عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ, فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: «الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ: أَرْضٍ, أَوْ رَبْعٍ, أَوْ حَائِطٍ, لَا يَصْلُحُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَعْرِضَ عَلَى شَرِيكِهِ».
وَفِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ: قَضَى النَّبِيُّ بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ, وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
تخريج الحديث:
حديث جابر بن عبد الله L: رواه البخاري (2257)، ومسلم (1608)، ورواه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/126)، ورجاله ثقات، ويشهد له ما رواه – أيضًا - الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/125)، والبيهقي (6/109) عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس مرفوعًا بنحوه، ورجاله ثقات أيضًا، ولكن صوب الدراقطني والبيهقي فيه الإرسال([1])، وهو الصحيح، ومراسيل ابن أبي مليكة قوية.
فقه الحديث:
المسألة الأولى: الشفعة للشريك([2]):
أولًا: الشفعة للشريك في العقار.
لا خلاف بين العلماء أن الشفعة تثبت للشريك في العقار الكبير المشترك، كالدار والأرض، ويلحق بالأرض في ثبوت الشفعة: ما كان عليها من بناء أو غرس أو شجر، فقد قال النبي H: «الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ: أَرْضٍ، أَوْ رَبْعٍ، أَوْ حَائِطٍ»، والربع: منزل القوم. والحائط: البستان.
والصحيح من أقوال العلماء: أن الشفعة تثبت في العقار الصغير الذي لا يحتمل القسمة، كالدكان الصغير والحمام الصغير والطريق الضيقة؛ لما ثبت عن النبي H أن «الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ شِرْكٍ».
وهذا مذهب الحنفية والظاهرية، والمشهور عند المالكية، ورواية لأحمد، وقول للشافعي، واختاره ابن تيمية وابن القيم.
ثانيًا: الشفعة للشريك في المنقول.
كالحيوان والثياب والمتاع والآلات.
ذهب جمهور العلماء إلى عدم ثبوت الشفعة في المنقول، وإنما تثبت الشفعة في العقار فقط، فقد «قَضَى رَسُولُ الله H بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ»، وهذا يدل على أنه إنما أراد الشفعة في الأرض؛ لأنها التي تخص بتمييز الحدود وتصريف الطرق.
وقال H: «الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ: أَرْضٍ، أَوْ رَبْعٍ، أَوْ حَائِطٍ»، فخصها بأشياء، ولأن الضرر بالعقار يكثر جدًّا، فالشريك يحتاج إلى إحداث المرافق وتغيير الأبنية وتضييق الواسع وتخريب العامر، وما عدى العقار ضرره يسير.
وذهب بعض العلماء إلى ثبوت الشفعة في المنقول كالعقار، فقد «قَضَى
رَسُولُ الله H بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ»، وهذا يتناول المنقول والعقار، وفي رواية: «قَضَى النَّبِيُّ H بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ»، وقال أيضًا: «الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ». وذكره للشفعة في العقار لا يلزم منه أنه لا شفعة في غيره، وإنما نص على العقار؛ لأن الضرر فيه أكثر، وإلا فالضرر متوقع في المنقول المشترك، كما هو متوقع في العقار المشترك.
وهذا هو الأرجح، وهو مذهب بعض السلف والظاهرية، ورواية لمالك، ورواية لأحمد، وقال به ابن تيمية وابن القيم وابن باز وابن عثيمين.
المسألة الثانية: ما انتقل إلى غير الشريك بغير بيع([3]):
أولًا: إذا انتقل بعوض غير المال.
كأن يجعل حصته مهرًا أو عوضًا في الخلع أو عوضًا في صلح، وقد اختلف العلماء في الشفعة فيه:
القول الأول: لا شفعة فيه؛ لأنه ليس ببيع، والأدلة إنما دلت على ثبوت الشفعة في البيع فيقتصر عليه، ولأنه ليس له عوض يمكن أن يؤخذ به.
وهذا مذهب الحنفية والظاهرية، وهو الصحيح عند الحنابلة.
القول الثاني: تثبت الشفعة فيه، فقد انتقل نصيب الشريك بعقد معاوضة فأشبه البيع، فدخل في عموم الأدلة المثبتة للشفعة للشريك.
وهذا مذهب المالكية والشافعية، ورواية للحنابلة، وهو الأرجح، ويدفع قيمة هذا الجزء المشترى، سواء زاد عما كان عوضًا عنه أم نقص أم ساوى، على الصحيح من أقوال أهل العلم، فهو قيمته.
ثانيًا: إذا انتقل بغير عوض.
كَهِبَةٍ أو صدقة أو وصية أو إرث.
فالذي عليه عامة العلماء - إلا من شذ - أنه لا شفعة فيه؛ لأن الأدلة إنما جاءت بإثبات الشفعة في البيع، وليس هذا منه ولا في معناه؛ لأنه بغير عوض.
المسألة الثالثة: الشفعة لشركاء حصصهم متفاوتة([4]):
كدار بين ثلاثة شركاء، لأحدهم النصف، وللآخر الثلث، وللثالث السدس، وباع أحدهم نصيبه.
فمذهب المالكية، والصحيح عند الحنابلة، ووجه عند الشافعية: أن الشفعة تكون لكل واحد منهم بقدر ملكه؛ لأنه حق استفيد بسبب الملك، فكان على قدر الأملاك. فعلى المثال السابق: لو باع صاحب النصف حقه؛ فلصاحب الثلث أن يشفع بثلثي النصف، ولصاحب السدس أن يشفع بثلث النصف؛ لأن الثلث إلى السدس اثنان إلى واحد.
ومذهب الحنفية، ورواية لأحمد، ووجه للشافعية: أن الشفعة تكون بينهم على عدد رؤوسهم بالسوية؛ لأن كل واحد منهم لو انفرد بالشفعة لاستحق الجميع. فعلى المثال السابق: لو باع صاحب النصف نصيبه، فلصاحب الثلث ولصاحب السدس حق الشفعة بالسوية، لأنهما اثنان، فنصف النصف لواحد ونصفه للآخر.
والقول الأول هو الأقرب.
([1]) معرفة السنن والآثار (4/495).
([2]) المحلى مسألة (1595)، المغني (7/440)، شرح مسلم (11/38)، الاستذكار (21/263)، فتح الباري (5/192)، إعلام الموقعين (2/140)، الإنصاف (6/257)، مجموع الفتاوى (30/381)، منحة العلام (6/410).
([3]) المغني (7/444)، المحلى مسألة (1596)، الإنصاف (6/252).
([4]) المغني (7/497)، الشرح الممتع (4/473).