وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنَّا, فَغَسَّلْنَاهُ, وَحَنَّطْنَاهُ, وَكَفَّنَّاهُ, ثُمَّ أَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ فَقُلْنَا: تُصَلِّي عَلَيْهِ? فَخَطَا خُطًى, ثُمَّ قَالَ: «أَعَلَيْهِ دَيْنٌ?» قُلْنَا: دِينَارَانِ، فَانْصَرَفَ, فَتَحَمَّلَهُمَا أَبُو قَتَادَةَ، فَأَتَيْنَاهُ, فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: الدِّينَارَانِ عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ «أُحِقَّ الْغَرِيمُ وَبَرِئَ مِنْهُمَا الْمَيِّتُ?» قَالَ: نَعَمْ, فَصَلَّى عَلَيْهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَأَبُو دَاوُدَ, وَالنَّسَائِيُّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ, وَالْحَاكِمُ.
(882) 03- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ, فَيَسْأَلُ: «هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ مِنْ قَضَاءٍ?» فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً صَلَّى عَلَيْهِ, وَإِلَّا قَالَ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ قَالَ: «أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ, فَمَنْ تُوُفِّيَ, وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «فَمَنْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً».
تخريج الحديثين:
حديث جابر I: رواه أحمد (3/330)، والحاكم (2/58)، والبيهقي (6/74) عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر I، وإسناده حسن، ورواه أبو داود (3343)، والنسائي (4/65) وابن حبان (3064) عن أبي سلمة عن جابر I بنحوه، وليس فيه قوله: «أُحِقَّ الغَرِيمُ وَبَرِئَ مِنْهُمَا المَيِّتُ؟»، وإسناده صحيح.
وحديث أبي هريرة I: رواه البخاري (2298) ومسلم (1619).
فقه الحديثين:
المسألة الأولى: ضمان دين الميت والرجوع فيه([1]):
الصحيح الذي عليه جمهور العلماء: أنه يصح الضمان على الميت، سواء ترك وفاء لدينه أم لا، فيلزمه القضاء، وليس للضامن الرجوع فيه على مال الميت، فقد ضمن أبو قتادة I الميت في دينارين عليه، فصلى عليه النبي H، وهذا يدل على أن الدين قد انتقل من ذمة الميت إلى ذمة الضامن، وهو أبو قتادة I، وقال: «أُحِقَّ الغَرِيمُ وَبَرِئَ مِنْهُمَا المَيِّتُ؟»، أي: أوفيت، أو التزمت حق الغريم، وبرئت ذمة الميت من الدين.
وقد سبق في (كتاب الجنائز) أن من مات وعليه دين وله تركه؛ يجب قضاء دينه من تركته، فإن لم تكن له تركة ولم يتكفل بالقضاء أحد؛ لزم على ولي الأمر المسلمين أن يقضي عنه، فقد قال النبي H: «أَنَا أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ».
المسألة الثانية: رضا الضامن والمضمون عنه والمضمون له([2]):
أما الضامن؛ فيشترط رضاه، وهذا لا نعلم فيه خلافًا، فإن أكره على الضمان لم يصح.
وأما المضمون عنه؛ فالصحيح الذي عليه جمهور العلماء: أنه لا يشترط رضاه لصحة الضمان عن الميت، وهو لا رأي له، ولأن قضاء دين الغريم بغير إذنه جائز، فضمانه بغير إذنه أولى.
وأما المضمون له؛ فكذلك لا يشترط رضاه عند جمهور العلماء، وهو الراجح، فقد ضمن أبو قتادة I دين الميت وصح ضمانه بمجرد قوله: «الدِّينَارَانِ عَلَيَّ»، ولم يطلب رسول الله H الإذن من المضمون له.
المسألة الثالثة: ضمان المجهول وما لم يجب بعد([3]):
ضمان المجهول كأن يقول شخص: «أنا ضامن عنك ما هو عليك لفلان» أو: «أنا أضمن لك ما على فلان لك».
والصحيح الذي عليه جمهور العلماء: أن هذا الضمان صحيح، فقد قال تعالى: ﴿ وَلِمَن جَآءَ بِهِۦ حِمۡلُ بَعِيرٖ وَأَنَا۠ بِهِۦ زَعِيمٞ ٧٢ ﴾ [يوسف: ٧١]، و﴿ حِمۡلُ بَعِيرٖ ﴾ غير معلوم، لأن حمل البعير يختلف باختلافه، ولأنه التزم بحق في ذمته من غير مقابل، فصح في المجهول.
وكذلك يصح ضمان ما لم يجب بعد، وعليه جمهور العلماء، وصورته أن يقول: «أقرض فلانًا وأنا أضمنه»، أو يقول: «ما اقترضه منك فلان فأنا ضامن له»، فضم ذمته إلى ذمة المضمون عنه، فيلزمه ما يلزمه، وما ثبت في ذمة المضمون عنه ثبت في ذمته، ولا دليل على منع الضمان في هذه الحالة، والحاجة تدعو إليه، والضمان مبني على التوسعة.
المسألة الرابعة: ضمان الأعيان المضمونة([4]):
لو اغتصب شخص شيئًا أو سرقه فقال: «سآتي به»، فقال شخص: «أنا أضمنه في رد ما سرقه أو غصبه».
الصحيح الذي عليه جمهور العلماء: أنه يصح ضمانها؛ لأن العين أصبحت في ذمته، فكانت كالدين الذي في ذمته فصح ضمانها، ولأن الضمان في الحقيقة هو ضمان استيفاء العين وردها، أو ضمان قيمتها عند تلفها.
المسالة الخامسة: من يطالب المضمون له بوفاء دينه([5]):
اختلف الفقهاء في هذه المسألة؛ فمذهب الظاهرية: أن المضمون له يطالب الضامن بدينه، فسقط الطلب عن المضمون عنه، فقد صلى النبي H على الميت الذي ضمن أبو قتادة I دينه، وهذا دليل على أن الحق قد سقط عن المضمون عنه، وقال في رواية: «أُحِقَّ الغَرِيمُ وَبَرِئَ مِنْهُمَا المَيِّتُ؟»، أي: أوفيت أو التزمت حق الغريم، وبرئت ذمة الميت من الدين.
وقال جمهور العلماء: له أن يطالب بحقه من شاء، الضامن أو المضمون عنه، لأن معنى الضمان: ضم ذمة إلى ذمة في حق المطالبة، ولأن الضمان إذا كان يسقط الحقَ عن المضمون عنه كان حوالة، والضمان غير الحوالة.
والمشهور عند المالكية: أنه يطالب بحقه المضمون عنه، ولا يرجع إلى الضامن إلا إذا تعذر عليه أخذ حقه من المضمون عنه؛ لأن الأصل أن الحق يستوفى من الغريم، فلا يرجع إلى الفرع مع تمكن الاستيفاء من الأصل، ولأن الضامن متبرع؛ فلا يلزم ابتداءً، فإذا تعذر أخذ الحق من المضمون عنه لفقره أو لإفلاسه أو لمماطلته أو لغيابه؛ فله مطالبة الضامن، وهو معذور بمطالبته في
هذه الحالة.
ورد الجمهور والمالكية على الظاهرية بأن صلاة رسول الله H على الميت بعد ضمان أبي قتادة I عنه فلأنه بالضمان صار له وفاء، وإنما كان يمتنع من الصلاة على المدين إذا لم يخلف وفاءً.
ففي حديث أبي هريرة I أن النبي H كان إذا أوتي بالميت سأل: هل ترك لدينه من قضاء، فإن أخبر أنه ترك وفاءً صلى عليه، وإلا امتنع من الصلاة عليه، وأما قوله في رواية: «أُحِقَّ الغَرِيمُ وَبَرِئَ مِنْهُمَا المَيِّتُ؟»، فرد عليها بالآتي:
- أن هذا في ضمان الميت، لثبوت الدليل فيه، أما الحي فلا يبرأ بالضمان، فالميت انعدمت ذمته.
- أن هذا اللفظ ضعيف شاذ.
- أن معناه: للغريم الحق أن يطالبك وحدك إن شاء.
- أن المراد منه: التأكيد لثبوت الحق في ذمة الضامن، وليس المراد منه: أن المضمون عنه لا يطالب به.
وهذه الردود جيدة في الجملة، وأرجح الأقوال ما عليه المالكية، وإلزام الضامن به ابتداء يؤدي إلى تقاعس الناس عن فعل هذا الخير، واختار هذا القول الشيخ السعدي.
المسألة السادسة: رجوع الضامن على المضمون عنه([6]):
إذا كان قضى عنه دينه تبرعًا منه؛ فلا يرجع على المضمون عنه بشيء، لأنه كالهبة.
وإذا كان قضى عنه وصرح له بأنه قرض عليه؛ فإنه يرجع على المضمون عنه ويطالبه بحقه.
وهاتان الحالتان لا يعلم فيهما خلاف بين العلماء.
وأما إذا قضى عنه دينه، ولم يصرح له بأنه قرض عليه ولم ينو به التبرع؛ فالصحيح من أقوال العلماء أنه يرجع عليه، سواء ضمن بإذنه أم بغير إذنه، وسواء أداه عنه بإذنه أم بغير إذنه، لأن ضمانه له إنما هو وثيقة تأكيد، ولم يتبرع بالقضاء عنه، فكان على المضمون عنه، فله الرجوع عليه ومطالبته به، لأن الدين على الغريم أصلًا، فلم يلزم على الفرع وهو الضامن، فإذا أداه عنه ولم يكن متبرعًا به فله مطالبته به. ولأن لسان الحال يقوم مقام لسان المقال، فلو صرح له أنه قرض للزمه، فكذلك إذا دل عليه لسان حاله.
وهذا مذهب المالكية، والمشهور عند الحنابلة، وقول بعض الشافعية، واختاره ابن تيمية.
([1]) المغني (7/465)، روضة الطالبين (3/473)، المحلى مسألة (1229)، فتح الباري (5/233)، حاشية ابن عابدين (7/265).
([2]) المغني (7/72)، المحلى مسألة (1229)، روضة الطالبين (3/473)، الإنصاف (5/190)، الفقه الإسلامي وأدلته (6/4146).
([3]) المغني (7/72)، المجموع شرح المهذب (14/19)، المحلى مسألة (1231)، حاشية ابن عابدين (7/453)، مجموع الفتاوى (29/549).
([4]) المغني (7/76)، الإنصاف (5/200)، الفقه الإسلامي (60/4157).
([5]) المغني (7/84)، المحلى مسألة (1229)، مجموع الفتاوى (29/1550)، الإنصاف (5/190)، الفقه الإسلامي وأدلته (6/4165)، بحوث فقهية معاصرة (1/427).
([6]) المغني (7/89)، المحلى مسألة (1229)، روضة الطالبين (3/499)، الإنصاف (5/204)، الفقه الإسلامي وأدلته (6/4166)، بحوث فقهية معاصرة (1/443).