وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ V: أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ H لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «أَنْ لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ». رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا, وَوَصَلَهُ النَّسَائِيُّ, وَابْنُ حِبَّانَ, وَهُوَ مَعْلُولٌ.
تخريج الحديث:
الحديث روي مرسلًا وموصولا، رواه مرسلًا الإمام مالك في الموطأ (234)، وعبد الرزاق (1/341)، والدارقطني (1/121)، والبيهقي (1/309) وغيرهم، وروي موصولًا عن أبي بكر بن محمد من عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عن النبي H، رواه النسائي (8/87)، وابن حبان (6559)، والدارقطني (1/122) والراجح فيه الإرسال، إلا أنه يثبت لأمرين:
الأول: مجيئه من طرق أخر، فقد جاء كذلك من حديث عثمان بن العاص عند الطبراني في الكبير (8336)، ومن حديث ابن عمر عند البيهقي (1/88)، ومن حديث حكيم بن حزام عند الدارقطني (1/122) عن النبي H أنه قال: «لَا يَمَسَّ القُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ»، وكلها ضعيفة؛ فالحديث حسن بمجموع طرقه.
الثاني: قبول أهل العلم له، وتصريحهم بثبوت هذا الكتاب عن النبي H:
قال الإمام الشافعي: لم يقبلوه حتى ثبت عندهم أنه كتاب النبي H([1]).
وسئل أحمد: أصحيح هو؟ فقال: أرجو أن يكون صحيحا([2]).
وقال أيضًا: لا شك أن النبي H كتبه له. وسئل ابن معين عنه: أمسند أي متصل؟ قال: لا، لكنه صالح([3]).
وقال الفسوي: لا أعلم كتابًا أصح من كتاب عمرو بن حزم، كان أصحاب النبي H يرجعون إليه ويدعون آراءهم([4]).
وقال ابن عبد البر: كتاب عمرو بن حزم كتاب مشهور معروف، يستغنى بشهرته عن الإسناد([5]).
فقه الحديث:
مسألة: اشتراط الطهارة لمن مس المصحف([6]):
جمهور أهل العلم على اشتراط الطهارة لمن أراد مس المصحف، سواء كان من حدث أصغر أم أكبر، ودليله:
الأول: قوله تعالى: ﴿ لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ ٧٩ ﴾ [ الواقعة: ٧٩ ]، فذكر الله E أن الذي يمس القرآن هو المطهر أو الطاهر.
وقد اختلف العلماء في هذه الأية: هل المراد بهم الملائكة، أم المراد بهم بنو آدم؟
فعلى القول: أن المراد بهم بنو آدم؛ فهي نص صريح في المسألة.
وعلى القول: بأن المراد بهم الملائكة - وهو الصحيح -؛ ففيها دليل – كذلك - على أن بني آدم يلزمهم الطهارة عند مس المصحف؛ وذلك أن القرآن ﴿ لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ ﴾ لحرمته ولكرامته، وهذه الحرمة والكرامة موجودة في القرآن الكريم الذي في الأرض، فحرمته وكرامته في الأرض كحرمته وكرامته في السماء، وما تقتضيه حرمته في السماء موجود – أيضًا - في الأرض، وهو ألا يمسه إلا طاهر.
الثاني: «أَنَّ فِي الكِتَابِ الذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللهِ H لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنْ لَا يَمَسَّ القُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ»، والمراد بالطاهر هنا: الطاهر من الحدث؛ لأنه المقصود عند الإطلاق في الشرع، ولم يكن رسول الله يعبر عن المؤمن بالطاهر، وما الذي يمنعه أن يقول: لا يمسه إلا مؤمن؟! مع أنه واضح بيِّن، فإن قيل: إن لفظ (الطاهر) هنا لفظ مشترك، فيحتمل أن معناه: طاهر من الحدث، ويحتمل أن معناه: طاهر من رجس الكفر. فالجواب على هذا الإشكال ـ على فرض عدم وجود المرجحات ـ: بأن المشهور عند أهل الأصول: أن اللفظ إذا كان مشتركًا بين معنيين أو أكثر، ولا مرجح لواحد منها؛ فإنه يحمل على جميع ألفاظه، خير من إهماله وتركه، فيحمل هنا على المعنيين، أي: لا يمسه إلا الطاهر من رجس الكفر، والطاهر من الحدث، ولا يحمل على الطاهر من النجاسة؛ لأنه يجوز لمسه مع عدم طهارة الثوب أو البدن بلا خلاف.
الثالث: أن هذا قول الصحابة، فلا يعلم خلاف بين الصحابة فيه، فقد صح هذا عن سلمان الفارسي I، رواه ابن أبي شيبة (1/98). وقد جاء عنه خلاف ذلك، رواه عبد الرزاق (1/340) لكنه ضعيف جدًّا. وصح عن سعد بن أبي وقاص I، رواه مالك في الموطأ (12). وصح عن ابن عمر رواه ابن أبي شيبة (2/140) وابن المنذر في الأوسط (2/101). وجاء عن غيرهم من الصحابة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «لا خلاف بين الصحابة والتابعين على أنه لا يمس القرآن إلا من كان طاهرًا من حدث». اهـ.
وهو الصحيح بلا ريب، ولا يعرف القول بجواز مس القرآن لمن كان محدثا إلا عن الظاهرية وبعض المعاصرين، مع قولهم بأنه يستحب لمن مس القرآن أن يكون طاهرًا من الحدث.
واستدلوا على عدم الوجوب بما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن
رسول الله قال: «إِنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يَنْجُسُ»، والاستدلال به بعيد؛ لأن الكلام في هذه المسألة ليس على النجاسة العينية، لهذا لا خلاف بين أهل العلم أن من كان على نجاسة؛ فإنه يجوز له أن يمس المصحف، إلا إذا كانت النجاسة في اليد. والطهارة على نوعين: طهارة من الحدث، وطهارة من النجاسة؛ فمن لم يكن على وضوء فليس على طهارة، لكن لا يقال: هو نجس، وكذا من كان على جنابة فليس على طهارة: لكن لا يقال: إنه نجس، فإذا توضأ أو اغتسل صار طاهرًا؛ لذا لم يذكر هذا الحديث - عند هذه المسألة - أحد من الأئمة وفقهاء المذاهب الأربعة، مع أن الحديث ليس بخفي عليهم، وإنما ذكره ابن حزم والشوكاني.
واستدل بعضهم بحديث عائشة الآتي، وسيأتي الكلام عليه، ثم الصحيح من أقوال العلماء: جواز مس المحدث للمصحف من وراء حائل؛ لأن الذي مس المصحف هو الحائل وليست اليد، وهو مذهب الحنفية والمالكية، وأكثر الحنابلة، ووجه للشافعية([7]).
([1]) الرسالة (ص/422).
([2]) مسائل أحمد للبغوي (38).
([3]) تاريخ الدوري (647).
([4]) تهذيب الكمال (11/419).
([5]) التمهيد (17/396).
([6]) مراجع: المغني (1/202)، المجموع شرح المهذب (2/72)، مجموع الفتاوى (21/266)، شرح العمدة لابن تيمية (1/382)، بدائع التفسير (4/365)، المحلى [مسألة] (116)، فتح الباري لابن رجب (2/20)، نيل الأوطار (1/320)، الشرح الممتع (1/265)، تمام المنة (ص/101).
([7]) الأحكام المترتبة على الحيض للاحم (ص/44)، منار الإسلام للعثيمين (1/118).