لا يكافئه إذا كان صاحب دين وصلاح وخلق.
الترجيح: الراجح القول الأخير أن المعتبر في النكاح الكفاءة في الدين لا غير، فجميع الأجناس والقبائل الإسلامية متكافئة واختارته اللجنة الدائمة في السعودية والألباني والعثيمين وشيخنا الوادعي([6]). مع أنه لو وجد تقارب بين الزوج والزوجة من حيث المكانة الاجتماعية ـ الحرفة والنسب ـ فهو أولى لأنه إذا حصل التكافؤ كان أفضل وأعون على دوام العشرة وأبعد عن النزاع والمشاكل فيكون الدين هو المعتبر والأساس ويكون النسب والمال أمر ثانوي([7]).
أما إذا أدى هذا الحرص على التكافؤ بين الزوجين إلى مفسدة أكبر من قيمة هذه المصلحة كحرمان المرأة من النكاح لعدم تقدم من يوازيها فتلغى هذه المصلحة بلا شك([8]).
تنبيه مهم: جميع علماء الإسلام يقولون: إن الفضيلة والمكانة والرفعة الحقيقية عند الله سبحانه هي بالدين فقط فكل شيء لا ينفع في الآخرة غير الدين وإنما مراد من قال من أهل العلم بطلب الكفاءة في خصال زائدة على صفة الدين حتى لا يعرض الشخص نفسه لتعيير واستنقاص الآخرين فيصون نفسه وعرضه منهم بتزويج وليته بمن يكافئها في هذه الخصال فهؤلاء العلماء ينظرون لها من ناحية الوضع الدنيوي بين الناس والله المستعان.
المسألة الثالثة: اعتبار الحرية في الكفاءة([9]).
تنازع الفقهاء في اعتبار الحرية في الكفاءة:
القول الأول: لا تعتبر الحرية في الكفاءة، فالعبد كفء للحرة.
وهو قول للمالكية ورواية لأحمد.
دليلهم: أنه يعتبر من المسلمين والمسلمون جميعا أكفاء لبعض إذا استقام الدين ولا دليل كافي على جعل الحرية من خصال الكفاءة.
القول الثاني: تعتبر الحرية في الكفاءة، فلا يكون العبد كفئا للحرة.
وهو قول جمهور العلماء وهو الصحيح عند الحنابلة وقول للمالكية ذكر بعضهم أنه المذهب.
دليلهم: الأول: حديث عائشة J أن بريرة أعتقت فخيرها رسول الله H في زوجها فاختارت نفسها وكان زوجها عبدا([10]).
ووجه الدلالة منه: أن رسول الله H خيرها حين صارت حرة وهي تحت عبد فلو كان العبد كفئا لها لما خيرها.
الثاني: أن نقص الرق كبير وضرره بيِّن فهو كالمعدوم بالنسبة إلى نفسه وملك سيده له يشبه ملك البهيمة فلا يساوي الحرة.
الترجيح: الراجح مذهب الجمهور أن الحرية معتبرة في الكفاءة في النكاح لوجود ما يدل عليه من نص صريح ومعنى صحيح.
تنبيه: ذكر بعضهم من خصال الكفاءة السلامة من العيوب وستأتي في مبحث العيوب في الزوجين فيؤخر الكلام عليها.
المسألة الرابعة: أثر الكفاءة في عقد النكاح([11]).
اختلف الفقهاء في مسألة الكفاءة في النكاح هل هي شرط لصحة النكاح أم هي شرط للزومه فقط، أم أنها ليست شرطا أصلا لا لهذا ولا لذاك؟
القول الأول: أنها شرط في صحة النكاح فلو تزوج المرأة من ليس كفئا لها فالنكاح باطل ولا يصح رضاها أو رضى أوليائها بإسقاطها. وهذا رواية لأبي حنيفة وقول بعض المالكية ورواية للإمام أحمد.
دليلهم: الأول: ما مر من الأدلة في مسألة خصال الكفاءة المستفاد منها أن الكفاءة معتبرة في النكاح سواء كان ذلك في خصلة أو أكثر بحسب الخلاف السابق.
الثاني: أن التزويج لها مع فقد الكفاءة تصرّف في حق من لم يوجد بعد من أوليائها بغير إذنه.
القول الثاني: الكفاءة في النكاح شرط للزوم النكاح فقط، أي: أن النكاح يصح عند فقدها إلا أنها حق للمرأة وأوليائها تسقط بإسقاطهم لها وتبقى بمطالبة المرأة أو أوليائها لها فللمرأة أو أوليائها منع التزويج لعدم توفر الكفاءة المطلوبة في الخاطب وإذا حصل التزويج ولم يعلموا من قبل بعدم كفاءته للمرأة ثم ظهر أنه ليس كفئا لها فلها أو لأوليائها فسخ هذا النكاح وكذلك لو رضت المرأة وبعض أولياءها بغير الكفء وعلم أولياؤها الآخرون بذلك فلهم الاعتراض والمطالبة بفسخ النكاح.
وهو قول جمهور الفقهاء.
دليلهم: أما كونها حقا للمرأة وأوليائها فلأن العيب والنقص الحاصل بسبب فقدها يلحق المرأة وأولياءها فعليه إن شاؤوا أسقطوها وإن شاؤوا تركوها ولا تكون الكفاءة شرطا في صحة النكاح يبطل النكاح بفقدها لعدم وجود دليل شرعي على هذا والواقع يرده فقد تزوجت هاشميات بغير هاشميين في عهد رسول الله H وتزوجت قرشيات بغير قرشيين كذلك في عهد رسول الله H وأصحابه M كما مر سابقا.
القول الثالث: الكفاءة غير معتبرة.
أي: أنها ليست شرطا لا لصحة ولا للزوم فما دام أن النكاح صح بأركانه وشروطه فليس لأحد فسخه لأجل عدم الكفاءة.
وهو قول بعض الحنيفة ونحوه قال الشيخ ابن عثيمين وفصل بعض المالكية إذا كان عقد عليها هذا الزوج ولم يدخل عليها فيجوز الفسخ لعدم الكفاءة وإن كان دخل عليها فلا يصح الفسخ حينها.
دليل هذا القول:
الأول: النصوص السابقة التي يفهم منها عدم اشتراط الكفاءة كحديث: «ولا فضل لعربي على عجمي...». وحديث: «أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه».
الثاني: عدم وجود دليل شرعي ينص على أن للأولياء حق الفسخ هنا.
الترجيح: الراجح قول أكثر أهل العلم أنها شرط للزوم النكاح فهي حق للمرأة وأوليائها إلا أنها عندنا في الدين والخلق والحرية فقط ـ كما مر ـ وأي نقص وعار أكبر من أن تُزوج المرأة الصالحة العفيفة المنتسبة إلى الأسرة الصالحة العفيفة بالفاسق الفاجر أو المبتدع المنحرف، وأي أمان لها مع فاقد الدين.
وأما القول أن الكفاءة شرط لصحة النكاح بمعنى: أن عقد النكاح لا يصح عند عدمها فهو قول ظاهر البطلان وقد قال ابن القيم: إنه لم يقل ببطلان النكاح لا الإمام أحمد ولا أحد من العلماء. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: من قال إن الهاشمية لا تزوج بغير هاشمي بمعنى: لا يجوز ذلك فهو مارق من الإسلام ولا يجوز أن يحكى هذا خلافا في مذهب أحمد([12]).
المسألة الخامسة: الولي الذي له حق طلب الكفاءة([13]).
هذه المسألة فيها خلاف عند الفقهاء:
القول الأول: طلب الكفاءة حق لجميع الأولياء الأقربين والأبعدين، فلو زوج الأب ابنته بغير كفء برضاها كان للإخوة أو الأعمام أو بني العم حق رفض الزواج وفسخه.
وهو ظاهر مذهب الحنفية والصحيح عند الحنابلة.
دليلهم: أن النقص والعار الحاصل من تزويجها بغير الكفء يلحقهم جميعا قريبهم وبعيدهم فكان للجميع حق الرفض والفسخ.
القول الثاني: الحق هنا في طلب الكفاءة للولي الأقرب وهو الولي الحالي، فلو زوجها الأقرب بغير كفء برضاها فلا حق لبقية الأولياء في الاعتراض والفسخ.
وهو قول المالكية والشافعية ورواية لأحمد.
دليلهم: الأول: أنه لا حق للأبعد في ولاية عقد نكاحها مع وجود الأقرب فالأبعد محجوب عن الولاية فكذلك لم يكن له الحق في الفسخ.
الثاني: أن القرابة تنتشر كثيرا فيشق اعتبار رضاهم جميعا ولا ضابط يوقف عنده فالحل قصره على الولي الحالي وهو ولي نكاحها.
الترجيح: الراجح القول الثاني أنه حق للأقرب دون الأبعد ولو توسعنا على حسب ما قاله أهل القول الأول لأدى إلى فسخ كثير من الأنكحة فربما استغل بعض الأبعدين وجود مثل هذا لإفساد العشرة الزوجية وكونه نقص يلحق الجميع فيمكن الجواب عليه ـ والله أعلم ـ أن حصوله للأبعد أخف من حصوله للأقرب وتعارضه في نفس الوقت مفسدة أكبر وهي فسخ عقد نكاح صحيح بأركانه فندفع أعظم المفسدتين بارتكاب أصغرهما.
المسألة السادسة: اعتبار الكفاءة في جانب النساء للرجال([14]).
الذي نص عليه الحنفية والحنابلة أن الكفاءة إنما تطلب من الرجل ولا تطلب من المرأة للرجل وهو الظاهر من مذهب الشافعية فللرجل أن يتزوج بمن هي أقل منه نسبا أو مالا أو صنعة.
دليلهم: الأول: حديث أبي هريرة I: «تنكح المرأة لجمالها ومالها وحسبها فاظفر بذات الدين»([15]). فحثه على ذات الدين دون نظر إلى نسب أو مال.
الثاني: أن النبي H لا مكافئ له وقد تزوج من أحياء العرب.
الثالث: أن الولد يشرف بشرف أبيه لا بأمه.
الرابع: أنه لا عار يلحق الرجل بافتراش من لا تكافئه.
قلت: هكذا قالوا مع أن الناس في هذه الأزمنة صاروا يطلبون الكفاءة من جانب المرأة كما يطلبونها من جانب الرجل وليس طلبهم هذا صوابا للأدلة المذكورة آنفا لكن كما مر معنا أن حصول التكافؤ والتوازن الاجتماعي بين الزوجين أفضل لأنه أدوم لبقاء العشرة الزوجية بينهما وأصون لعرضهما من طعن الناس فيهما والله أعلم.
([1]) الأقرب ضعفه: رواه أبو داود (2102)، وابن حبان (4067)، والدارقطني (3/300)، والحاكم (2/164) وغيرهم عن حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة I به، وعلى ظاهر السند حسنه ابن حجر في التلخيص (3/188) والألباني في الصحيحة (2446) وشيخنا في الجامع الصحيح، لكن قال الدارقطني: غير حماد يرويه عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة به مرسلا. قال: والمرسل أشبه. علله (9/288). وقال ابن قدامة: ضعفه الإمام أحمد وأنكره إنكارا شديدا. المغني (9/389). وقد تابع حمادا على وصله: محمد بن يعلى السلمي كما في التاريخ الكبير للبخاري (1/268)، لكن السلمي ضعيف.
وجاء من حديث عائشة J بنحوه، رواه الدارقطني (3/203)، والطبراني في الأوسط (6544) عن إسماعيل بن عياش عن الزبيدي عن الزهري عن عروة عنها به. وظاهر إسناده الحسن لكن قال أبو حاتم: هذا حديث باطل. وقال ابن جنيد: أفسد هذا الحديث حديث رواه الرملي عن ضمرة عن ابن عياش عن الزبيدي وابن سمعان عن الزهري عن عروة عن عائشة به. علل ابن أبي حاتم (1/409). وقال ابن عدي في كامله (1/292): هذا الحديث انفرد به ابن عياش عن الزبيدي وهو منكر من حديث الزبيدي إلا أن الرملي ذكر الزبيدي وابن سمعان في الإسناد وكأن ابن عياش حمل حديث الزبيدي على حديث ابن سمعان فأخطأ والزبيدي ثقة وابن سمعان ضعيف. اهـ. قلت: بل ضعيف جدا، وبعد كل هذا لا تطمئن النفس لثبوت هذا الحديث.
([2]) ضعيف: جاء من حديث أبي هريرة I، رواه سعيد بن منصور (1/162)، وأبو داود في المراسيل (225)، والترمذي (1109)، وابن ماجه (1967)، وغيرهم، واختلف في وصله وإرساله، والصواب: أنه مرسل كما نقله الترمذي عن البخاري ورجحه أبو داود وغيره. وجاء من حديث أبي حاتم المزي، رواه أبو داود في المراسيل (224)، والترمذي (1110)، والبيهقي (7/28) وغيرهم عن عبد الله بن مسلم بن هرمز عن محمد وسعيد ابني عبيد عن أبي حاتم المزني به. وابن هرمز ضعيف وابنا عبيد مجهولا عين، وأبو حاتم المزني اختلف في صحبته، والأقرب أنه ليس صحابيا لعدم وجود ما يثبت صحبته عدا هذا الحديث الوحيد، وسنده ضعيف إليه. انظر الإصابة لابن حجر (4/39)، والجوهر النقي للتركماني مع سنن البيهقي (7/82). فعليه: يكون الحديث ـ مع ضعف سنده ـ مرسلا.
وجاء من حديث ابن عمر، رواه ابن عدي في الكامل (5/1728) فيه عمار بن مطر، متروك.
وجاء عن يحيى بن أبي كثير عن رسول الله H فذكره. رواه عبد الرزاق (10325) وهو معضل. فالحديث لا يرتقي إلى درجة الحسن. وقد ذكر طرقه ابن القطان الفاسي في كتابه الوهم والإيهام (5/203)، وخلص بضعف الحديث. وضعفه الشيخ مصطفى العدوي في كتابه جامع أحكام النساء (3/264). وحسنه بمجموع طرقه بعض المشايخ منهم الألباني في الإرواء (1868).
([3]) السلسلة الصحيحة (3/57).
([4]) سنن البيهقي (7/134).
([5]) عارضة الأحوذي لابن العربي (4/243).
([6]) انظر فتاوى اللجنة الدائمة (18/186)، فتاوى علماء البلد الحرام (1/457-459)، السلسلة الصحيحة (3/57)، الجامع الصحيح للوادعي (3/66).
([7]) راجع: حاشية الدسوقي (3/58)، فقه السنة (2/116)، وفتوى لابن عثيمين في كتاب كيف تصبحين زوجة (ص/102).
([8]) سبل السلام (3/204).
([9]) المراجع السابقة، وحاشية الدسوقي (3/60)، مواهب الجليل (5/108).
([10]) رواه البخاري (5279، 5283)، ومسلم (10/124).
([11]) مراجع: بدائع الصنائع (2/317)، حاشية ابن عابدين (4/148)، حاشية الدسوقي (3/58)، مواهب الجليل (5/106)، مغني المحتاج (3/211)، النجم الوهاج (7/116)، المغني (9/387)، زاد المعاد (5/161)، كشاف القناع (5/67)، الموسوعة الفقهية الكويتية (34/268، 282)، الشرح الممتع (12/100).
([12]) الإنصاف (8/110).
([13]) مراجع: فتح القدير (3/294)، مواهب الجليل (5/106)، النجم الوهاج (7/118)، مغني المحتاج (3/212)، المغني (9/390)، كشاف القناع (5/67)، الإنصاف (8/106).
([14]) مراجع: بدائع الصنائع (2/320)، حاشية ابن عابدين (4/148)، مغني المحتاج (3/217)، النجم الوهاج (7/132)، المغني (9/397).
([15]) سبق تخريجه.
([1]) مراجع: حاشية ابن عابدين (4/148)، حاشية الدسوقي (3/58)، المفهم للقرطبي (4/217)، مغني المحتاج (3/213)، حاشيتا قليوبي وعميرة (3/354)، كشاف القناع (5/67).
([2]) مراجع: بدائع الصنائع (2/318)، حاشية ابن عابدين (4/148)، فتح باب العناية (2/42)، إكمال المعلم (4/672)، بداية المجتهد (2/16)، حاشية الدسوقي (3/58)، فتح الباري (1/165-168)، روضة الطالبين (5/424)، مغني المحتاج (3/213)، النجم الوهاج (7/120)، المغني (9/391)، الإنصاف (8/105)، زاد المعاد (5/158) كشاف القناع (5/67)، المحلى مسألة رقم (1867).
([3]) ضعيف: رواه ابن ماجه (1968)، والدارقطني (3/299)، والبيهقي (7/133)، والخطيب البغدادي في تاريخه (1/264) وغيرهم من طرق كلها ضعيفة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به مرفوعا.
ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب العيال (130)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (15/84) عن أبي النضر عن الحكم بن هشام ثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به، ورجاله لا بأس بهم، لكن قال الخطيب البغدادي: اختلف على الحكم بن هشام فيه فرواه أبو النضر إسحاق بن إبراهيم عنه عن هشام بن عروة ورواه هشام بن عمار عن الحكم بن هشام عن مندل بن علي عن هشام بن عروة وكل طرقه واهية. اهـ فأدخل بينهما مندل وهو ضعيف جدا. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: رواه الحكم بن هشام عن مندل عن هشام بن عروة. كما في علل ابن أبي حاتم (1/407).
وقد ضعف حديث عائشة: أبو زرعة وأبو حاتم وقالا: لا يصح هذا الحديث. وقال أبو حاتم: ليس له أصل. وقال أيضا: هذا حديث باطل لا يحتمل هشام بن عروة. هذا كما في علل ابن أبي حاتم (1/403).
وضعفه الخطيب البغدادي وقال: هذا حديث غريب. وقال: كل طرقه واهية. وأورده من طريق مرسلا عن عروة عن أبيه به دون ذكر عائشة J، وقال: هذا أشبه بالصواب. كما في تاريخه (1/264).
وجاء بنحو حديث عائشة من حديث عمر بن الخطاب I مرفوعا، رواه ابن عدي في الكامل (3/1134)، وفي سنده سليمان بن عطاء، منكر الحديث. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (10/156): يقوي أحد الإسنادين بالآخر. اهـ يعني: إسناد عائشة وإسناد عمر. وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (1067).
قلت: لا تطمئن النفس لتقويته لشدة الضعف في طرقه.
([4]) ضعيف جدا: رواه الدارقطني (3/245)، والبيهقي (7/133) وضعفاه بمرة.
([5]) ضعيف منقطع: رواه عبد الرزاق (10324)، والدارقطني (3/298)، والبيهقي (7/133). وضعفه الألباني في الإرواء (1867).
([6]) سيأتي تخريجه قريبا مع أثر سلمان الفارسي.
([7]) رواه مسلم (2276).
([8]) ضعيف جدا: رواه البيهقي (7/134)، عن ابن عمر L من طرق كلها ضعيفة جدا. وكذلك رواه البيهقي (7/135) عن عائشة J به بإسناد ضعيف جدا. وجاء من حديث معاذ بن جبل I دون قوله: «إلا حائك أو حجام»، رواه البزار في مسنده (2677) وسنده ضعيف جدا. وحكم الألباني على هذا الحديث بالوضع في الإرواء (1869).
([9]) أثر صحيح: رواه عبد الرزاق (10329)، وسعيد بن منصور (593، 594) والبيهقي (7/134) وغيرهم عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي ليلى الكندي، وعن أوس بن ضمعج ـ ثقتان ـ كلاهما عن سلمان به، وكلا الإسنادين صحيح، ورجح أبو زرعة وأبو حاتم إسناد ابي ليلى كما في علل ابن أبي حاتم (2/406). وقال ابن تيمية على إسناد أوس: إسناد جيد. في اقتضاء الصراط المستقيم (1/444). وقد صرح أبو إسحاق بالسماع من أوس عند سعيد بن منصور.
([10]) رواه مسلم (1480).
([11]) حسن: رواه أحمد (5/353)، والنسائي (3225)، والبيهقي (7/135) عنه بإسناد حسن، وصحح إسناده شيخنا الوادعي في الصحيح المسند (173). وجاء من حديث سمرة قال رسول الله H: «الحسب المال والكرم التقوى». رواه أحمد (5/10)، والترمذي (3271)، وابن ماجه (4219)، والبيهقي (7/135) وغيرهم وسنده ضعيف.
([12]) سنده صحيح: رواه أحمد (5/411)، وصححه شيخنا الوادعي في الصحيح المسند (1523).
([13]) رواه البخاري (5990)، ومسلم (215).
([14]) سنده حسن: رواه البخاري في الأدب المفرد (900)، وحسنه الألباني في الصحيحة (765).
([15]) رواه البخاري (5091).