عَنْ عَائِشَةَ J قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ H عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ, فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ, وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ, وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ, وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ H بِالْحَجِّ, فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَّ, وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ, أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
تخريج الحديث:
حديث عائشة J: رواه البخاري (1562)، ومسلم (1211).
فقه الحديث:
المسألة الأولى: أنواع المناسك وحكمها([1]):
هي ثلاثة:
الأول: الإفراد، وهو أن يهل بالحج مفردًا، ويبقى على إحرامه إلى يوم النحر.
الثاني: التمتع، وهو أن يهل بالعمرة، فإذا انتهى منها أحل، ثم أحرم بالحج يوم التروية –أي: يوم الثامن من ذي الحجة-.
الثالث: القران، وهو أن يهل بالعمرة والحج جميعًا، أو يهل بالعمرة، ثم يدخل عليها الحج قبل الشروع في طواف العمرة، ويبقى على إحرامه إلى يوم النحر.
والدليل على هذه المناسك الثلاثة: ما جاء عن عائشة J قالت: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ H عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ H بِالحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَّ، وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، أَوْ جَمَعَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ فَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ»، وقد استقر الإجماع على مشروعية القران والتمتع؛ لثبوتهما في الكتاب الكريم، قال تعالى: ﴿ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلۡعُمۡرَةِ إِلَى ٱلۡحَجِّ فَمَا ٱسۡتَيۡسَرَ مِنَ ٱلۡهَدۡيِ ﴾ [البقرة: ١٩٦]، وفي السنة المستفيضة، وما جاء عن الخلفاء: أبي بكر وعمر وعثمان M من النهي عن العمرة مع الحج، والأمر بإفراد الحج قد خالفهم في ذلك أكثر الصحابة، وأيضًا هذا منهم يحمل على الأفضل لا الوجوب حتى لا يهجر البيت، فيحج الناس في سفرة، ويعتمرون في سفرة أخرى.
والصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم: جواز الحج مفردًا، وهو الذي كان يفعله أهْل الجاهلية، وإنما أمر النبي H الصحابة من أهَل بحج أن يفسخ، ويجعلها عمرة؛ ليبطل ما زعمه أهل الجاهلية من حرمة العمرة في أشهر الحج، وأنها من أفجر الفجور، فأمر الصحابة أن يجعلوها عمرة، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس L، وليس المراد منه: أن النبي H يمنع الإفراد بالحج ويوجب العمرة معه، وقد صح عن الخلفاء الثلاثة الأمر بالحج مفردًا.
المسألة الثانية: حج رسول الله H([2]):
اختلف العلماء في النسك الذي اختاره النبي H لنفسه؛ فقال بعضهم: حج مفرِدًا، وهو المشهور عند فقهاء المالكية والشافعية، فعن عائشة J: «وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ H بِالحَجِّ»، وفي صحيح مسلم عن ابن عمر L قال: حج رسول الله مفردًا.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن النبي H حج قارنًا، وهو مذهب الحنفية، والمذهب عند الحنابلة، ووجه للمالكية وللشافعية، وعليه أئمة أهل الحديث، وجماعة من المحققين، كابن حزم وابن تيمية ابن القيم وابن حجر، فقد جاء عن جماعة من الصحابة أن النبي H حج قارنًا، فعن أنس I قال: «ثُمَّ أَهَلَّ -رسول الله- بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ». وعن عمران I قال: «وَاعْلَمْ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ H قَدْ جَمَعَ بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ»، وعن حفصة J قالت: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ ؟»، وكلها في الصحيحين، وفي البخاري عن عمر I قال رسول الله H: «أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي، فَقَالَ:... قُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ»، ويحمل ما جاء عن بعض الصحابة انه حج مفردًا بأنه أهل أولًا بالحج، ثم أدخل عليه العمرة فأصبح قارنًا، أو أن معناه: أنه أفرد أعمال الحج، فأحرم إحرامًا واحدًا، وسعى سعيًا واحدًا، وطاف طوافا واحدًا، وهذه هي صفة القارن - كما سيأتي -، وهذا هو الراجح.
المسألة الثالثة: أفضل المناسك الثلاثة([3]):
اختلف العلماء في أفضل هذه المناسك، فقال بعض أهل العلم: أفضلها الإفرا؛ لأنه الذي نقل عن النبي H أنه فعله، ولأن الخلفاء الراشدين كانوا يأمرون به، وهو المشهور عند المالكية والشافعية.
وقال بعض أهل العلم: القران أفضل؛ لأنه الذي صح عن النبي H أنه فعله، ولا يختار له ربه إلا الأفضل، وهو مذهب الحنفية، ووجه للشافعية.
وقال بعض أهل العلم: التمتع أفضل، فقد أمر النبي H من لم يسق الهدي من الصحابة أن يتحلل من حجه الذي أهَل به، ويجعله عمرة، ثم يحرم بالحج بعد ذلك، وتمنى النبي H أن يكون أحرم بهذا وأسف على فواته، فهو آخر الأمرين من رسول الله H، ففي الصحيحين عن جابر I قال: قال رسول الله H: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ»، فبيَّن H أنه لو كان مستقبلًا لِما استدبره من أمر الإحرام؛ لأحرم بعمرة ولم يسق الهدي، وأيضًا لا يتمنى H إلا الأفضل، ولا يختار لنفسه الانتقال من الأفضل إلى المفضول.
وهو مذهب جماعة من السلف، والمشهور عند الحنابلة، واختاره ابن حزم، وعلماء اللجنة الدائمة([4]) والشيخ الألباني([5])،وهو الأقرب.
وجمع شيخ الإسلام ابن تيمية بين هذه الأقوال وجعله رواية للإمام أحمد، فقال: «الإفراد أفضل من التمتع والقران لمن أفرد الحج بسفرة وأفرد العمرة بسفرة، لأنه الذي كان يأمر به الخلفاء لأجل هذا المعنى.
ومن كان سيجمع بين الحج والعمرة بسفرة واحدة؛ فالتمتع في حقه أفضل، لأنه الذي أمر النبي H الصحابة أن يفعلوه، إلا إذا ساق الهدي معه، فالقران يكون أفضل له، لأنه الذي اختاره الله لنبيه H، وهو جمع جيد.
([1]) المحلى مسألة (833)، المجموع شرح المهذب (7/152)، المغني (5/82)، الاستذكار (11/123)، مجموع الفتاوى (26/33)، زاد المعاد (2/141)، فتح الباري (4/209).
([2]) انظر المراجع السابقة.
([3]) انظر المراجع السابقة.
([4]) فتاواها (11/160).
([5]) مناسك الحج (ص/346).