وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدَ حَلَّ لَكُمْ الطِّيبُ وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَأَبُو دَاوُدَ, وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ.
تخريج الحديث:
حديث عائشة J: رواه أحمد (6/143)، وأبو داود (1976)، وفي إسناده الحجاج بن أرطأة ضعيف ومدلس وقد عنعنه وخلط فيه، وصح موقوفًا على عائشة، رواه البيهقي (5/135)، وروى الإمام أحمد (1/234) عن ابن عباس L أن رسول الله H قال: «إِذَا رَمَيْتُمْ الْجَمْرَةَ، فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ»، وفي سنده انقطاع، وأيضًا قد جاء موقوفًا على ابن عباس L عند أحمد والنسائي (5/305)، وابن ماجه (3041)، والبيهقي (5/136)، وهو الأصح، وجاء بنحوه من حديث أم سلمة J، رواه أبو داود (1997)، وفيه أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة، مجهول الحال، فالظاهر أن الحديث لا يثبت.
المسألة الأولى: وقت التحلل الأول([1]):
اختلف العلماء في هذه المسألة؛ فمذهب المالكية وابن حزم، وأحمد في رواية، وبعض الحنفية وبعض الشافعية: أن التحلل الأول يحصل للحاج بانتهائه من رمي جمرة العقبة مباشرة قبل الحلق، فله التطيب ولبس المخيط ونحوهما؛ لما صح عن عائشة J أنها قالت: «كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ H... إِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ»، رواه أحمد (6/244)، والنسائي (5/132)، فظاهره أنها كانت تطيب رسول الله H قبل أن يحلق.
والمشهور عند الحنفية والشافعية والحنابلة: أن التحلل الأول إنما يحصل بالرمي والحلق معًا؛ لأدلة:
- ما جاء في الصحيحين عن عائشة J قالت: «كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ H لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ»، فلو كان يحل بالرمي فقط لقالت: لحله قبل أن يحلق، وإنما جَعلت الحل ما بين الطواف والذي قبله وهو الرمي والنحر والحلق.
- حديث عائشة J وغيرها: «إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدَ حَلَّ لَكُمْ الطِّيبُ وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ»، فاشترط وجود الرمي والحلق.
- القياس على العمرة، فعامة أهل العلم على أن المعتمر لا يتحلل من عمرته إلا بعد أن يحلق رأسه، فكذلك في الحج.
- ما صح عن عمر I أنه قال: «إِذَا رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَذَبَحْتُمْ، وَحَلَقْتُمْ، فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ إِلا النِّسَاءَ»، رواه البيهقي (5/135) وغيره، فجعل التحلل الأول بعد الرمي والنحر والحلق، وإنما استبعد الفقهاء النحر؛ لأنه جائز في أيام التشريق.
وأجابوا عما جاء عن عائشة J أنها كانت تطيب رسول الله H إذا رمى الجمرة: أن هذا ليس صريحًا بأنها كانت تطيبه بعد الرمي مباشرة وقبل الحلق، فقد جاء عنها في الصحيحين أنها كانت تطيبه قبل أن يطوف بالبيت، فلعلها J كانت ترى أن الحلق نوعًا من التحلل، وعلى فرض عدم إمكان الجمع بين اللفظين؛ فيقدم اللفظ الذي في الصحيحين؛ لأنه أصح، وهذا المذهب هو الأرجح، والله أعلم.
المسألة الثانية: ما لا يحل منه الحاج في التحلل الأول([2]):
لا خلاف بين العلماء أن الحاج لا تحل له النساء في التحلل الأول، فلا زال محظورًا عليه الجماع ودواعيه، لأن الله E قال: ﴿ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّ ﴾ [البقرة: ١٩٧]، فحرم الرفث وهو الجماع في الحج جملة، فما دام بقى شيء من فرائض الحج؛ فالحاج لا يزال بعد في الحج، والطواف ركن في الحج، فلا يحصل التحلل الأكبر بإباحة الجماع ودواعيه، إلا بعد الرمي والنحر والحلق والطواف، وكذلك السعي لمن وجب عليه، ففي الصحيحين عن عائشة وابن عمر M أن رسول الله H بعد أن طاف بالبيت حل من كل شيء حرم عليه.
وإذا جامع امرأته قبل الطواف، وبعد التحلل الأول؛ لا يفسد حجه، ويأثم عند جمهور أهل العلم، وهو الراجح.
وإذا جامع قبل التحلل الأول، فإن كان قبل الوقوف بعرفة فسد حجه بالإجماع، وإن كان بعد الوقوف بعرفة فكذلك يفسد حجه عند جمهور العلماء، وهو الأرجح، لأنه لا زال محرمًا، ولم يتحلل من شيء بعد كقبل الوقوف بعرفة.
وأما القبلة والمباشرة دون الفرج؛ فلا يفسد الحج بهما على كل حال، بلا خلاف بين العلماء – إذا لم ينزل الماء -، لكن فاعله يأثم عند عامة العلماء، خلافًا لابن حزم، لأنها وسائل ومقدمات للجماع، وصح هذا عن جماعة من أئمة التابعين، وهو الراجح.
وأما إذا أنزل الماء – المني – ففيه خلاف، والصحيح أنه لا يفسد حجه ولو كان قبل التحلل الأول؛ لعدم وجود نص فيه، ولا هو في معنى المنصوص، وهو الجماع، ولا يقاس عليه؛ للفارق الكبير بينهما، وهو مذهب الحنفية والشافعية، والمشهور عند الحنابلة وغيرهم.
واختلفوا في التحلل من غير النساء من المحظورات قبل الطواف، والصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم: أن الحاج يحل في التحلل الأول من كل محظور إلا النساء خاصة، ففي حديث عائشة: «فَقَدَ حَلَّ لَكُمْ الطِّيبُ وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ»، وفي الصحيحين عنها: «كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ H لِإِحْرَامِهِ، قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِإِحْلَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ» وصح هذا عن بعض الصحابة، وثبت عن بعض الصحابة أنه يحل من كل شيء إلا النساء والطيب، وأخذ به الإمام مالك.
المسألة الثالثة: انتقاض التحلل الأول([3]):
عامة أهل العلم - إلا من شذ - على أن الحاج يبقى على تحلله الأول، فيحل له كل شيء إلا النساء، ولو لم يطف يوم النحر حتى أمسى، فلا ينتقض تحلله، وروى أبو داود (1997)، والبيهقي (5/137) عن أم سلمة J قالت: قال رسول الله H: «إِذَا أَمْسَيْتُمْ قَبْلَ أَنْ تَطُوفُوا هَذَا الْبَيْتَ صِرْتُمْ حُرُمًا كَهَيْئَتِكُمْ قَبْلَ أَنْ تَرْمُوا الْجَمْرَةَ»، وفي سنده أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة، مجهول الحال، ورواه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/38) من حديث عكاشة بن محصن، وفي سنده ابن لهيعة، سيء الحفظ، وهذا الحديث مع ما في سنده من الضعف؛ فمتنه شاذ أيضًا؛ لمخالفته للمحفوظ من الأدلة وأقوال العلماء في أن الحاج لا يرجع محرمًا ولو لم يطف بالبيت حتى أمسى، وهو الراجح.
([1]) المغني (5/310)، المنتقى للباجي (3/56)، المجموع شرح المهذب (8/230)، المحلى مسألة (835)، فتح باب العناية (1/664).
([2]) المجموع شرح المهذب (7/414)، (8/231)، المغني (5/166، 169، 308، 314)، فتح الباري (4/180، 416)، المحلى مسألة (856)، بداية المجتهد (1/370)، الإنصاف (3/501).
([3]) المجموع شرح المهذب (8/234)، سنن البيهقي (5/137)، الشرح الممتع (7/373)، مناسك الحج للألباني (ص/34).