وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ I: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ H رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا، فَقَالَ: «تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بِي, وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(403) 11- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ I قَالَ: احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ H حُجْرَةً بِخَصَفَةٍ, فَصَلَّى فِيهَا, فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ, وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ... الْحَدِيثَ, وَفِيهِ: «أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
تخريج الحديثين:
حديث أبي سعيد I: رواه مسلم (438).
حديث زيد بن ثابت: رواه البخاري (731)، ومسلم (781).
فقه الحديثين:
المسألة الأولى: شرط صحة الاقتداء بالإمام([1]):
أجمع العلماء على أنه يشترط لصحة الاقتداء بالإمام: علم المأموم تنقلات الإمام، سواء صليا في المسجد، أو في غيره.
فإذا فصلت بين الإمام والمأمومين مسافة صغيرة، كطريق أو نهر صغير؛ فالصحيح الذي عليه المالكية، والصحيح عند الشافعية، ورواية لأحمد: أنه لا يضر، ويصح الاقتداء، إذا لم يمنع هذا من سماع الإمام أو من خلفه، أو من رؤية الإمام أو من خلفه، أو من مشاهدة فعل الإمام أو فعل من خلفه، ولا يلزم رؤية أو سماع الإمام خاصة؛ فقد قال النبي H: «تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ»، أي: من بعدكم يعرف الانتقالات في الصلاة عن طريقكم.
وأما إذا كانت المسافة الفاصلة بين الإمام والمأمومين كبيرة، كنهر كبير؛ فهذا الفاصل يمنع الاقتداء بالإمام، باتفاق أهل المذاهب؛ لأن معنى (الجماعة) في الصلاة: هي الاجتماع بالمكان والفعل، وهي منعدمة هنا.
وإذا كان بين الإمام والمأموم حائل، كجدار أو باب مغلق، وكان الإمام في المسجد والمأموم خارجه؛ ففيه خلاف بين أهل العلم:
القول الأول: أن الاقتداء بالإمام يصح في هذه الحالة، إذا لم يمنع هذا الحائل من سماع الإمام أو من سماع بعض المأمومين، ولا يشترط لصحة الاقتداء مشاهدة الإمام أو مشاهدة بعض المأمومين، فيكفي سماع الصوت، وذلك لأن المراد العلم بحال الإمام، والعلم بحاله يحصل بسماع صوته أو بسماع صوت بعض ممن يصلي خلفه، فيجري مجرى الرؤية، وأيضًا كالأعمى يصح اقتداؤه بالإمام، وإن كان لا يشاهد الإمام ولا المأمومين.
فلا يشترط في هذا الحائل – كالجدار - أن يكون صغيرًا، وإذا كان بابًا أن يكون له ثقب، كالشُباك مثلًا، ما دام أن المأموم يسمع صوت الإمام أو صوت بعض من خلفه، فلا تشترط الرؤية والمشاهدة لصحة الاقتداء، وهو مذهب المالكية، ورواية لأحمد.
القول الثاني: يشترط لصحة الاقتداء أن يرى المأموم الإمام، أو بعض من خلفه، ولو في بعض أفعال الصلاة، ولا يكفي سماع صوت الإمام أو من خلفه؛ لأنه في الغالب لا يمكنه الاقتداء به؛ فعليه: إذا كان الجدار كبيرًا أو الباب مغلقًا يمنع رؤية المأموم لإمامه أو لمن خلفه؛ فلا يصح اقتداؤه به. أما إذا كان الجدار صغيرًا لا يمنع الرؤية، أو كان كبيرًا، أو له نافذة كالشباك يمكن منها رؤية الإمام أو بعض من خلفه، أو كان الباب مفتوحًا؛ فيصح الاقتداء بالإمام، وهو مذهب الحنفية والشافعية، والصحيح عند الحنابلة، واختيار اللجنة الدائمة، وهو الأحوط.
وأما إذا كان الفاصل بين الإمام والمأموم وكلاهما في المسجد؛ فيصح الاقتداء، ويكفي سماع الصوت، سواء كان المأموم بسطح المسجد أو في المنارة أو في ساحته، وعليه أهل المذاهب الأربعة، وأفتت اللجنة الدائمة بصحة الصلاة في مسجد مبني من أدوار ولا يرى الإمام إذا كان هذا الطابق تابعًا للمسجد. وقال الشيخ ابن باز في الصلاة في القبو أو دور سفلي أو علوي ولا يرى الإمام والمأمومين خلفه: «لا حرج، ما دام تابعًا للمسجد، والاقتداء ممكن بسبب سماع صوت الإمام». وقال في صلاة النساء في غرفة في الدور الأرضي مع جماعة المسجد: «لا يصح؛ لأن من شرط الاقتداء لمن كان خارج المسجد: أن يرى الإمام أو المأمومين([2])».
وقد جاء عن زيد بن ثابت I أنه قال: «اِحْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ H حُجْرَةً بِخَصَفَةٍ، فَصَلَّى فِيهَا، فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ، وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ»، أي: حوط له موضعًا في المسجد يصلي فيه.
والخصفة: هي الحصير من سعف النخل
فتتبع إليه رجال: أي تتابع وجاء إليه بعض الرجال.
يصلون بصلاته: أي يقتدون ويأتمون به في الصلاة.
وهذا الخلاف بين العلماء فيما إذا كان الحائل يمنع اتصال الصفوف، أما إذا كانت الصفوف متصلة، مع وجود الحائل بين الإمام والمأموم؛ فصلاة المأموم خلف الإمام صحيحة باتفاق الأئمة، سواء كان هذا في المسجد أو خارج المسجد.
وأما الصلاة في البيوت متابعة للإمام؛ فلا تصح، وإن كانت البيوت قريبة من المسجد؛ لأن هذا ينافي معنى الاجتماع للاختلاف في المكان، ولو كان يسمع صوت الإمام، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، واختارته اللجنة الدائمة([3])، وابن عثيمين([4]).
المسألة الثانية: الأفضل في مكان تأدية صلاة النافلة([5]):
الصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم: أن الأفضل في صلاة النافلة أن تؤدى في البيت، إلا النوافل التي هي من شعائر الإسلام، وهي صلاة العيد والكسوف والاستسقاء والتراويح، فقد جاء عن النبي H أنه قال: «أَفْضَلُ صَلَاةِ المَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا المَكْتُوبَةَ»، أي: الأفضل للمرء أن يصلي النافلة في بيته، وهذا لفظ عام، وتجوز صلاة هذه النوافل جماعة أحيانًا عند جمهور العلماء، فقد جاء فعله عن رسول الله ولم يداوم عليها، بل كان أكثر تنفله منفردًا.
ولصلاة النافلة في البيوت فوائد، منها:
الأول: الامتثال لتوجيه النبي H، فقد قال H: «أَفْضَلُ صَلَاةِ المَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا المَكْتُوبَةَ».
الثاني: أن الله يجعل له من صلاته في بيته خيرًا - أي: أجرًا وفضلًا - كما جاء في حديث جابر I عند مسلم.
الثالث: أنه أبعد عن الوقوع في الرياء.
الرابع: أن صلاة النافلة في البيت تكون سببًا في حياة البيوت، فلا تصبح شبيهة بالمقبرة.
أما صلاة التراويح؛ فجمهور العلماء يرون أن الأفضل أن تصلى في المسجد في جماعة؛ لأدلة منها:
الأول: ما جاء عن أبي ذر I قال: «صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ H رَمَضَانَ، فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ،... فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ»، رواه أحمد (5/163)، وأبو داود (375)، والنسائي (3/83)، والترمذي (806)، وابن ماجه (1327)، وإسناده صحيح على شرط مسلم.
والشاهد: أنه جعل قيامه مع إمامه بقيام ليلة كاملة.
الثاني: أن هذا الذي كان يفعله الصحابة بعد عهد رسول الله H، ففي صحيح البخاري أن عمر جمع الناس في صلاة التراويح على إمام واحد يصلي بهم في المسجد، قال عمر I: «إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ».
وأما ما جاء في حديث زيد بن ثابت I أن النبي H «صَلَّى فِي لَيَالِيَ حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ، ثُمَّ فَقَدُوا صَوْتَهُ لَيْلَةً، فَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ نَامَ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَتَنَحْنَحُ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَا زَالَ بِكُمُ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ، فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ»، فظاهره: أن الأفضل في صلاة التراويح أن تكون في البيت.
ولكن يجاب عليه: بأن النبي H إنما ترك الصلاة بهم خشية أن تفرض عليهم صلاة التراويح في العشر الأواخر من رمضان، فقد جاء في هذا الحديث أن النبي H قال: «مَا زَالَ بِكُمُ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ...، فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ».
وكذلك في الصحيحين من حديث عائشة J أن النبي H قال لهم: «قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ».
([1]) المجموع شرح المهذب (4/309)، المغني (3/44)، مجموع الفتاوى (23/404)، الإنصاف (2/293)، فتح الباري لابن رجب (6/298)، حاشية الدسوقي (1/537)، الموسوعة الفقهية (6/23)، أحكام الإمامة لعبد المحسن المنيف (ص/379).
([2]) فتاوى اللجنة الدائمة (6/235)، (7/341)، مجموع فتاوى ابن باز (12/215).
([3]) فتوى رقم (2437).
([4]) المجموع الثمين (15/210).
([5]) شرح مسلم (6/60)، المجموع شرح المهذب (4/31، 35، 55)، مجموع الفتاوى (2/224)، (23/414)، فتح الباري (2/453)، (4/781)، الموسوعة الفقهية (27/136، 167).