وَعَنْ عَائِشَةَ J: أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ جَحْشٍ شَكَتْ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ H الدَّمَ, فَقَالَ: «اُمْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ, ثُمَّ اغْتَسِلِي»، فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ كُلَّ صَلَاةٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(142) 05- وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ». وَهِيَ لِأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
تخريج الحديث:
حديث عائشة J: رواه الإمام مسلم (334)، وهو في البخاري (327) بنحوه.
وقَوْلُهُ: «وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ»، هذه الرواية في قصة فاطمة بنت أبي حبيش، وليست في قصة أم حبيبة.
وهذا اللفظ جاء من وجوه أخر عند أحمد (6/42)، وأبي داود (297) وغيرهما، قال أبو داود: وكلها ضعيفة لا تصح. اهـ.
وعلى كلٍّ: هذه الزيادة - وهي الأمر بالوضوء لكل صلاة - الراجح: أنها من قول عروة بن الزبير، وليست من قول النبي H، كما سبق بيانه عند تخريج حديث فاطمة بنت أبي حبيش في نواقض الوضوء.
فقه الحديث:
المسألة الأولى: المرأة المستحاضة عندها عادة معلومة، ولها قدرة على تمييز الدم([1]):
إذا كانت المرأة المستحاضة لها دورة شهرية معلومة، ويتميز عندها دم الحيض من دم الاستحاضة، لكن الدم الذي على صفة دم الحيض يأتيها في غير وقت دورتها الشهرية، فهل ترجع إلى العادة، أم ترجع إلى اللون؟
فيه قولان للعلماء:
القول الأول: مذهب المالكية والظاهرية، والصحيح عند الشافعية، ورواية للإمام أحمد: ترجع إلى التمييز، فإذا وجدت الدم الذي على صفة دم الحيض المعروفة، تركت الصلاة والصيام، ولا تعتمد على مدتها الأصلية.
ودليلهم على اعتبار صفة الدم دون زمن العادة الأصلية الآتي:
الدليل الأول: قول الله E: ﴿ وَيَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡمَحِيضِۖ قُلۡ هُوَ أَذٗى ﴾ [البقرة: ٢٢٢]، فبين الله E أن دم الحيض أذى، وهذا الأذى يعرف بصفته، فإذا جاءت هذه الصفات جاء الحيض الذي وصف بأنه أذى، فتلتزم المرأة به.
الدليل الثاني: أن النبي H أرشد المستحاضة إلى الرجوع إلى لون الدم؛ للتفريق بين دم الاستحاضة ودم الحيض، فقال: «إِنَّ دَمَ الحَيْضِ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأَمْسِكِي مِنَ الصَّلَاةِ»، وقال: «لِتَجْلِسْ فِي مِرْكَنٍ فَإِذَا رَأَتْ صُفْرَةً فَوْقَ المَاءِ فَلْتَغْتَسِلْ».
وما جاء في بعض الأحاديث أن النبي H أرشد المستحاضة إلى الرجوع إلى زمن عادتها الأصلية، يحمل على أنه لم يتميز عندهن الدم، أي: أن الدم كان يخرج منهن على صفة واحدة، فلما لم يكن عندهن تمييز أرشدهن إلى الرجوع إلى زمن عادتهن الأصلية.
القول الثاني: مذهب الحنفية، والصحيح عند الحنابلة، ووجه للشافعية، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية: أنها ترجع إلى زمن مدتها الأصلية، ولا تلتفت إلى لون الدم، فما دام أن لها مدة معلومة من الشهر؛ فترجع إلى مدتها المعلومة، فتترك الصلاة والصيام فيها، فهي حيضتها، ولو كان الدم الذي يخرج في هذا الوقت على غير صفة دم الحيض المعروفة؛ فالعبرة بالعادة لا بلون الدم.
ودليلهم على ذلك:
الدليل الأول: أن النبي H أرشد المستحاضة إلى الرجوع إلى مدة عادتها الأصلية، فتترك الصلاة والصيام فيها، ففي الصحيحين في قصة فاطمة بنت أبي حبيش J وكانت تستحاض قالت: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ H: إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي»، فأمرها أن تمسك عن الصلاة إذا أقبل وقت حيضتها، ثم تصلي إذا ذهب قدر حيضتها. وجاء في رواية في البخاري أصرح من ذلك، أن النبي H قال لها: «دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا»، وكذلك في قصة أم حبيبة J، قال لها النبي H: «اُمْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ»، أي: تترك الصلاة قدر الأيام من الوقت التي كانت تأتيها الحيضة، قال: «ثُمَّ اِغْتَسِلِي فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ كُلَّ صَلَاةٍ». وعن أم سلمة J: «أَنَّهَا اسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللهِ H فِي امْرَأَةٍ تُهَرَاقُ الدَّمَ، فَقَالَ: تَنْتَظِرُ قَدْرَ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ وَقَدْرَهُنَّ مِنَ الشَّهْرِ، فَتَدَعُ الصَّلَاةَ، ثُمَّ لِتَغْتَسِلْ، وَلْتَسْتَثْفِرْ، ثُمَّ تُصَلِّي».
وهذه الأحاديث أصح من الأحاديث التي فيها الإحالة إلى اللون، فحديث عائشة J: «إِنَّ دَمَ الحَيْضِ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ»، قد استنكره بعض أهل العلم، وحديث أسماء بنت عميس J الذي فيه: «فَإِذَا رَأَتْ صُفْرَةً فَوْقَ المَاءِ»، ضعفه بعض أهل العلم كالبيهقي.
الدليل الثاني: بالنظر إلى واقع النساء؛ نجد أن الاضطراب في صفات الدم أكثر من الاضطراب في مدة العادة، فمدة العادة أضبط للمرأة من اللون، فانتقال مدة الحيض من وقت إلى آخر أقل من تغير لون الدم بين أسود وأحمر وأغبر، وبين رقيق وثخين، فما دام أن العادة أضبط؛ فيحال إليها.
وهذا القول رجحته اللجنة الدائمة والشيخ ابن عثيمين، وهو الأقوى، والله أعلم.
ولا مانع أن المرأة تجتهد هنا، وتعتمد على ما تطمئن إليه نفسها من القولين. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «كان كثير من السلف إذا سئلوا عن الحيض قالوا: سلوا النساء، فإنهن أعلم بذلك. يعني: هن يعلمن ما يقع من الحيض وما لا يقع([2])». اهـ.
المسألة الثانية: اغتسال المستحاضة لكل صلاة([3]):
جمهور أهل العلم يستحبون للمرأة المستحاضة أن تغتسل لكل صلاة مفروضة، ولا يجب عليها، وهو الراجح؛ وذلك لأن أم حبيبة J كانت تغتسل لكل صلاة، ولم يأمرها النبي H بذلك، ففعلها هذا اجتهاد منها، وقد روى أحمد (6/129)، والنسائي (1/120): «أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ جَحْشٍ اسْتُحِيضَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ H فَأَمَرَهَا بِالغُسْلِ لِكُلِّ صَلَاةٍ»، وهو لفظ شاذ لا يصح، وقد بين الحفاظ أن المحفوظ في هذا الحديث: أنه من فعلها، ولم يأمرها النبي H([4])، وسكوت النبي H وعدم إنكاره عليها يكون إقرارا لها، فيدل على مشروعيته.
المسألة الثالثة: وضوء المستحاضة لكل صلاة([5]):
جمهور أهل العلم يرون أنه يجب على المرأة المستحاضة الوضوء لكل صلاة مفروضة، لأن النبي H أمرها بذلك، فقال: «وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ». وتصلي به ما شاءت من النوافل؛ لأنها تبع للفريضة.
واختلفوا: هل المراد بقَوْلُهُ: «لِكُلِّ صَلَاةٍ»: وقت الصلاة، فلها أن تصلي ما شاءت من الفروض الفوائت، وتجمع بين الصلاتين حتى يخرج الوقت، أو هو على ظاهره، فتتوضأ لكل صلاة مفروضة، ولو كانت قضاء، ولا تجمع بين الصلاتين بوضوء واحد؟
والأول: مذهب الحنفية والحنابلة.
والثاني: مذهب الشافعية.
وذهب جمع من السلف، ومذهب المالكية: إلى عدم وجوب الوضوء على المستحاضة لكل صلاة، وإنما يستحب ذلك.
ودليلهم: عدم وجود دليل شرعي يلزم المستحاضة بالوضوء لكل صلاة، وأما قَوْلُهُ: «وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ»؛ فالجواب عليه من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا اللفظ لا يثبت عن النبي H، وإنما هو من قول بعض الرواة، كما بينه بعض أهل الحديث، وسبق معنا في (نواقض الوضوء).
الوجه الثاني: على صحة هذا اللفظ يحمل على الاستحباب، وذلك لأمرين:
الأمر الأول: أن هذا الحكم لم يأمر به النبي H كل مستحاضة، فأم حبيبة كانت تستحاض، ولم يأمرها النبي H بالوضوء لكل صلاة، وإنما جاء هذا الحكم في حديث فاطمة بنت أبي حبيش، فلما أمر بعض النساء بالوضوء لكل صلاة، ولم يأمر البعض الأخر؛ دل ذلك على أن الأمر فيه للاستحباب فقط.
الأمر الثاني: أن المراد من الوضوء: رفع الحدث، والمستحاضة لا يرتفع حدثها لاستمرار خروج الدم منها، فلا وجه لإيجابه عليها؛ فيكون الأمر للاستحباب فقط.
وهذا القول قول؛ لكن الأحوط والأسلم للمرأة الوضوء لكل صلاة مفروضة، وتصلي به ما شاءت من الفروض والنوافل قبل خروج الوقت، والأمر – والحمد لله – لا مشقة فيه.
الحديث 06-
([1]) المغني (1/400)، الحاوي الكبير (1/404)، المحلى [مسألة] (269)، المجموع شرح المهذب (2/500)، مجموع الفتاوى (21/628)، فتح الباري لابن رجب (2/60)، الشرح الممتع (1/426)، الفتاوى الجامعة للمرأة (1/131، 143).
([2]) مجموع الفتاوى (19/240).
([3]) المجموع شرح المهذب (2/536)، المغني (1/448)، مجموع الفتاوى (21/629)، فتح الباري (1/544).
([4]) فتح الباري (1/568).
([5]) الاستذكار (3/226)، شرح مسلم (4/17)، المغني (1/448)، فتح الباري لابن رجب (2/75).