وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ وَأَبِي بَكْرٍ, وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ, طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةٌ, فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ, فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ? فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(1083) 04- وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا, فَقَامَ غَضْبَانَ ثُمَّ قَالَ: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى, وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ». حَتَّى قَامَ رَجُلٌ, فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلَا أَقْتُلُهُ? رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَرُوَاتُهُ مُوَثَّقُونَ.
(1084) 05- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طَلَّقَ أَبُو رُكَانَةَ أُمَّ رُكَانَةَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : «رَاجِعِ امْرَأَتَكَ»، فَقَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا. قَالَ: «قَدْ عَلِمْتُ, رَاجِعْهَا». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ: طَلَّقَ أَبُو رُكَانَةَ اِمْرَأَتَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ثَلَاثًا, فَحَزِنَ عَلَيْهَا, فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ H: «فَإِنَّهَا وَاحِدَةٌ». وَفِي سَنَدِهَا ابْنُ إِسْحَاقَ, وَفِيهِ مَقَالٌ.
(1085) 06- وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَحْسَنَ مِنْهُ: أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ الْبَتَّةَ, فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ بِهَا إِلَّا وَاحِدَةً, فَرَدَّهَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ .
تخريج الأحاديث:
حديث ابن عباس L: رواه مسلم (1472).
حديث محمود بن لبيد I: رواه النسائي (6/453) عن مخرمة بن بكير عن أبيه، وقد نص بعض الأئمة على أن مخرمة لم يسمع من أبيه، وإنما يروي عنه وجادة، ولا يضر لصحة الرواية بالوجادة كالسماع، فالحديث صحيح([1]).
حديث ابن عباس L: رواه أبو داود (2196) عن ابن جريج قال: أخبرني بعض أولاد أبي رافع، وهذا الراوي مبهم، وقد جاء التصريح باسمه عند الحاكم (2/491)، قال: عن ابن جريج عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، ومحمد هذا ضعيف جدًّا، فالسند ضعيف، وله طريق أخرى عند أحمد (1/265) من رواية داود بن الحصين عن عكرمة، وهي رواية منكرة، فالسند ضعيف([2]).
وليس سبب ضعفه ابن إسحاق كما ذكر المصنف؛ لأنه صدوق، وإن كان مدلسًا؛ فقد صرح بالسماع في السند.
حديث ركانة: رواه أبو داود (2206)، وفيه نافع بن عجير، مجهول الحال. وهذه الطريق أحسن من طريق ابن عباس كما ذكر المصنف. وله شاهد عند أبي داود (2207)، والترمذي (1177)، وابن ماحه (2208)، شديد الضعف، ففيه ثلاث علل.
فقه الأحاديث:
مذهب الشافعي والظاهرية، ورواية لأحمد: أنه طلاق جائز وليس محرمًا، فلو كان محرمًا؛ لم يمضِه عمر I. وقد طلق ركانة امرأته في مجلس واحد ثلاثًا، ولم ينكر عليه النبي H.
وفي ]الصحيحين[ أن عويمر العجلاني I عندما اتهم امرأته بالزنى وأمرهما النبي H بالملاعنة فلما انتهيا «قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا»، فلم ينكر عليه النبي H.
وذهب جمهور العلماء إلى تحريم الطلاق ثلاثًا في وقت واحد؛ لأن الطلاق يكون قبل العدة لا في أثنائها؛ لقوله D: ﴿ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ﴾ [الطلاق: ١]، وحديث ابن عمر L السابق؛ فعليه: من طلق ثلاثًا في وقت واحد كانت الطلقة الثانية والثالثة قد وقعتا في العدة من الطلقة الأولى.
وفي حديث محمود بن لبيد I: «أُخْبِرَ رَسُولُ الله H عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ اِمْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَقَامَ غَضْبَانَ ثُمَّ قَالَ: أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ الله تَعَالَى، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ»، وذلك لأن القرآن جعل الطلاق مرة بعد مرة، قال الله D: ﴿ ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ... ﴾ [البقرة: ٢٢٩]، وقال بعد ذلك: ﴿ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ...﴾ [البقرة: ٢٣٠].
وحديث ركانة ضعيف، وما جاء عن عويمر العجلاني I يجاب عنه: بأن الفرقة قد حصلت بمجرد الملاعنة، وهي فرقة أبدية، فلم تعد هذه المرأة زوجة له، فيكون طلق من صارت أجنبية عنه، فلم ينهه رسول الله H عن ذلك لعدم الحاجة، وإنما المسألة فيمن طلق ثلاثًا من تحل له طلاقها، وهذا هو الراجح.
كقوله: «هي مطلقة بثلاث»، أو «هي طالق ثلاثا»، أو «هي طالق الطلقة الأولى والطلقة الثانية والطلقة الثالثة»، أو يقول: «هي طالق ثم طالق ثم طالق».
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة:
القول الأول: لا تقع إلا طلقة واحدة، فقد كانت تعد واحدة في عهد
رسول الله H وفي عهد أبي بكر I وفي أول خلافة عمر I، فلما تساهل الناس فيها عاقبهم عمر I بان جعلها ثلاثًا، من قبيل التعزير والتأديب؛ لِما يراه من مصلحة رعيته، ووافقه الصحابة M على هذا الاجتهاد، لا أن هذا يلزم شرعًا، فعن ابن عباس L أنه قال: «كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله H وَأَبِي بَكْرٍ، وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ...»، وفي حديث ابن عباس L الآخر أن ركانة - أو أبا ركانة - طلق امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فقال له رسول الله H: «راجعها»، وفي رواية: «فَإِنَّهَا وَاحِدَةٌ»، وما جاء أنه طلقها البتة؛ فالمراد به الثلاث بوقت واحد، فلا تعارض بين اللفظين.
وهذا مذهب قلة من التابعين، وبعض الظاهرية، وابن تيمية وابن القيم ومقاتل البلخي الحنفي ومحمد بن القاسم هبة الله الشافعي، وجماعة من مشايخ قرطبة المالكية، وجماعة من علماء العصر([5]).
القول الثاني: أنها تقع ثلاث طلقات؛ لأن الشرع قطع بأن المرأة تحرم على زوجها إذا طلقها ثلاثًا، فلا فرق شرعًا ولا لغةً بين أن يقولها مجموعة في مجلس واحد، أو أن يقولها متفرقة في مجالس، فقد حصل في الحالتين استيفاء العدد. وقد جاء في الصحيحين أن عويمر لما فرغ مع زوجته من اللعان طلقها ثلاثًا في كلمة واحدة، ولم ينكر عليه رسول الله H ذلك.
وقد أجمع الصحابة في عهد عمر I على أنها تقع ثلاثًا؛ فكان حجة.
وأجابوا عن حديث ابن عباس L في ]صحيح مسلم[ بعدة أجوبة، منها:
وأما حديث ابن عباس L في طلاق ركانة - أو أبي ركانة -؛ فهو حديث ضعيف، وقد جاء أنه طلقها البتة، لا ثلاثًا في مجلس واحد.
وهذا مذهب جمهور العلماء، وجماعة من المعاصرين، كمحمد بن إبراهيم آل الشيخ والشنقيطي رحمهما الله، وأكثر علماء هيئة كبار العلماء([6]). والإفتاء في هذه المسألة خطير جدًّا، وقد تساهل الناس فيه مع خطورته.
وأما إذا طلقها طلقة ثم راجعها ثم طلقها ثانية ثم راجعها ثم طلقها ثالثة -كل هذا في مجلس واحد-؛ فعامة العلماء على أنها ثلاث طلقات، وقد نقل أيضًا عن ابن تيمية V.
مذهب جماعة من الصحابة والتابعين، والإمام مالك وأحمد في رواية: أنها تعد ثلاث طلقات، فهذا الذي يفهم من اللفظ.
ومذهب بعض الصحابة، وجماعة من التابعين، وأبي حنيفة والشافعي وأحمد في رواية: أن هذا يرجع إلى نيته؛ فإن قصد واحدة فهي واحدة، وإن قصد ثلاثًا فهي ثلاث، فهذه الألفاظ من كناية الطلاق وليست من صريحه. وقد طلق ركانة امرأته البتة وقال: «مَا أَرَدْتُ بِهَا إِلَّا وَاحِدَةً، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ H ».
وهذا هو الأرجح.
([1]) زاد المعاد (5/242)، أضواء البيان (1/168).
([2]) الاستذكار لابن عبد البر (17/21).
([3]) المحلى مسألة (1951)، الاستذكار (17/9)، المغني (10/330)، مجموع الفتاوى (33/8، 72)، الإنصاف (8/451).
([4]) الاستذكار (17/10)، شرح مسلم (10/60)، المغني (10/334، 490)، بداية المجتهد (2/61)، المحلى مسألة (1951)، مجموع الفتاوى (33/7-77)، زاد المعاد (5/213)، إعلام الموقعين (3/32)، فتح الباري (10/455)، أضواء البيان (1/160)، البداية والنهاية (13/143).
([5]) انظر: التعليق المغني على سنن الدارقطني للعظيم آبادي (4/49)، رسالة للمعلمي في حكم الطلاق ثلاثا في مجلس واحد، الشرح الممتع (13/42).
([6]) انظر أضواء البيان (1/202)، مجلة البحوث الإسلامية (3/27).
([7]) مصنف ابن أبي شيبة (4/91)، مصنف عبد الرزاق (6/360)، الاستذكار (17/22)، المحلى مسألة (1957)، المغني (10/364)، فتح الباري (10/465)، الإنصاف (8/477).