وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ - يَعْنِي: بِالْمُزْدَلِفَةِ - فَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ, وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا, فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ». رَوَاهُ الْخَمْسَةُ, وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ, وَابْنُ خُزَيْمَةَ.
تخريج الحديث:
حديث عروة بن مضرس I: رواه أحمد (4/15)، وأبو داود (1950)، والنسائي (5/263)، والترمذي (891)، وابن ماجه (3016)، وإسناده صحيح.
فقه الحديث:
المسألة الأولى: حكم المبيت في المزدلفة([1]):
الصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم: أن المبيت في المزدلفة واجب، من تركه عمدًا بغير عذر؛ فإنه يأثم ولا يبطل حجه، فقد قال النبي H: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ فَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ -يعني من المزدلفة-، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ»، أي: فقد كمُل حجه وتخلص بإزالة التفث من قص الشعر وتقليم الأظفار. وغير التمام هو الناقص.
ولا يكون هذا المبيت ركنًا من أركان الحج؛ لما جاء عن عبد الرحمن بن يعمر I قال: قال رسول الله H: «الْحَجُّ عَرَفَةُ، فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ لَيْلَةَ جَمْعٍ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ»، - سبق تخريجه - فجعل الوقوف قبل صلاة الصبح بعرفة مجزئًا، ومن وقف بعرفة قبل صلاة الصبح مباشرة؛ فاته المبيت بالمزدلفة، ومع هذا يكون حجه قد تم.
وروى سعيد بن منصور في ”سننه“([2]) بإسناد صحيح: «أَنَّ عُمَرَ كَانَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَجَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَقِفْ بِعَرَفَةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اذْهَبْ فَقِفْ، فَإِنِّي أَنْتَظِرُكَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَعَلَ يَقُولُ: أَجَاءَ الْأَعْرَابِيُّ؟ أَجَاءَ الْأَعْرَابِيُّ؟ فَلَمَّا جَاءَ أَفَاضَ»، يعني: أفاض إلى منى، فصحح عمر I حجه، مع أنه لم يبت بالمزدلفة من الليل، واكتفى بوقوفه بعرفة، كما يظهر من هذا الأثر.
فعليه: يكون قوله: «تَمَّ حَجُّهُ» في حديث عروة بن مضرس I: أي اكتمل حجه، فإن لم يبت بالمزدلفة؛ فوت كمال الحج، ولم يفوِّت أصلَ الحج، وهو اختيار الشيخ ابن باز([3]) والشيخ ابن عثيمين؛ فعليه: من تعذر عليه الوقوف في المزدلفة لازدحام أو عجز عن مواصلة المسير أو لم يعرف مكان المزدلفة؛ فلا يبطل حجه، وله عذره.
المسألة الثانية: صلاة الفجر في المزدلفة([4]):
أجمع العلماء على أن صلاة الفجر في المزدلفة سنة، فمن لم يصلها بالمزدلفة مع الإمام لا يبطل حجه.
وشذ ابن حزم فقال: يبطل حجه إذا لم يصلها مع الإمام بالمزدلفة، لقوله H: «مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ -يَعْنِي: بِالمُزْدَلِفَةِ-... تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ»، وابن حزم محجوج بالإجماع قبله.
فعليه: من صلى الفجر في المزدلفة؛ فقد أتم حجه على الوجه الأفضل والأكمل.
المسألة الثالثة: بداية الوقوف بعرفة([5]):
المشهور عند الحنابلة: أن أول وقت الوقوف في عرفة يبتدئ من طلوع الفجر يوم عرفة، لحديث عروة بن مضرس I وفيه: «وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ»، والشاهد: قوله: «أَوْ نَهَارًا»، فلم يقيده بالوقوف بعد الزوال من يوم عرفة، فيشمل جميع النهار، ولأنه جزء من يوم عرفة؛ فكان وقتًا للوقوف، ووقوف رسول الله H بعد زوال الشمس –يعني: عند الظهيرة- كما في حديث جابر I في صحيح مسلم إنما هو من باب الأفضل.
وقال جمهور أهل العلم: أول وقته من بعد زوال الشمس من يوم عرفة، لأن رسول الله H وقف مع أصحابه بعرفة بعد زوال الشمس، فيبقى بعرنة قريبًا من عرفة حتى زوال الشمس، ولو كان الوقوف قبله؛ لفعله حرصًا على مزيد من الطاعة، فيكون فعله هذا بيانًا لأول وقت هذه العبادة، وحديث عروة I محمول على ما بعد الزوال، قيده بذلك فعل رسول الله H، وهو الأقرب، والله أعلم.
المسألة الرابعة: الدفع من عرفة قبل غروب الشمس([6]):
ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه لا يجوز للحاج الدفع من عرفة قبل غروب الشمس، ففي صحيح مسلم عن جابر I أن النبي H وقف بعرفة حتى غربت الشمس، وقد قال: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ».
وروى ابن أبي شيبة (3/387) وغيره عن المسور بن مخرمة I أن
رسول الله H قال: «إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْأَوْثَانِ كَانُوا يَدْفَعُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَإِنَّا نَدْفَعُ بَعْدَ غُرُوبِهَا، فَلَا تَعْجَلُوا بِنَا»، وفي سنده راو مبهم. وروى الشافعي في «المسند لمنسوب إليه» (ص/369) عن طاووس قال: «كان أهل الجاهلية يدفعون قبل الغروب فأخر الله هذه» وهو مرسل صحيح، وله شواهد أشد ضعفًا. في صحيح ابن خزيمة (4/262)، سنن البيهقي (5/125)، فالحديث حسن لغيره. ولو نفر قبل الغروب صح حجه ويأثم وعليه دم عند أكثر العلماء، وهو الراجح؛ لحديث عروة بن مضرس.
ومذهب الظاهرية، والصحيح عند الشافعية، ورواية لأحمد أنه يجوز الدفع من عرفة قبل غروب الشمس، فالبقاء فيه إلى غروب الشمس سنة، فمن خرج قبل المغرب خالف السنة وصح حجه ولا شيء عليه، لما جاء من حديث عروة I أن رسول الله H قال: «وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ»، فجعل النهار وحده يجزئ كالليل وحده، وعمل رسول الله H يحمل على الأفضل والأكمل، وحديث المسور بن مخرمة I ضعيف.
([1]) المغني (5/284)، شرح مسلم (9/33)، المجموع شرح المهذب (8/150)، فتح الباري (4/342)، الشرح الممتع (7/339).
([2]) والطحاوي في أحكام القرآن (1440).
([3]) فتاواه (17/277).
([4]) انظر المراجع السابقة، والمحلى مسألة (835).
([5]) المغني (5/274)، المجموع شرح المهذب (8/120)، الإنصاف (4/29)، الشرح الممتع (7/330).
([6]) المحلى (7/122)، المجموع شرح المهذب (8/102)، المغني (5/472، 393)، الإنصاف (4/30).