وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ, فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزَّرْعِ شَيْءٌ, وَلَهُ نَفَقَتُهُ». رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَالْأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ, وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَيُقَالُ: إِنَّ الْبُخَارِيَّ ضَعَّفَهُ.
(901) 04- وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ; مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ : إِنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فِي أَرْضٍ, غَرَسَ أَحَدُهُمَا فِيهَا نَخْلًا, وَالْأَرْضُ لِلْآخَرِ, فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ بِالْأَرْضِ لِصَاحِبِهَا, وَأَمَرَ صَاحِبَ النَّخْلِ أَنْ يُخْرِجَ نَخْلَهُ. وَقَالَ: «لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ, وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
(902) 05- وَآخِرُهُ عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ, عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ.
وَاخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ, وَفِي تَعْيِين صَحَابِيِّهِ.
تخريج الحديثين:
الحديث الأول: حديث رافع بن خديج I: رواه أحمد (3/465)، وأبو داود (3400) والترمذي (1366)، وابن ماجه (2466)، وفي سنده شريك القاضي، فيه ضعف، وعطاء بن أبي رباح لم يسمع من رافع بن خديج I، وقد تابع شريكًا قيس بن ربيع، وفيه ضعف أيضًا، روى حديثه البيهقي (6/136) وغيره. وقد نقل الخطابي عن الإمام البخاري تضعيف هذا الحديث ولم يذكر مستنده، لهذا ذكر المصنف ما نقل عن البخاري من تضعيف بصيغة التمريض. وقد سأل الترمذيُّ البخاريَّ عن هذا الحديث فقال: «حديث حسن». فلعل البخاري حسنه بشواهده، فقد جاء عند أبي داود (3397)، والنسائي (7/49) وغيرهما عن رافع بن خديج I قال: «أَتَى النَّبِيُّ H بَنِي حَارِثَةَ فَرَأَى زَرْعًا، فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ زَرْعَ ظُهَيْرٍ، فَقَالُوا: لَيْسَ لِظُهَيْرٍ، فَقَالَ: أَلَيْسَ أَرْضُ ظُهَيْرٍ؟ قَالُوا: بَلَى، وَلَكِنَّهُ أَزْرَعَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ H: خُذُوا زَرْعَكُمْ، وَرُدُّوا إِلَيْهِ نَفَقَتَهُ»، وإسناده صحيح، وهو وإن لم يكن في الغصب؛ لكنه يدل على مثل ما دل عليه الحديث الأول، وهو أن الزرع يتبع الأرض. وقد جعله البيهقي شاهدًا للحديث الأول، وقال أبو حاتم: «هذا يقوي حديث شريك»([1]).
الحديث الثاني: عن عروة بن الزبير يرويه:
الأول: عن رجل من الصحابة: رواه أبو داود (2073)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/118)، والبيهقي (6/99)، وفي إسناده محمد بن إسحاق، مدلس وقد عنعنه.
والثاني: عن سعيد بن زيد: رواه أبو داود (3071)، والنسائي في الكبرى (3/404)، والترمذي (1378)، وجاء عن عروة مرسلًا، رواه النسائي في الكبرى (3/404)، والبيهقي (6/142) وغيرهما، وقد صوب الترمذي والدارقطني في حديث عروة الإرسال([2]).
وللحديث شواهد الضعفُ فيها شديد، وقد قال المصنف: إنها تتقوى ببعضها البعض. وصححه الألباني بشواهده([3]). وقد اختلف في تعيين صحابي هذا الحديث، وسيأتي ذكره في (باب إحياء الموات).
فقه الحديثين:
المسألة الأولى: من زرع أرضا اغتصبها([4]):
إذا أدركه المالك بعد حصاده للزرع؛ فيلزم على الغاصب أجرة الأرض مدة الغصب، ويضمن النقص الذي حصل في الأرض، ولا خلاف في هذا بين العلماء.
وإن أدرك أرضه والزرع قائم فيها؛ فقال جمهور العلماء: الزرع للغاصب؛ لأنه ماله، وعليه أجرة الأرض مدة الغصب إلى وقت تسليم الأرض، ويضمن النقص، ولصاحب الأرض إجباره على قلع زرعه، لأنه زرع في أرض غيره ظلمًا، وقد جاء عن النبي H أنه قال: «لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ».
وقال الحنابلة وابن حزم: يخيَّر المالك بين أن يبقي الزرع في أرضه إلى وقت الحصاد ويأخذ أجرة الأرض وأرش النقص فيها، وبين أن يكون الزرع له ويدفع للغاصب نفقته، أي: ما أنفقه فيه من البذر ومؤنة الزرع في الحرث والسقي وغيره، ففي الحديث: «مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، فَلَيْسَ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ شَيْءٌ، وَلَهُ نَفَقَتُهُ». وليس للمالك إجبار الغاصب على قلع زرعه؛ صيانة للمال من التلف، وقد أمكن المالك استرداد ماله وحقه من غير إتلاف للمال. وأما حديث: «لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ»؛ فهو في الغرس - كما سيأتي -.
وهذا هو الأرجح.
المسألة الثانية: إذا غرس شجرًا أو بنى في أرض اغتصبها([5]):
لا خلاف بين العلماء أن للمالك إجبار الغاصب على قلع غرسه أو إزالة بنائه؛ لأنه شغل ملك غيره بملك نفسه، وفي الحديث: «لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ»، والعرق الظالم: مَن استعمل مال غيره ظلمًا، وهنا اتفق الحنابلة مع الجمهور، لأن الغرس مدته تطول، فيؤول إلى عدم رد الأرض إلى مالكها، بخلاف الزرع؛ فإن مدته لا تطول، ويلزم على الغاصب أجرة الأرض مدة الغصب وتسوية الأرض.
وإذا اتفقا على أن يأخذ المالك الغرس أو البناء ويأخذ الغاصب القيمة جاز ذلك؛ لأنه حق لهما.
المسألة الثالثة: إذا تغير المغصوب بفعل الغاصب([6]):
كما لو غصب شاة فذبحها وطبخها أو شواها، أو غصب برًا فطحنه، أو حديدًا فصيره سكاكين، أو خشبًا فصيره أبوابًا.
فمذهب الشافعية، والصحيح عند الحنابلة: أن هذا المغصوب يكون مِلكًا للمغصوب منه، مع الزيادة التي عملها الغاصب، ولا شيء للغاصب في زيادته؛ لأنه عين مال المغصوب، ولأن الغاصب ظالم، وليس لعرق ظالم حق.
ومذهب الحنفية والمالكية وأحمد في رواية: أنه يكون مِلكًا للغاصب؛ لأنه خرج عن مسماه الأول، وتغير عن الأصل بما أحدث فيه الغاصب، ويلزم على الغاصب البدل بالمثل أو القيمة، فقد روى الإمام أحمد (5/293)، وأبو داود (3332) وغيرهما عن رجل من الصحابة قال: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ H فِي جَنَازَةٍ،... فَلَمَّا رَجَعَ اسْتَقْبَلَهُ دَاعِي امْرَأَةٍ، فَجَاءَ وَجِيءَ بِالطَّعَامِ، فَوَضَعَ يَدَهُ، ثُمَّ وَضَعَ الْقَوْمُ، فَأَكَلُوا، فَنَظَرَ آبَاؤُنَا رَسُولَ اللهِ H يَلُوكُ لُقْمَةً فِي فَمِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَجِدُ لَحْمَ شَاةٍ أُخِذَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ أَهْلِهَا، فَأَرْسَلَتِ الْمَرْأَةُ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَرْسَلْتُ إِلَى الْبَقِيعِ يَشْتَرِي لِي شَاةً، فَلَمْ أَجِدْ، فَأَرْسَلْتُ إِلَى جَارٍ لِي قَدِ اشْتَرَى شَاةً أَنْ أَرْسِلْ إِلَيَّ بِهَا بِثَمَنِهَا، فَلَمْ يُوجَدْ، فَأَرْسَلْتُ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيَّ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ H: أَطْعِمِيهِ الْأَسَارَى»، وسنده حسن، فلم يأمر المرأة برد الشاة إلى أهلها، وقد كانت طبختها، فدل هذا على أنه ارتفع ملك أهلها عنها، وصارت ملكًا للمرأة ولزمها الثمن.
وقال الإمام أحمد في رواية اختارها جماعة من الحنابلة منهم ابن تيمية: يرد المغصوب إلى مالكه، وتكون الزيادة فيه ملكًا مشتركًا بين المغصوب منه والغاصب، فقد وجدت بسبب مال المغصوب وبعمل الغاصب، فكانت لهما جميعًا، ولعل هذا القول هو الأقرب، وما جاء سابقًا في قصة الشاة يحمل على أنها أخذتها من جارها وهي تعلم برضاه وقد استأذنت امرأته، فليست غاصبة
ولا سارقة.
المسألة الرابعة: إذا خلط المغصوب بغيره خَلطًا لا يتميز([7]):
كخلط الدقيق بالزيت، والصبغ بالثوب، إذا نقصت القيمة؛ فيضمن الغاصب النقص باتفاق الفقهاء.
وأما إذا زادت القيمة بالخلط؛ فمذهب الحنفية والمالكية: أن المالك يخيَّر بين البدل بالمثل أو القيمة قبل تغير المغصوب، وبين أخذه وإعطاء الغاصب قيمة الزيادة، لأنها من عمله، ولأن في هذا رعاية للجانبين.
ومذهب الشافعية والحنابلة: أن الزيادة تكون بينهما، فيوزع الثمن الزائد على قدر القيمتين؛ لأن الزيادة من نماء الطرفين. مثلًا: اغتصب ثوبًا قيمته بدون الصبغ عشرة دراهم، والصبغ وحدة بخمسة دراهم، والثوب مصبوغًا بواحد وعشرين درهمًا؛ فالزيادة في القيمة ستة دراهم، تُقسَّم بينهما بقدر ماليهما، فللغاصب ثلث، وللمالك ثلثان على حسب هذا المثال المذكور.
المسالة الخامسة: منافع المغصوب([8]):
هذه المسألة فيها أقوال:
القول الأول: لا يضمن الغاصب منافع ما غصبه، من ركوب أو سكنى؛ لأن اللازم عليه رد المغصوب كما هو أو بدله، إلا في مواضع معينة، فإن عليه أجرة المثل، وهذا مذهب الحنفية ورواية لأحمد.
القول الثاني: يضمن الغاصب منافع المغصوب التي انتفع بها، من عقار أو دار أو منقول، وعليه أجرة المثل، وأما المغصوب الذي لم ينتفع به، وإنما عطله عن صاحبه، كدار أغلقها، ودابة حبسها، وأرض جمدها؛ ففيه تفصيل: إن كان غصبها لذاتها لأجل منع صاحبها من الانتفاع بها؛ فلا يلزم عليه أجرة المنافع، وإن كان اغتصبها لينتفع بها؛ فعليه أجرة المنافع، وإن لم يستعملها، وهذا مذهب المالكية، ورواية لأحمد.
القول الثالث: يضمن الغاصب منفعة المغصوب مطلقًا، وعليه أجرة المثل مدة الغصب، سواء استوفى المنافع منها أم تركها، وسواء اغتصبها للمنفعة أم لذاتها؛ لأن صاحبه حُرِم من الانتفاع به، باستعماله أو بكرائه بسبب الغاصب. وهذا مذهب الشافعية، والصحيح عند الحنابلة، وهو الأرجح.
([1]) علل ابن أبي حاتم (1/476).
([2]) تلخيص الحبير (3/61).
([3]) الإرواء (1520).
([4]) المغني (7/376)، معالم السنن (3/82)، عون المعبود (9/190)، الفقه الإسلامي وأدلته (6/4876).
([5]) المغني (7/365، 369)، الفقه الإسلامي وأدلته (6/4814).
([6]) المغني (7/387)، المجموع شرح المهذب (14/359)، شرح مشكل الآثار للطحاوي (7/457)، الإنصاف (6/146)، الفقه الإسلامي وأدلته (6/4808).
([7]) المجموع شرح المهذب (14/376)، المغني (7/414)، الفقه الإسلامي وأدلته (6/4808)، الشرح الممتع (4/417).
([8]) المغني (7/406)، المجموع شرح المهذب (14/336)، الإنصاف (6/201)، الفقه الإسلامي وأدلته (6/4793، 4817)، الشرح الممتع (4/405).