وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ I قَالَ: أَلْحَدُوا لِي لَحْدًا, وَانْصِبُوا عَلَى اللَّبِنِ نُصْبًا, كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ H. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(578) 47- وَلِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ جَابِرٍ نَحْوُهُ, وَزَادَ: وَرُفِعَ قَبْرُهُ عَنِ الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ. وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
تخريج الحديثين:
حديث سعد بن أبي وقاص I: رواه مسلم (966).
وحديث جابر I: رواه ابن حبان (6635)، والبيهقي (3/410)، وقد اختلف في وصله وإرساله، والصحيح فيه الإرسال. وروى أبو داود في مراسيله (ص/211) عن صالح بن أبي صالح المخزومي قال: «رَأَيْتُ قَبْرَ النَّبِيِّ H شِبْرًا، أَوْ نَحْوًا مِنْ شِبْرٍ»، وهذا مرسل، وأيضًا صالح المخزومي ضعيف، فالحديث لا يثبت.
فقه الحديثين:
المسألة الأولى: اللحد والشق في القبر([1]):
أجمع العلماء على جواز اللحد في القبر - وهو الحفر في أحد جانبي القبر-، وعلى جواز الشق في القبر - وهو الحفر في وسط القبر -؛ لوجود كلا الأمرين في عهد النبي H، فقد جاء عن أنس قال: «لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ H كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَلْحَدُ، وَآخَرُ يَضْرَحُ...». رواه أحمد (3/139)، وابن ماجه (1557)، وسنده حسن، والضرح هو الشق.
واختلف العلماء في الأفضل، والصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم: أن اللحد أفضل من الشق، لأنه الذي صنع للنبي H، كما قاله سعد بن أبي وقاض I، ولما جاء عن ابن عباس عن النبي H أنه قال: «اللَّحْدُ لَنَا، وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا»، رواه أحمد (4/357، 359)، وأبو داود (3206)، وابن ماجه (1554، 1627) وغيرهم، وهو حديث حسن بمجموع طرقه.
المسألة الثانية: وضع الميت في قبره على جنبه الأيمن ووجهه جهة القبلة([2]):
أجمع العلماء على مشروعية توجيه الميت إلى القبلة في قبره، فقد جرى عمل أهل الإسلام من عهد النبي H إلى يومنا هذا عليه، وقبر رسول الله H وأبي بكر وعمر L إلى القبلة.
واختلفوا في حكمه؛ فالمشهور عند الشافعية والحنابلة: أنه يجب توجيه الميت قِبَل القبلة في قبره، فهي طريقة المسلمين.
وذهب المالكية والحنفية إلى استحبابه وعدم وجوبه، وهو وجه للشافعية والحنابلة، واختاره ابن حزم؛ لعدم ثبوت دليل على وجوبه، وهو الأرجح، ولا ينبغي أن يتعمد أن يوجه الميت إلى غير القبلة، حتى لا نخالف ما عليه عمل المسلمين، وسدًّا لباب الفتنة.
ولا خلاف بين أهل العلم أنه يستحب جعل الميت في قبره على جنبه الأيمن، تشبيهًا له بالنائم، ولأنه مأثور عن السلف، ولأن النبي H كان يحب التيمن، وليس هنالك دليل خاص فيه.
المسألة الثالثة: نصب اللِّبن في داخل القبر([3]):
الصحيح الذي عليه أكثر أهل العلم: أنه يستحب نصب اللِّبن في اللحد أو الشق بعد وضع الميت حتى يمنع ذلك وصول التراب إلى الميت، ثم يوضع عليه التراب، وهذا هو الذي صنِع بالنبي H، فقد قال سعد بن أبي وقاص I: «وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنِ نَصْبًا، كَمَا فُعِلَ بِرَسُولِ اللهِ H». ولا
يختار الله D لنبيه إلا الأكمل.
المسألة الرابعة: تسوية القبر([4]):
لا خلاف بين أهل العلم على الأمر بتسوية القبور، وأنها لا تكون مشرفة، أي: عالية، ففي صحيح مسلم عن علي بن أبي طالب I قال: «أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ H... وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ»، وفي صحيح مسلم أيضًا عن فضالة I قال: «فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ H كَانَ يَأْمُرُنَا بِتَسْوِيَةِ الْقُبُورِ».
ولا خلاف بين العلماء على جواز تسنيم القبر كهيئة سنام البعير، أو تسطيحه كشكل مستطيل فوق الأرض بما بقي من التراب الذي أخرج من القبر عند حفره، بدون إشراف ولا يزاد عن الشبر، ولا يجتلب ترابًا من غيره، فقد جاء عن جابر I: «وَرُفِعَ قَبْرُهُ - قبر النبي H - عَنِ الأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ».
واختلفوا في الأفضل: التسنيم، أو التسطيح؟
والراجح: ما عليه جمهور أهل العلم: أنه يستحب التسنيم، فقد روى البخاري (1390) عن سفيان التمَّار: «أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ H مُسَنَّمًا»، وروى البيهقي (4/3) عن القاسم بن محمد قال: «دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّاهُ، اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ النَّبِيِّ H وَصَاحِبَيْهِ، فَكَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلاثَةٍ قُبُورٍ لا مُشْرِفَةٍ، وَلا لاطِئَةٍ –أي: ملصوقة بالأرض- مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ»، وإسناده ضعيف، فأثر سفيان التمار أصح.
([1]) المجموع شرح المهذب (5/287)، الأوسط (5/450)، المغني (3/427)، المحلى [مسألة] (576).
([2]) المحلى [مسألة] (615، 616)، المغني (3/428)، المجموع شرح المهذب (5/293)، الإنصاف (2/546).
([3]) المراجع السابقة.
([4]) المغني (3/437)، شرح مسلم (7/31)، سنن البيهقي (4/4)، فتح الباري (3/630).