عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا كَانَ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «أَكُلُّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟». فَقَالَ: لَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «فَارْجِعْهُ».
وَفِي لَفْظٍ: فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى النَّبِيِّ لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي. فَقَالَ: «أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟». قَالَ: لَا. قَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ, وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ». فَرَجَعَ أَبِي, فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: «فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» ثُمَّ قَالَ: «أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا لَكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟» قَالَ: بَلَى. قَالَ: «فَلَا إِذًا».
تخريج الحديث:
حديث النعمان بن بشير L: رواه البخاري (2586، 2587)، ومسلم (1620).
فقه الحديث:
المسألة الأولى: الهبة للأولاد([1]):
اختلف العلماء في هبة الوالد لبعض أولاده دون البعض الآخر على قولين:
القول الأول: لا تجب التسوية بينهم في الهبة، وإنما تستحب، فما جاء في قصة النعمان بن بشير L إنما هو للكراهة فقط، فقد قال له رسول الله H: «أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي»، فلو كان حرامًا؛ لما أباح له أن يشهد عليه، وقال لبشير والد النعمان L: «فَارْجِعْهُ»، وهذا يدل على صحة الهبة، وإنما دلَّه على الأفضل.
وقد جاء عن عائشة J: «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ نَحَلَهَا حَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالٍ بِالْغَابَةِ. فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ غِنًى بَعْدِي مِنْكِ وَلا أَعَزَّ عَلَيَّ فَقْرًا بَعْدِي مِنْكِ وَإِنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ مِنْ مَالِي جُدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا، فَإِنْ كُنْتِ جَدَدْتِيهِ وَاحْتَزْتِيهِ كَانَ لَكِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ مَالُ الْوَارِثِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَخَوَاكِ وَأُخْتَاكِ، فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ D »، رواه مالك في الموطأ (2/572)، وإسناده صحيح، فلو كان محرمًا؛ لما فعله أبو بكر I، وإنما رجع فيه؛ لأن عائشة J لم تقبضه بعد.
وما جاء عن عمر I يفهم منه: جواز النِّحلة لبعض الأولاد. رواه البيهقي (6/170)، بإسناد صحيح.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
القول الثاني: تحرم المفاضلة بين الأولاد في الهبة، ويجب العدل بينهم، فقد خص بشير ولده النعمان بنحلة أو عطية دون بقية ولده، فقال رسول الله H: «اِتَّقُوا الله، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ»، فأمره بالعدل بينهم، والأمر يقتضي الوجوب، وقال له: «فَارْجِعْهُ»، فأمره برد النحلة، والأمر يقتضي الوجوب، وجاء في رواية في الصحيحين أن رسول الله H قال له: «لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ»، والجور: الظلم.
وقوله في رواية: «أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي»، هذا من باب التوبيخ والتنفير وليس للإباحة، كقوله تعالى: ﴿ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡ ﴾ [الكهف: ٢٩]، وقوله D: ﴿ ٱعۡمَلُواْ مَا شِئۡتُمۡ ﴾ [فصلت: ٤٠]، وقد وصف رسول الله H هذه الشهادة بأنها شهادة على جور.
وقوله: «فَارْجِعْهُ» الأمر بإرجاعها يدل على بطلانها، ولو دل على صحتها فقد أمر بردها، والأمر للوجوب.
وردوا على ما جاء عن أبي بكر I بالآتي:
- أنه يحمل على أن بقية أولاده كانوا راضين بهذه الهبة.
- أن عائشة J كانت محتاجة وعاجزة عن الكسب، فأعطاها من باب النفقة الواجبة لها على أبيها، وليست من المحاباة.
- أراد أبو بكر I أن ينحل بقية ولده أيضًا، فأدركه الموت.
- أنه جاء عند عبد الرزاق (9/102) بإسناد صحيح أن أبا بكر I قال لعائشة J: «إِنِي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ آثَرْتُكِ عَلَى وَلَدِي، وَإِنَّكِ لَمْ تَكُونِي حُزْتِيهِ فَرُدِّيهِ»، فرجع أبو بكر I في هبته؛ مخافة أن يكون آثرها على إخوانها بهذا التخصيص، ولأنها –أيضًا- لم تقبضه بعد.
- أنه يحتمل أن ما جاء في قصة النعمان I لم يبلغ أبا بكر I، وجمهور العلماء يحملون ما جاء في قصة النعمان I على الكراهة، والمعروف من حال أبي بكر I اجتنابه للمكروهات، وما جاء عن عمر I يرد عليه بنحو ما سبق.
وهذا مذهب جماعة من السلف والحنابلة والظاهرية وبعض المالكية، وهو الراجح.
تنبيه: والأم كذلك كالأب يجب عليها التسوية بين أولادها؛ لعموم قوله H: «اِتَّقُوا الله، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ»، ولأن ما يحصل بتخصيص الأب لبعض ولده من الحسد والتباغض يوجد مثله هنا، وهو المذهب عند الحنابلة([2]).
المسألة الثانية: كيفية العدل بين الأولاد في الهبة([3]):
اختلف العلماء فيها على قولين:
القول الأول: أن الهبة تكون بينهم بالسوية لا فرق بين الذكر والأنثى، فيسوي بين الجميع في الهبة، ففي حديث النعمان بن بشير L أن النبي H قال لوالده: «أَكُلُّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟»، ولم يفرق بين ذكر وأنثى.
وجاء عند النسائي (6/262)، وابن حبان (5099) أن النبي H قال له: «هَلْ لَكَ بَنُونَ سِوَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: سَوِّ بَيْنَهُمْ»، وإسناده صحيح، وعند الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (5073) قال: «سَوُّوا بَيْنَ أَوْلادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ»، ورجاله ثقات.
وهذا مذهب جمهور العلماء.
القول الثاني: أنه يكون للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأن هذه قسمة الله، ولا أعدل من قسمة الله، والمال للأب يقسم بين أولاده، فلا فرق في كيفية تقسيمه بين حالة مماته وحياته.
والروايات السابقة يرد عليها: بأن الظاهر أن القضية كانت بين النعمان وإخوانه، وأنه ليس هنالك أخوات، ففي ]صحيح مسلم[ أن النبي H قال له: «أَلَكَ بَنُونَ سِوَاهُ؟»، وقال أيضًا: «أَكُلُّ بَنِيْكَ نَحَلْتَهُ؟»، فنص على الأبناء دون البنات، أو يكون معنى التسوية فيها: إعطاء كل واحد منهم ما يستحقه شرعًا، والأنثى شرعًا تستحق نصف ما يستحقه الذكر.
وهذا المذهب عند الحنابلة، وقول بعض المالكية، وبعض الشافعية، واختاره ابن تيمية وابن القيم وعلماء اللجنة الدائمة([4]) وابن عثيمين([5])، وهو الأرجح.
المسألة الثالثة: ما تصح فيه المفاضلة بين الأولاد([6]):
تصح في الصور الآتية:
الأولى: في النفقات والواجبات.
فيجوز التفاضل بينهم، كل امرئ منهم بحسب حاجته، فهنالك فرق بين نفقة الكبير ونفقة الصغير، وبين نفقة المريض ونفقة الصحيح، وبين نفقة من تحمل مسئولية وبين من لم يتحملها، ومنهم من يحتاج للزواج ومنهم من ليس كذلك.
الثانية: إذا خص بعضهم بهبة لسبب يقتضي تخصيصه.
كوجود عاهات أو أمراض مزمنة يعجز معها عن التكسب، أو صاحب عائلة كبيرة، أو لاشتغاله بالعلم الديني، أو يعطي البعض ويمنع البعض الآخر؛ لأنه يستعين به على معصية الله وينفقه فيها، لأن المفاضلة هنا للحاجة وليست على سبيل الأثرة والمحاباة، وقد نحل أبو بكر I ابنته عائشة J دون سائر ولده - كما سبق -.
وهذا القول رواية للإمام أحمد، واختاره بعض الحنابلة، منهم ابن قدامة وابن تيمية، ورجحته اللجنة الدائمة([7]).
والمذهب عند الحنابلة: المنع مطلقًا؛ لعموم قول النبيH: «اِتَّقُوا الله، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ»، دون تفصيل.
والقول الأول أصح، وهو يتفق مع مذهب جمهور العلماء في هذه الحالة.
الثالثة: هبة الشيء اليسير التافه.
نص الإمام أحمد على أنه يعفى عنه، وهو جيد؛ لصعوبة الاحتراز عنه، والمشقة تجلب التيسير.
الرابعة: إذا كان بعض الأبناء يعمل مع والده، فيخصه براتب شهري مقابل عمله بما يساوي عمله.
وهذا جائز؛ لأنه مقابل استحقاقه وأجرته، بشرط ألا يزيده على ما يستحقه.
المسألة الرابعة: الهبة لأولاد الولد([8]):
عامة العلماء على جواز المفاضلة في الهبة بين أولاد الولد؛ لأن الجد له الحق في ماله، وإنما استثني الأولاد بدليل خاص، بشرط ألا يكون الغرض من هذه الهبة أن ترجع للأب، وإلا كانت حيلة، والحيل في الشرع باطلة.
([1]) المغني (8/256)، التمهيد لابن عبد البر (7/223)، المحلى مسألة (1632)، شرح مسلم (11/56)، مجموع الفتاوى (31/294)، فتح الباري (5/350)، الإنصاف (7/130).
([2]) المغني (8/361)، كشاف القناع (4/309)، المبدع (5/200).
([3]) المراجع في المسألة الأولى.
([4]) فتاواها (16/231).
([5]) الشرح الممتع (4/600).
([6]) المراجع السابقة، والأنصاف (7/138).
([7]) فتاواها (16/193، 220).
([8]) المحلى مسألة (1633)، فتاوى اللجنة الدائمة (16/206، 238)، الشرح الممتع (4/601).