قوله H: فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنَى, وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ H فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ, وَالْعَصْرَ, وَالْمَغْرِبَ, وَالْعِشَاءَ, وَالْفَجْرَ, ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ، فَأَجَازَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ, فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا.
حَتَّى إِذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ, فَرُحِلَتْ لَهُ, فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي, فَخَطَبَ النَّاسَ.
ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ, فَصَلَّى الظُّهْرَ, ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ, وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا.
ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ, وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ, فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ, وَذَهَبَتْ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا, حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ, وَدَفَعَ, وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ, وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى: «أَيُّهَا النَّاسُ, السَّكِينَةَ, السَّكِينَةَ» , كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ».
فقه الفقرة الثالثة من الحديث:
المسألة الأولى: متى يُهلّ المتمتع والمقيم بمكة بالحج([1])؟
الصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم: أن الأفضل أن يهل المتمتع أو المقيم بمكة للحج يوم التروية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، فعن جابر I قال: «فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالْحَجّ»، ويجوز الإهلال قبل ذلك.
المسألة الثانية: أعمال الحاج يوم التروية([2]):
أجمع العلماء على أن الحاج يتوجه يوم التروية إلى منى، فيبقى فيها ويبيت تلك الليلة فيها، ويصلي الخمس الصلوات في منى، وينزل من منى حيث شاء، وهذا كله سنة وليس بواجب، فهو من فعله H ولم يأمر به، ففي حديث جابر I: «فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنَى، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ H فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ، وَالعَصْرَ، وَالمَغْرِبَ، وَالعِشَاءَ، وَالفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ، فَأَجَازَ»، أي: اندفع وانطلق منها.
المسألة الثالثة: الوقوف في عرفة([3]):
عرفة مكان من الحل، وهو مشعر من مشاعر الحج، وأجمع العلماء على أن الوقوف فيه ركن من أركان الحج، فعن عبد الرحمن بن يعمر I قال: قال رسول الله H: «الْحَجُّ عَرَفَةُ»، رواه أحمد (4/335)، وأبو داود (2949)، والترمذي (889)، وإسناده صحيح.
فعليه: من لم يقف في عرفة ساعة من نهار اليوم التاسع من ذي الحجة، أو ساعة من ليلة اليوم العاشر منه؛ فلا يصح حجه بالإجماع، وسيأتي فيما بعد الكلام على بداية الوقوف في عرفة ووقت الخروج منه.
المسألة الرابعة: النزول بـ«نمرة»([4]):
يستحب الجلوس بـ«نمرة» -وهي موضع بقرب عرفة- قبل الدخول إلى عرفة، فقد ضُرب للنبي H قبة في «نمرة» فنزل بها، وليست «نمرة» من عرفة، وهو المشهور عند الشافعية والحنابلة. وقال النووي: «تطابقت عليه كتب العلماء». فليحذر الحاج من البقاء فيها دون الدخول إلى عرفة.
المسألة الخامسة: أعمال الحاج يوم عرفة([5]):
يستحب للحاج يوم عرفة أن يصلي الظهر والعصر جمع تقديم بإجماع العلماء، ويستحب له أن يجمع بينهما بأذان واحد وإقامتين، وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الراجح، فهو الذي جاء عن النبي H، فعن جابر I قال: «ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى العَصْرَ».
ويستحب للإمام الخطبة للحجيج يوم عرفة، بعد زوال الشمس قبل صلاة الظهر، ليعلم الناس ما يحتاجون إليه وما يتعلق بحجهم، ففي حديث جابر I: «فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي، فَخَطَبَ النَّاسَ» وهو مذهب الجمهور، وهو الراجح.
ويستحب للحاج أن يستقبل القبلة، ويكثر من الذكر والدعاء والاستغفار، ولا يقصر في ذلك، فهذه هي وظيفة هذا اليوم.
ومن أفضل ما يقوله: ما جاء عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله H: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»، رواه الترمذي (3596) وغيره، وهو حديث حسن.
وفي صحيح مسلم عن عائشة J قالت: قال رسول الله H: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ».
وقد قال جابر I: إن النبي H: «رَكِبَ حَتَّى أَتَى المَوْقِفَ فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ القَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ -وهي الحجارة أسفل الجبل الذي يُعرَف عند الناس بجبل الرحمة ولم يصعد الجبل-، وَجَعَلَ حَبْلَ المُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ –أي: طريق المشاة الرملى- وَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ».
المسألة السادسة: كيفية الدفع من عرفة([6]):
يستحب للحاج إذا دفع من عرفة إلى المزدلفة أن يدفع وعليه السكينة والطمأنينة، لشدة الزحام حينئذ مع شدة عجلة الناس، لأجل الدفع إلى المزدلفة قبل أن تشتد ظلمة الليل، فقد قال جابر I: إن النبي H دفع من عرفة: «وَدَفَعَ، وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ»، أي: ضيق على ناقته الزمام - وهو الخطام - من كثرة الجذب والشد حتى لا تسرع، ثم قال: «حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ»، أي: يصيب الموضع الذي يجعل عليه الراكب رجله، ثم قال: «وَيَقُولُ بِيَدِهِ اليُمْنَى: أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ، السَّكِينَةَ»، أي: الزموا السكينة والطمأنينة، ثم قال: «كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ»، والحبل: هو التل من الرمل، فيرخي الزمام عنده ولا يشده حتى تصعد الناقة.
([1]) شرح مسلم (8/131، 146)، المغني (5/260)، فتح الباري (4/315).
([2]) انظر المراجع السابقة، والمجموع شرح المهذب (8/92).
([3]) المغني (5/267).
([4]) المجموع شرح المهذب (8/106)، فتح ذي الجلال والإكرام (8/197).
([5]) شرح مسلم (8/148)، المجموع شرح المهذب (8/113)، المغني (5/268)، فتح الباري (4/346).
([6]) منحة العلام (5/267).