وَلِمُسْلِمٍ عَنْ سعد بن أبي وقاص : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ H أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ, وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ, وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ.
تخريج الحديث:
حديث جابر I: رواه مسلم (970).
فقه الحديث:
المسألة الأولى: تجصيص القبر أو تطيينه([1]):
لا خلاف بين أهل العلم على أن تجصيص القبر بالجير أو غيره منهي عنه؛ لما فيه من الزينة التي لا حاجة للميت إليها، وفيه تضييع للمال بلا فائدة.
واختلفوا في هذا النهي؛ فقال جمهور الفقهاء: هو نهي للكراهة.
وقال جماعة من أهل العلم: هو نهي للتحريم؛ لأن هذا هو الأصل في النهي، وربما كان ذريعة لتعظيمه، فيعبد مع الزمان من قِبَل الجهلة، واختاره ابن حزم وابن القيم والصنعاني والشوكاني وابن عثيمين([2])، وهو الراجح.
واختلفوا في تطيين القبر، وهو تلبيس القبر بالطين، والطين: هو التراب يخلط بالماء؛ فذهب المالكية، وأكثر الحنفية، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة: إلى كراهيته، قياسًا على التجصيص، وقد نهى النبي H عن تجصيص القبر، وقبر رسول الله H والصحابة لم تكن تطيَّن.
وقال الحنابلة والشافعية في المشهور عندهم وبعض الحنفية: لا بأس بتطيين القبر، أي: تلبيسه بالطين حتى يثبت ويتماسك؛ فلا دليل ينهى عنه، وإنما نهى الشرع عن التجصيص خاصة، والتطيين يحفظ القبر من دون زينة وتضييع للمال، فلم يشبه التجصيص؛ فلا يقاس عليه، وهو الأرجح، والله أعلم.
المسألة الثانية: البناء على القبور([3]):
أولا: بناء المساجد على القبور.
اتفق الأئمة على عدم مشروعيته، فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي H لعن اليهود والنصارى لاتخاذهم القبور مساجد، أي: ببناء المساجد عليها، وقصد الصلاة إليها، جاء هذا من حديث عائشة وأبي هريرة L وغيرهما، وجاء في آخر حديث عائشة J أنها قالت: «يُحَرِّمُ ذَلِكَ عَلَى أُمَّتِهِ»، وقد اتفق علماء الإسلام على هذا المعنى.
ولا يشكل عليه وجود قبر النبي H وصاحبيه L في المسجد النبوي، لأن النبي H وصاحبيه L لم يدفنوا في المسجد النبوي، وإنما دفنوا في حجرة عائشة J، خارج المسجد، وإنما أدخلت عند توسعة المسجد التي قام بها بعض أمراء بني أمية، وأخطأ في ذلك لمخالفته السنة، فلا ينبغي لعاقل أن يحتج بما خالف السنة([4]).
ثانيا: بناء غير المساجد على القبور.
اختلف الفقهاء في حكم بناء القباب أو القوائم أو البيوت أو غيرها على القبور؛ فقال جمهور الفقهاء: يكره ذلك، فقد نهى النبي H عن البناء على القبور، والنهي هنا للكراهة فقط، لأن الغرض منه: ترك تزيين القبور والمحافظة على المال من الضياع بلا فائدة، ويكون هذا البناء محرمًا إذا كان في المقبرة العامة، وهي المقبرة المسبلة أو الموقوفة؛ لما فيه من تضييق على الناس، كما نص عليه الشافعية وجماعة من المالكية.
وذهب جماعة من علماء المالكية والشافعية والحنابلة إلى تحريم البناء على القبور مطلقًا، ونص عليه جماعة من المحققين كابن القيم والصنعاني والشوكاني، وعليه علماء الدعوة السلفية قاطبة، وصرح جماعة من أهل العلم ببدعيته، فقد نهى النبي H عن البناء على القبور؛ ففي حديث جابر I «وَأنْ يُبْنَى عَلَيْهِ»، والنهي عند الإطلاق للتحريم، ولم يثبت صارف لهذا النهي عن التحريم، ولأن هذا الفعل وسيلة للإشراك بالله، فإن القبور إذا بني عليها عُظِّمت، وقد وقع فيه كثير من جهال المسلمين، وهو الراجح.
وأما قبر رسول الله H وصاحبيه L؛ فلم يُبْنَ عليها، وإنما دفنوا داخل حجرة عائشة J مع ما فيه من مصلحة عظمى، وبقية قبور الصحابة في المقابر مكشوفة ظاهرة.
المسألة الثالثة: الكتابة على القبور([5]):
كأن يكتب عليه اسم الميت، أو تكتب عليه آيات قرآنية أو أدعية نبوية، وقد ذهب جمهور العلماء إلى كراهية الكتابة على القبور، وصرح بعضهم ببدعيته، فلم يفعله أحد من الصحابة، وإنما هو أمر أُحدِث بعد ذلك، وقد جاء في حديث جابر I عند النسائي (2026)، والترمذي (1058) وغيرهما زيادة: «أَوْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ»، وليست هذه الزيادة في صحيح مسلم، وقد انفرد بها بعض الثقات.
والراجح أن هذا العمل بدعة، لم يعمله أحد من الصحابة.
تنبيه: حكم القعود على القبر سبق الكلام عليه في باب (شروط الصلاة).
([1]) المغني (3/439)، المجموع شرح المهذب (5/298)، بدائع الصنائع (1/320)، المحلى [مسألة] (577)، شرح مسلم (7/32)، زاد المعاد (1/524)، الإنصاف (2/549)، سبل السلام (2/225)، نيل الأوطار (4/83).
([2]) الشرح الممتع (5/458).
([3]) المراجع السابقة، ومجموع الفتاوى (3/398)، (22/194)، فتح الباري لابن رجب (3/194، 248)، فتح الباري (3/569).
([4]) فتاوى نور على الدرب لابن باز (1/204)، (2/1139).
([5]) انظر المراجع السابقة في المسألة الأولى.