وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ, وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي بِمِائَةِ صَلَاةٍ». رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
تخريج الحديث:
عبد الله بن الزبير L: رواه أحمد (4/5)، وابن حبان (1620) وإسناده صحيح.
فقه الحديث:
مسألة: فضل الصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي([1]):
ثبت عن النبي H أن الصلاة في المسجد النبوي تفضل بألف صلاة عن الصلاة بأي مسجد آخر إلا المسجد الحرام، والصلاة في المسجد الحرام تفضل بمائة صلاة عن الصلاة في المسجد النبوي، وهي بالتالي تفضل بمائة ألف صلاة عن الصلاة بأي مسجد آخر غير المسجد النبوي.
والصحيح المنقول عن جمهور أهل العلم: أن هذا التفضيل يشمل صلاة الفريضة وصلاة النافلة، فقوله: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا...» لفظ مطلق يصلح لصلاة الفرض والنافلة، ولا يعارضه ما جاء في الصحيحين أن النبي H قال: «إِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ»، فيقال: صلاة النافلة في المسجد النبوي بألف صلاة، وفي المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والأفضل في أدائها مطلقًا أن تؤدى في البيت، فإن صلاها في بيته أصاب السنة، وهذا أعظم لأجره إن شاء الله، وإن صلاها في المسجدين؛ فله الأجر المذكور، لا سيما إذا كانت هذه النافلة مما رغب الشرع بإقامتها في المسجد، كصلاة الكسوف والتراويح والجنازة.
والمضاعفة للصلاة في المدينة مختصة بالمسجد النبوي دون سائر بقاع المدينة، ففي الحديث: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا»، فالمشار إليه هو مسجده فقط، فيختص التفضيل به.
والتوسعة التي زيدت في المسجد النبوي من جميع جوانبه تدخل في هذا التفضيل، كما ذكره جماعة من العلماء، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية، ونقل بعضهم اتفاق الفقهاء عليه؛ لأن ما زيد في المسجد يعتبر منه عند عامة أهل العلم، وقد زاد عمر I في المسجد النبوي من جهة القبلة، وكذلك عثمان I، وكانا يصليان للصحابة في هذه الزيادة، وفعلهم هذا يدل على أن المضاعفة للصلاة تحصل في الزيادة كما تحصل في الأصل، وإلا لما ترك الصحابة الصلاة في المكان الذي تضاعف فيه الصلاة إلى المكان الذي لا تضاعف فيه.
واختلفوا في المسجد الحرام؛ فقال جمهور أهل العلم -واختاره النووي وابن حزم وابن القيم وابن باز-: أن المضاعفة للصلاة تكون في مكة كلها، وليست خاصة بمسجد الكعبة، فقد أطلق الله E في بعض الآيات اسم المسجد الحرام على مكة كلها، كقوله : ﴿ سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ﴾ [الإسراء: ١]، وأكثر المفسرين على أن النبي H أسري به من بيت أم هانئ J، وكقوله سبحانه: ﴿ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَإِخۡرَاجُ أَهۡلِهِۦ مِنۡهُ أَكۡبَرُ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ [البقرة: ٢١٧]، وهم أخرِجوا من مساكنهم، وكقوله سبحانه: ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٞ فَلَا يَقۡرَبُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَٰذَا ﴾ [التوبة: ٢٨]، وهم ممنوعون من دخول مكة كلها.
وذهب بعض الشافعية، وبعض الحنابلة، والذي اختاره الشيخ ابن عثيمين: أن هذه المضاعفة للصلاة مختصة بمسجد الكعبة، وليست لكل مكة، فقد قال النبي H: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا»، فالمشار إليه هو مسجده خاصة، وجعله أفضل مما سواه من المساجد واستثنى المسجد الحرام؛ فيكون المستثنى من جنس المستثنى منه، وهي أبنية المساجد خاصة، ولما رواه مسلم عن ميمونة J أن النبي H قال: «صَلَاةٌ فِيهِ -المسجد النبوي- أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ»، فبيَّن في هذه الرواية المراد بالمسجد الحرام الذي تضاعف فيه الصلاة.
وإطلاق اسم (المسجد الحرام) على مكة كاملة ليس على الدوام، إنما هو في بعض الأحيان، وإلا فقد يقصد به مسجد الكعبة خاصة، فمنه ما في الصحيحين عن أبي هريرة I أن النبي H قال: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ، الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ H، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى»، ولا شك أن المراد بالمسجد الحرام: مسجد الكعبة، فلا تشد الرحال إلى بقية مساجد مكة، وقد جاء هذا الحديث في رواية عند مسلم: «إِنَّمَا يُسَافَرُ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ، وَمَسْجِدِي، وَمَسْجِدِ إِيلِيَاءَ»، وهذا القول هو الأظهر، والله أعلم، ومضاعفة الأجر فيما سواه حاصل لكن دونه.
([1]) هداية السالك (3/1067)، التحفة في أحكام العمرة والمسجد الحرام (ص/108)، أحكام الحرم المكي، د/ سامي القصير (ص/165)، أحكام الحرمين، د/ القاعدي (2/575)، أحكام الحرم المكي للجويطان (ص/115)، مشكل مناسك الحج، د/ الصبيحي، فتاوى ابن عثيمين (20/165).