وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ I قَالَ: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ H رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ, لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ, وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ H فَقَالَ: «عَجِلَ هَذَا» ثُمَّ دَعَاهُ, فَقَالَ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ, ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ H ثُمَّ يَدْعُو بِمَا شَاءَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَالثَّلَاثَةُ, وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ, وَابْنُ حِبَّانَ, وَالْحَاكِمُ.
(315) 51- وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ I قَالَ: قَالَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ, فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ? فَسَكَتَ, ثُمَّ قَالَ: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ, وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ, كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ, وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ, وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ, كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. وَالسَّلَامُ كَمَا عَلَّمْتُكُمْ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَزَادَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِيهِ: «فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ, إِذَا نَحْنُ صَلَّيْنَا عَلَيْكَ فِي صَلَاتِنَا».
تخريج الحديثين:
حديث فضالة بن عبيد I: رواه أحمد (6/18)، وأبو داود (1481)، والترمذي (3477)، والنسائي (3/44) وغيرهم، وإسناده صحيح.
حديث أبي مسعود I: رواه مسلم (405)، وزاد أحمد (4/119)، وابن خزيمة (711): «فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ، إِذَا نَحْنُ صَلَّيْنَا عَلَيْكَ فِي صَلَاتِنَا». وإسنادها حسن.
فقه الحديثين:
المسألة الأولى: حكم الصلاة على النبي H بعد التشهد([1]):
أولا: الصلاة على النبي H بعد التشهد الأول:
الصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم: أنه لا يشرع الإتيان بالصلاة على النبي H في التشهد الأول، وإنما يكتفى بالتحيات، فقد روى أحمد (1/459) عن ابن مسعود I أنه قال: «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ H التَّشَهُّدَ -فذكره-... قَالَ ثُمَّ إِنْ كَانَ فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ نَهَضَ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ تَشَهُّدِهِ – يعني: النبي H -، وَإِنْ كَانَ فِي آخِرِهَا، دَعَا بَعْدَ تَشَهُّدِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ، ثُمَّ يُسَلِّمَ»، وإسناده حسن. ففيه: أن النبي H كان يكتفي بالتحيات في التشهد الأول. وكذلك ما رواه أحمد (1/386) عن ابن مسعود I قال: أَنّ النَّبِيَّ H كَانَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ كَأَنَّهُ عَلَى الرَّضْفِ، قُلْتُ: حَتَّى يَقُومَ؟ قَالَ: حَتَّى يَقُومَ»، وفي إسناده ضعف، فيفهم منه: أن النبي H لم يكن يطيل القعود في هذا التشهد، فهذا دليل على أنه كان يقتصر على التحيات.
وأما ما رواه النسائي (3/267)، وأبو عوانة (2/30) عن عائشة J قالت: «كُنَّا نُعِدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ H سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ فِيمَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَتَسَوَّكُ وَيَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ لا يَجْلِسُ فِيهِنَّ إِلا عِنْدَ الثَّامِنَةِ، فَيَدْعُو رَبَّهُ وَيُصَلِّي عَلَى نَبِيِّهِ، ثُمَّ يَنْهَضُ وَلا يُسَلِّمُ، ثُمَّ يُصَلِّي التَّاسِعَةَ فَيَقْعُدُ، ثُمَّ يَحْمَدُ رَبَّهُ وَيُصَلِّي عَلَى نَبِيِّهِ H وَيَدْعُو، ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا»، وإسناده صحيح. ففيه: أن النبي H كان يصلي على نفسه في التشهد الأول في قيام الليل، فهذا يؤخذ منه التوسع في صلاة قيام الليل، فبابها أوسع، لا سيما وقد روى مسلم هذا الحديث في صحيحه دون قَوْلُهُ: «وَيُصَلِّي عَلَى نَبِيِّهِ».
وصفة صلاة الليل فيها اختلافات متعددة عن الصلاة المفروضة، ومن ذلك ما في هذا الحديث: «يُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ لا يَجْلِسُ فِيهِنَّ إِلا عِنْدَ الثَّامِنَةِ،... ثُمَّ يُصَلِّي التَّاسِعَةَ فَيَقْعُدُ»، فحمله هنا على أنه خاص بصلاة الليل أجود؛ لأن الأمر فيها أوسع، والله أعلم.
ثانيا: الصلاة على النبي H بعد التشهد الثاني:
ذهب أكثر أهل العلم إلى أن الصلاة على النبي H في التشهد الأخير تعتبر سنة مؤكدة وليست واجبة.
والدليل على مشروعيتها: ما جاء في حديث فضالة I: «سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ H رجلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ، لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ H فَقَالَ: عَجِلَ هَذَا، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ H ثُمَّ يَدْعُو بِمَا شَاءَ»، فأمره النبي H في صلاته أن يحمد الله أولًا: ثم يصلي على النبي H ثانيًا، ثم يدعو. وكذلك ما جاء في حديث أبي مسعود I في رواية: «فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ، إِذَا نَحْنُ صَلَّيْنَا عَلَيْكَ فِي صَلَاتِنَا».
وليست واجبة عندهم؛ لأن النبي H علم ابن مسعود I التشهد - كما في الصحيحين - ولم يذكر له ولمن معه من الصحابة الصلاة على النبي H، فقال له: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: (التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ، وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى
عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)، ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ»، ولو كانت الصلاة على النبي H واجبة؛ لعلمهم إياها وهم في حاجة لمعرفتها، لا سيما وقد علمهم فيه الدعاء وهو قبل السلام، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فيحمل الأمر بها على توكيد الاستحباب، وهو الأقرب، والله أعلم، ولا ينبغي تركها أبدًا.
ومذهب الشافعية، والصحيح عند الحنابلة: أنها ركن لا تصح الصلاة إلا بها؛ لأمر النبي H بها.
ولأحمد رواية بأنها واجبة تسقط في السهو ولا تسقط في العمد.
والحد المجزئ منها عند جمهور الشافعية والحنابلة: أن يقول: «اللهم صل على محمد»، فإذا اقتصر عليه؛ فقد جاء بالمأمور، والزيادة عليه مستحبة، فليس في حديث فضالة إلا الأمر بالصلاة على النبي H، ولم يعلمهم الصلاة الإبراهيمية إلا عندما سألوه، ولم يبتدئهم بها.
المسألة الثانية: حكم الدعاء قبل السلام([2]):
لا خلاف بين أهل العلم أنه يستحب للمصلي أن يدعو قبل السلام، فيتشهد، ثم يصلي على النبي H، ثم يدعو، والصحيح الذي عليه جمهور العلماء: أنه يصح بأي لفظ كان، ولا يشترط أن يكون بالمأثور من القرآن والسنة، والأصح أنه يجوز الدعاء بالمصالح الدنيوية المشروعة، وهو مذهب مالك والشافعي وراية لأحمد؛ ففي حديث ابن مسعود I: «ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ». وفي حديث فضالة بن عبيد I قال: «ثُمَّ يَدْعُو بِمَا شَاءَ»، فهذه ألفاظ عامة، فتشمل الأدعية المأثورة وغير المأثورة، وتشمل الأدعية المتعلقة بالمصالح الدنيوية والأدعية المتعلقة بالمصالح الأخروية، والعموم يحمل على عمومه، ولا يخصص ببعض أفراده إلا بدليل.
والصحيح عند الحنابلة: أنه لا يجوز من أمور الدنيا المحضة إلا ما جاء فيه نصٌّ بمثله، كالرزق الحسن والعافية.
قُلْتُ: ولو اقتصر المصلي على الدعاء بالأمور الدينية في الفريضة؛ فهو أفضل، والله أعلم.
ومن الأدعية المأثورة عن النبي H: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ، وَجِلَّهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ»، رواه مسلم من حديث أبي هريرة، والأدعية الآتية، والأدعية المأثورة أعظم وأجل وأجمع.
([1]) المحلى مسألة (374)، المجموع شرح المهذب (3/460)، الأوسط (3/213)، المغني (2/228)، فتح الباري لابن رجب (7/341، 354)، الإنصاف (2/116)، فتح باب العناية (1/267).
([2]) المجموع شرح المهذب (3/369)، الإنصاف (2/81)، فتح الباري لابن رجب (7/344).