- وَعَنْ عَائِشَةَ J قَالَتْ: شَكَا النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ H قُحُوطَ الْمَطَرِ, فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ, فَوُضِعَ لَهُ فِي الْمُصَلَّى, وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ, فَخَرَجَ حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ, فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ, فَكَبَّرَ وَحَمِدَ اللَّهَ, ثُمَّ قَالَ: «إِنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدَبَ دِيَارِكُمْ, وَقَدْ أَمَرَكُمْ اللَّهُ أَنْ تَدْعُوَهُ, وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ, ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ, مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ, لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ, اللَّهُمَّ أَنْتَ اللَّهُ, لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ, أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ, أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ, وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ قُوَّةً وَبَلَاغًا إِلَى حِينٍ»، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ, فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبِطَيْهِ, ثُمَّ حَوَّلَ إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ, وَقَلَبَ رِدَاءَهُ, وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ, ثُمَّ أَقْبِلَ عَلَى النَّاسِ وَنَزَلَ, وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ, فَأَنْشَأَ اللَّهُ سَحَابَةً, فَرَعَدَتْ, وَبَرَقَتْ, ثُمَّ أَمْطَرَتْ.
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ: «غَرِيبٌ, وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ».
وَقِصَّةُ التَّحْوِيلِ فِي «الصَّحِيحِ» مِنْ:
(513) 03- حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَفِيهِ: «فَتَوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ, يَدْعُو, ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ, جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ».
(514) 04- وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ مُرْسَلِ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ: «وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ؛ لِيَتَحَوَّلَ الْقَحْطُ».
تخريج الأحاديث:
الحديث الأول: حديث عائشة J، رواه أبو داود (1173)، وفي سنده خالد بن نزار، مختلف فيه، والأقرب أنه حسن الحديث، فالسند حسن([1]).
الحديث الثاني: حديث عبد الله بن زيد I، رواه البخاري (1024)، ورواه مسلم (894).
الحديث الثالث: رواه الدارقطني (2/66) عن أبي جعفر الباقر مرسلًا، ورواه الحاكم (1/326) موصولًا عن أبي جعفر عن جابر I، وإسناده حسن.
فقه الأحاديث:
المسألة الأولى: وقت صلاة الاستسقاء([2]):
الصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم: أن صلاة الاستسقاء تشرع في أي وقت من اليوم، فلا دليل على أن لها وقتًا معينًا لا يتجاوز، ما عدا الأوقات التي نهى الشرع عن الصلاة فيها، كبعد الفجر وبعد العصر. والأفضل عند الجمهور أن تصلى في أول النهار بعد طلوع الشمس، فهذا الذي فعله النبي H، ففي حديث عائشة J: «فَوُضِعَ لَهُ فِي المُصَلَّى، وَوَعَدَ اَلنَّاسَ يومًا يَخْرُجُونَ فِيهِ، فَخَرَجَ حِينَ بَدَا حَاجِبُ اَلشَّمْسِ»، أي: حين ظهر ضوء الشمس.
المسألة الثانية: الجهر بالقراءة في صلاة الاستسقاء([3]):
لا خلاف بين أهل العلم أن صلاة الاستسقاء يجهر فيها بالقراءة، ففي حديث عبد الله بن زيد I: «ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، جَهَرَ فِيهِمَا بِالقِرَاءَةِ».
المسألة الثالثة: الخطبة عند الاستسقاء([4]):
لا خلاف بين أهل العلم في مشروعية الخطبة عند الاستسقاء، فقد كان النبي H إذا استسقى خطب بالناس.
والصحيح: أنها خطبة واحدة، فليس هنالك دليل على أنه يخطب خطبتين كما يخطب في الجمعة والعيد، وهو الصحيح عند الحنابلة، ومذهب الظاهرية وغيرهم.
ومذهب المالكية والشافعية، ورواية لأحمد: يخطب خطبتين، قياسًا على الجمعة والعيد.
ولا خلاف بين العلماء أن الإمام يكثر في خطبته من الدعاء والاستغفار.
واختلفوا هل فيها وعظ وتذكير، أم هو دعاء وتضرع فقط؟
والصحيح - والله أعلم - أن خطبة الاستسقاء عبارة عن دعاء وتضرع واستغفار، يبدأ الإمام فيها بالحمد والثناء، ويذكرهم فيها بسبب خروجهم، فيقول مثلا: «ما خرجتم إلا لأن الجدب قد حصل ومسكم الضر» وينصحهم ويحثهم على الدعاء والاستغفار والتضرع، ولهذا سميت (خطبة)، لكنها لا تشتمل على الوعظ والتذكير وبيان الأحكام، وهو قول أبي حنيفة، والمنصوص عن أحمد؛ لأنه المنقول عن النبي H، ففي الصحيحين من حديث عبد الله ابن زيد I: «خَرَجَ النَّبِيُّ H يَسْتَسْقِي فَتَوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ»، فلم يذكر عنه H إلا الدعاء، وكذلك في حديث عائشة J أن النبي H حمد وأثنى على الله D وبيَّن للناس سبب خروجهم فقال: «إِنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدَبَ دِيَارِكُمْ»، ثم حث الناس على الدعاء فقال: «وَقَدْ أَمَرَكُمْ اَللَّهُ أَنْ تَدْعُوَهُ، وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ»، ثم بدأ H بالتضرع لله والدعاء له.
وفي حديث ابن عباس L أنه قال: «لَمْ يَخْطُبْ خُطْبَتَكُمْ هَذِهِ»، أي: أن النبي H لم تكن خطبته تشبه خطبة العيد والجمعة، إنما هو دعاء وتضرع واستغفار.
وظاهر كلام أكثر العلماء: أن فيها وعظًا وإرشادًا كما في خطبة الجمعة والعيد.
المسألة الرابعة: متى يخطب الإمام([5])؟
ذهب جماعة من أهل العلم: إلى أن الإمام في الاستسقاء يبدأ بالخطبة، ثم يصلي الركعتين، ففي حديث عبد الله بن زيد I قال: «فَتَوَجَّهَ إِلَى القِبْلَةِ، يَدْعُو، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ»، وفي حديث عائشة J أن النبي H خطب الناس ودعا، ثم قالت: «ثُمَّ أَقْبِلَ عَلَى اَلنَّاسِ وَنَزَلَ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ»، وهو مذهب الظاهرية، وبعض السلف، وبعض أئمة الحديث، ورواية للإمام أحمد.
وذهب جمهور العلماء إلى أن الصلاة في الاستسقاء مقدمة على الخطبة، فيصلون أولًا، ثم يخطب الإمام، فقد ذكر ابن عباس L أن النبي H كان يصلي الاستسقاء كما يصلي العيد، والمعروف يوم العيد أن الإمام يبدأ بالصلاة ثم بالخطبة، ولما جاء عن أبي هريرة I قال: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ H يومًا يَسْتَسْقِي، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ بِلَا أَذَانٍ، وَلَا إِقَامَةٍ، ثُمَّ خَطَبَنَا»، رواه ابن ماجه (1268)، وإسناده ضعيف([6])، وجاء في صحيح مسلم أن عبد الله بن زيد I خرج يستسقي، فصلى ركعتين، ثم خطب.
والقول الأول أرجح؛ لأن دليلهم أصح وأظهر. وما جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن زيد I؛ فهو من فعله، والذي في الصحيحين عنه عن النبي H أنه دعا ثم صلى ركعتين.
والأمر واسع والله أعلم.
المسألة الخامسة: كيفية الدعاء عند الاستسقاء([7]):
يستحب عند دعاء الاستسقاء أن يفعل الآتي:
- استقبال القبلة، اتفق الفقهاء على أنه يستحب للإمام إذا دعا في خطبة الاستسقاء أن يتوجه إلى القبلة، فيدعو وهو مستقبل للقبلة، لأن هذا الذي فعله النبي H، ففي حديث عبد الله بن زيد I قال: «فَتَوَجَّهَ إِلَى القِبْلَةِ، يَدْعُو»، وفي حديث عائشة J قالت: «ثُمَّ حَوَّلَ إِلَى اَلنَّاسِ ظَهْرَهُ»، أي: أنه استقبل القبلة، فكان وجهه إلى القبلة، وظهره إلى الناس.
- رفع اليدين عند الدعاء، أجمع العلماء على أنه يستحب رفع اليدين في دعاء الاستسقاء، فهذا الذي فعله النبي H، وفيه أحاديث منها: حديث عائشة J قالت: «ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبِطَيْهِ».
وأما كيفية رفعهما؛ فسيأتي الكلام عليه.
- تحويل الرداء عند الدعاء، ذهب عامة الفقهاء - إلا من شذ - إلى أنه يستحب للإمام تحويل ردائه عند الدعاء - أي: قلبه -، ففي حديث عبد الله بن زيد I: «فَتَوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ»، وفي حديث عائشة: «وَقَلَبَ رِدَاءَهُ»، ونحوه من حديث جابر.
وذهب جمهور أهل العلم إلى أنه يستحب للناس أيضًا أن يحولوا أرديتهم اقتداء بالإمام، لأن ما فعله النبي H يكون سنة للإمام ولمن معه، ما لم يدل دليل على اختصاصه بالإمام دون غيره، ولأن الغرض من تحويل الرداء عند الدعاء: التفاؤل بقلب الحال، فيقلب الله ما بهم من جدب وقحط إلى خصب ورخاء، ففي حديث جابر I عند الحاكم قال: «اسْتَسْقَى
رَسُولُ اللَّهِ H وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ لِيَتَحَوَّلَ الْقَحْطُ»، وهذا المعنى كما أنه متحقق عند تحويل الإمام لردائه؛ فهو – أيضًا - متحقق عند تحويل الناس. وقد جاء في بعض طرق حديث عبد الله بن زيد أن الناس حولوا مع إمامهم، رواه أحمد (4/41)، ولكن هذه الزيادة ضعيفة شاذة، فلا يثبت هذا من حيث الدليل، وإنما يثبت من حيث المعنى، وهو الراجح.
وقد اختلف الفقهاء في كيفية تحويل الرداء؟
واختار جمهور العلماء أن يجعل ما على اليمين على اليسار، وما على اليسار على اليمين، فلا يحتاج إلى جعل عاليه سافلة ولا العكس، فقد جاء عن أبي هريرة I أن النبي H عندما خرج يستسقي بهم قال: «ثُمَّ قَلَبَ رِدَاءَهُ، فَجَعَلَ الْأَيْمَنَ عَلَى الْأَيْسَرِ، وَالْأَيْسَرَ عَلَى الْأَيْمَنِ»، وفي سنده ضعف، رواه ابن ماجه (1268) وغيره. والأخذ به أولى من الأخذ برأي الرجال، فهو أصح ما في الباب.
والرداء: هو الثوب الكبير يوضع على المنكبين والكتفين.
([1]) حسنه الألباني في الإرواء (668).
([2]) الأوسط (4/316)، التمهيد (17/175)، المغني (3/337)، فتح الباري لابن رجب (9/208).
([3]) فتح الباري (3/207)، شرح مسلم (6/166)، فتح الباري لابن رجب (9/201).
([4]) المغني (3/338)، فتح الباري لابن رجب (9/198-203)، المحلى [مسألة] (554)، رحمة الأمة في اختلاف الأئمة (ص/143).
([5]) المحلى [مسألة] (554)، المغني (3/338)، فتح الباري (3/189، 207)، شرح مسلم (6/166)، فتح الباري لابن رجب (9/198، 203).
([6]) ضعفه الألباني في ضعيف ابن ماجه (261).
([7]) المغني (3/339، 341)، بداية المجتهد (1/216)، فتح الباري لابن رجب (9/209).