وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ, فَأَتَى النَّبِيَّ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا, فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا, وَتَصَدَّقْتَ بِهَا». قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ, غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا, وَلَا يُورَثُ, وَلَا يُوهَبُ, فَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ, وَفِي الْقُرْبَى, وَفِي الرِّقَابِ, وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ, وَابْنِ السَّبِيلِ, وَالضَّيْفِ, لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ, وَيُطْعِمَ صَدِيقًا - غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مَالًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ, لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ, وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ.
تخريج الحديث:
حديث ابن عمر L: روه البخاري (2837)، ومسلم (1632).
فقه الحديث:
المسألة الأولى: تصرف الواقف في الوقف([1]):
عامة العلماء - إلا من شذ - أن الوقف لازم للأبد، فيمتنع على الواقف التصرف فيه، ببيع أو هبة أو رهن أو توريث أو رجوع فيه، فقد قال النبي H لعمر I في الأرض التي أصابها بخيبر: «إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا»، قَالَ: «فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُورَثُ،
وَلَا يُوهَبُ».
فإن شرط الواقف الرجوع في الوقف متى شاء؛ فقال جمهور العلماء: يبطل الوقف؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الوقف، فالوقف حبس على التأبيد.
ومذهب المالكية وشيخ الإسلام ابن تيمية: أن له شرطه، فيصح الوقف ويصح الشرط، فلا دليل على منعه، وباب التبرع أمره واسع، وفي هذا توسيع على الناس في عمل الخير، وهو الأقرب.
المسألة الثانية: إذا تعطلت منافع الوقف([2]):
كدار انهدمت، أو أرض خربت وعادت مواتًا، ولم يمكن عمارتها، أو مسجد انهدم ولم تمكن إعادته، أو انتقل أهله عنه وصار لا يصلى فيه، أو ضاق بأهله، ولم يمكن توسيعه في موضعه.
اختلف العلماء في كيفية التعامل مع الوقف في هذه الحالة:
القول الأول: تنقل آلات الوقف إلى وقف مثله، فآلات المسجد مثلًا -من خشب أو حجار- تنقل إلى مسجد آخر، فإن لم يمكن ذلك يباع الوقف، ويصرف ثمنه في وقف مثله، بلا فرق بين عقار وغيره، وبين مسجد وغيره، لأنه لما تعذر تحصيل الغرض من الوقف بالكلية استوفي منه ما أمكن، وتركه يفضي إلى فوات الانتفاع به بالكلية، ربما تسلط عليه الظلمة أو اللصوص، فيبقى الوقف بمعناه عند تعذر إبقائه بصورته، لأن الأصل إذا لم يحصل به المقصود يقام بدله مقامه، وقد «بَنَى سَعْدٌ الْقَصْرَ، وَاتَّخَذَ مَسْجِدًا فِي أَصْحَابِ التَّمْرِ، فَكَانَ يَخْرُجُ إِلَيْهِ فِي الصَّلَوَاتِ، فَلَمَّا وَلِيَ عَبْدُ اللَّهِ بَيْتَ الْمَالِ، نُقِبَ بَيْتُ الْمَالِ، فَأَخَذَ الرَّجُلَ، فَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى عُمَرَ، فَكَتَبَ عُمَرُ: أَنْ لا تَقْطَعْهُ، وَانْقُلِ الْمَسْجِدَ، وَاجْعَلْ بَيْتَ الْمَالِ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ»، رواه الطبراني في الكبير (8949)، وفيه انقطاع، واستشهد به الإمام أحمد، وكان هذا بمشهد من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد، وعليه: إذا بيع المسجد صار ملكًا للمشتري، فيجوز له جعله بيتًا أو دكانًا؛ لأنه زال عنه وصف المسجد.
ولا يعود الوقف إلى الواقف عند تعطل منافعه؛ لأنه قد صار وقفًا وزال عنه ملك الواقف، ويصرف ثمنه على مثله، لأجل الاتفاق مع مقصود الواقف.
والنهي عن بيع الوقف لا تدخل فيه هذه الصورة أصلًا؛ لأن المقصود بقوله: «لا يباع» أي: لأكل ثمنه، أو لا يباع ما دامت منافعه قائمة، أو يقال: هذه الصورة مستثناة من عموم النهي عن بيع الوقف للضرورة.
وهذا هو المذهب عند الحنابلة، ومذهب جماعة كبيرة من الحنفية، واختاره علماء اللجنة الدائمة([3]) وابن عثيمين([4]).
القول الثاني: لا يباع المسجد إذا تعطلت منافعه، وإنما تنقل أنقاضه إلى مسجد آخر، فهو مسجد إلى قيام الساعة، ولأنه يمكن عمارته أو الانتفاع به بالصلاة في أرضه، وباقي الموقوفات تباع وتصرف في مثلها؛ لأنه لا يرجى منفعتها، فكان بيعها أولى، وعليه كثير من الحنفية، وهو الأصح عند الشافعية، ووراية لأحمد.
القول الثالث: لا يجوز بيع العقار، ويجوز نقله إذا تعذر إصلاحه، وغير العقار من عروض وحيوان يجوز بيعها إذا ذهبت منافعها؛ خشية أن تتلف، وهذا المذهب عند المالكية.
القول الرابع: لا يباع الوقف مطلقًا، وإنما تنقل آلياته، وهذا رواية لأحمد.
القول الخامس: لا ينقل الوقف ولا يباع مطلقًا، ولو تعطلت منافعه؛ لأن الوقف لا يتصرف فيه، وما لا يجوز بيعه مع بقاء منافعه لا يجوز بيعه مع تعطلها، فقد نهى الشرع عن بيع الوقف، وهذا قول أبي حنيفة، وقول للمالكية والشافعية.
القول السادس: يعود الوقف لمالكه؛ لتعطل ما لأجله أوقفه الواقف، وهو قول بعض الحنفية.
والقول الأول هو الراجح، دفعًا للمفسدة الكبرى بالأدنى، والمشهور عند من قال ببيعه للضرورة: أن هذا لا يكون إلا بإذن الحاكم، وهو صحيح؛ خشية الاستهانة بأمر الوقف والتلاعب به والاعتداء عليه.
وإن تعطلت أكثر منافعه؛ فقال بعض الحنابلة ومنهم ابن تيمية: يباع أيضًا؛ لأنه لا يمكن أن تتعطل منافعه كلها، وإلا لما صح الانتفاع به حتى لمشتريه.
المسألة الثالثة: إذا استغنت الجهة الموقوف لها عن الوقف([5]):
هذه المسألة فيها خلاف:
القول الأول: يصرف لغيره من الوقف المماثل له، فخشب المسجد وحصيره الذي استغنى عنها يصرف لغيره من المساجد، ولا يحبس المال بلا فائدة، وربما تلف أو سُرِق.
فإن لم يوجد مثله صرِف على المساكين والفقراء من جيرانه، لأنه مال الله لم يبق له مصرف، وقد جاء في صحيح مسلم عن عائشة J أن النبي H قال: «لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، لَأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
وهذا المذهب عند الحنابلة، وقول جماعة من الحنفية، وفتوى اللجنة الدائمة.
القول الثاني: يحفظ دائمًا للمكان الموقوف عليه، فربما احتاجه فيما بعد، والوقف حبس على الموقوف عليه، وحديث الكعبة المراد به: بناء الكعبة من كنزها، وهذا يصدق عليه أنه في سبيل الله، وهذا مذهب الشافعية.
القول الثالث: يرد إلى واقفه؛ لاستغناء من وقف عليه عنه، وهذا المشهور عند الحنفية.
والقول الأول هو الراجح، لكن إذا أمكن بيعها ورد ثمنها في مصالح الوقف الذي أوقف عليه فعل ذلك، نص عليه الشافعية والحنابلة، كحصر المسجد إذا بليت، ونحاتة أخشابه إذا نخرت، يصرف ثمنها في مصالح المسجد.
المسألة الرابعة: نفقات الوقف([6]):
اتفق الفقهاء على أن نفقات الوقف ومؤن تجهيزه وإصلاحه تكون من غلته أو منافعه، لأن الحفاظ على أصل الوقف لا يمكن إلا بالإنفاق عليه من غلته، فكان ذلك من ضروريته.
وإذا اشترط الواقف ان تكون نفقات الوقف من ماله؛ صح هذا الشرط، وتكون نفقاته من مال الواقف، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.
المسالة الخامسة: مصارف الوقف([7]):
إذا أنفق الوقف في طاعة صح باتفاق العلماء، فيصح الوقف على الأقارب، وعلى الفقراء، وعلى ابن السبيل، وعلى المجاهدين في سبيل الله، وعلى طلبة العلم، وعلى المساجد والسقايات، ونحوها.
وإذا نص الواقف على أن يكون الوقف لجهة خيرية معينة، واشترط ذلك؛ فيلزم العمل بما نص عليه واشترطه، ولا يصرف لغير هذه الجهة إلا عند الضرورة، وقد قال الفقهاء: «شرط الواقف كنص الشرع»، أي: بالاتباع والعمل به عند جمهور الفقهاء، ما لم يخالف الشرع، وقد أوقف عمر I أرضًا في عهد رسول الله H وتصدق بها على الفقراء والقربى والرقاب وفي
سبيل الله وابن السبيل والضيف.
وإذا اشترط الواقف أن يصرف الوقف على جهات محرمة، كبناء المشاهد والقباب على القبور؛ بطل شرطه باتفاق العلماء، ففي الصحيحين أن النبي H قال: «أَيُّمَا شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ»، وفي صحيح مسلم أنه H قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ».
واختلف العلماء في الوقف على الجهات المباحة على قولين مشهورين:
القول الأول: لا يصح الوقف، لأنه يشترط فيه أن يكون على وجه البر، لأن الوقف قربة، ولأن الإنسان ليس له أن يبذل ماله إلا لما فيه منفعة في الدين أو الدنيا، وإلا كان مضيعًا لماله، يحجر عليه في الشرع، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة، ورجحه ابن تيمية، ونقله عن جمهور العلماء.
القول الثاني: يصح هذا الوقف، فلا يشترط أن يكون على بر وقربة، ولكن يشترط ألا يكون على إثم، ولا دليل على منعه، وإن لم يؤجر عليه، وللشخص التصرف في ماله بالأمور المباحة، وهذا مذهب المالكية، وهو الأصح عند الشافعية، وهو الأقرب، والله أعلم.
المسألة السادسة: ناظر الوقف ووظيفته ونفقته([8]):
اتفق العلماء على أنه يصح للواقف تعيين ناظر للوقف، وله جعل الولاية والنظر لنفسه، فقد بقي وقف عمر I في يده إلى مماته، وأوقف علي I وقفًا وشرط لابنه الحسن I النظر، ثم لابنه الحسين I.
ووظيفة الناظر: حفظ الوقف، وإصلاحه، وعمارته، وإيجاره، والمخاصمة فيه، وتحصيل الغلة من زرعه وثمره، وقسمتها بين المستحقين.
وأجرة الناظر تكون من غلة الوقف، إذا شرطه الواقف، ولو كانت أكثر من أجرة المثل، باتفاق أصحاب المذاهب الأربعة، فإن لم يشترطه الواقف؛ يُلزَم القاضي بصرف أجرة للناظر لا تزيد عن أجرة المثل، بغض النظر أكان الناظر محتاجًا أم غير محتاج، وهذا عليه جمهور الفقهاء.
وقد اشترط عمر I في وقفه أنه «لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالمَعْرُوفِ، وَيُطْعِمَ صَدِيقًا، غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مَالًا –أي: لا يتملك منه شيئًا-».
وإذا لم يشترط الواقف ناظرًا؛ فمذهب المالكية، والمذهب عند الشافعية، ورواية للحنابلة: أن النظر فيه يكون للحاكم مطلقًا؛ لأن له النظر العام، فكان أولى بالنظر فيه.
والمذهب عند الحنابلة: أن فيه تفصيلًا؛ فإذا كان الوقف لجهة عامة كالمساجد؛ فالنظر يكون للحاكم، وإذا كان الوقف لشخص أو جماعة معينة؛ فالنظر فيه يكون للموقوف عليهم، وهذا هو الأرجح.
المسألة السابعة: انتفاع الواقف بالوقف([9]):
إذا كان الواقف وقف وقفًا عامًا للمسلمين؛ فإنه يدخل في جملتهم، كأن يقف مسجدًا؛ فله أن يصلي فيه، أو مقبرة؛ فله الدفن فيها، أو بئرًا؛ فله أن يستسقي منها، فيكون كواحد من المسلمين، بلا خلاف بين العلماء.
وإذا اشترط أن ينفق منه على نفسه وأهله؛ صح الوقف والشرط في المذهب عند الحنابلة وعند بعض الحنفية؛ لأن عمر I لما وقف أرضه قال: «لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالمَعْرُوفِ، وَيُطْعِمَ صَدِيقًا، غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مَالًا»، وله منه بقدر ما اشترطه في البداية.
وإن لم يشترط قدرًا معينًا؛ أنفق منه على نفسه وأهله بالمعروف. وقال جمهور العلماء: لا يجوز للواقف أن يشترط نفقة لنفسه أو أهله منه، كالبيع والهبة، ولأن ما ينفقه على نفسه مجهول، وما ذكره عمر I إنما هو في المتولي والناظر على الوقف، فهو مقابل عمله.
والقول الأول هو الأرجح، فلا مانع منه إذا اشترطه.
([1]) شرح مسلم (11/73)، المغني (8/184، 217)، فتح الباري (6/61)، بدائع الصنائع (6/218)، المحلى (9/183)، الإنصاف (7/35)، الفقه الإسلامي (10/7656).
([2]) المجموع شرح المهذب (16/329)، المبسوط للسرخسي (12/41)، الذخيرة للقرافي (6/328)، مجموع الفتاوى (31/202)، المغني (8/220)، الإنصاف (7/101)، حاشية ابن عابدين (6/429)، كشاف القناع (2/470)، رسالة المناقلة لابن قاضي الجبل (ص/52)، الفقه الإسلامي وأدلته (10/7672)، الموسوعة الفقهية (44/194).
([3]) فتاواها (6/146).
([4]) الشرح الممتع (4/587).
([5]) المغني (8/224)، شرح مسلم (9/77)، فتح الباري (4/253)، مجلة البحوث الإسلامية (3/361)، الفقه الإسلامي وأدلته (10/7673).
([6]) المغني (8/238)، الفقه الإسلامي وأدلته (10/1670).
([7]) إعلام الموقعين (4/184)، مجموع الفتاوى (31/31، 58)، الإنصاف (7/13)، الفقه الإسلامي وأدلته (10/7646)، كتاب الوقف، د/ عكرمة (ص/195)،
([8]) المغني (8/270)، كشاف القناع (2/458)، مواهب الجليل (6/40)، مغني المحتاج (2/393)، الإنصاف (7/58، 69)، الفقه الإسلامي (10/7686)، كتاب الوقف، د/ عكرمة (ص/353).
([9]) المغني (8/191)، فتح الباري (6/62)، الإنصاف (7/18)، الفقه الإسلامي وأدلته (10/7644).