وَعَنْ عَائِشَةَ , عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ, وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ, وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ, أَوْ يَفِيقَ». رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَالْأَرْبَعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
تخريج الحديث:
حديث عائشة J: رواه أحمد (6/101)، وأبو داود (4398)، والنسائي (3432) وابن ماجه (2041)، وسنده حسن، وقد صح - أيضًا - موقوفًا على علي ابن أبي طالب I، رواه أحمد (1/116)، وأبو داود (4399).
فقه الحديث:
إذا كان الصغير غير مميز –أي: لا يعرف معنى الطلاق وما يترتب عليه-؛ فلا يقع طلاقه بالإجماع.
وإذا كان مميزًا –أي: يعقل معنى الطلاق وما يترتب عليه-؛ فالمشهور عند الحنابلة أنه يقع طلاقه، لأنه يعقل معناه.
والصحيح الذي عليه جمهور العلماء: أنه لا يقع منه الطلاق، لأنه ناقص الإدراك وغير مكلف، وقد «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ –أي: المؤاخذة، وذكر منهم-:... وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبَرَ»، أي: يبلغ.
وهو زائل العقل بغير سكر، ولا يقع طلاقه عند عامة العلماء، فهو ممن رفع القلم -أي التكليف- عنه، ففي الحديث: «وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ، أَوْ يَفِيقَ».
وكذلك إن زال عقله بدواء مباح – لحاجة أو بإغماء أو بنوم -؛ فلا يقع طلاقه.
إذا ذهب عقله بالسكر، وأصبح يخلط في كلامه، ولا يفهم ما يقول؛ اختلف العلماء في وقوع طلاقه:
فذهب جمهور أهل العلم إلى وقوع طلاقه؛ عقابًا له على سكره، ولأنه مكلف في الأصل، فليس كالمجنون والنائم المرفوع عنهما القلم؛ فقد نُهي عن شرب الخمر، فإذا فعل المنهي عنه لم يكن معذورًا فيما فعله من المحرم حال سكره كالقتل والزنا، فكذلك طلاقه، والتجاوز عن أخطاء السكران سابقًا؛ لأن شرب الخمر كان مباحًا.
وذهب جماعة من العلماء إلى عدم وقوع طلاقه؛ لأنه وإن كان مكلفًا بالجملة، لكنه غير مكلف حال السكر؛ لزوال عقله، فلا يفهم الخطاب، فصار كالمجنون أو النائم، وقد قال D: ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعۡلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ﴾ [النساء: ٤٣]، دل ذلك على أن قول السكران غير معتبر؛ لأنه لا يعلم ما يقول، وفي ]صحيح مسلم[ أن ماعزًا I عندما اعترف بالزنى قال النبي H: «اسْتَنْكِهُوهُ»، فأراد إسقاط إقراره؛ ليدفع الحد عنه إذا كان سكرانًا، وفي ]الصحيحين[ أن حمزة I قال للنبي H وهو ثمل: «هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي، فَعَرَفَ النَّبِيُّ H أَنَّهُ ثَمِلٌ، فَنَكَصَ رَسُولُ اللَّهِ H عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرَى»، ولم يحكم عليه
رسول الله H بالردة، وإنما انصرف. وعقوبة السكران الحد، ولا دليل على معاقبته بوقوع طلاقه.
ولأن التصرفات في الشرع يشترط في صحتها: القصد، والنية، والسكران لا قصد له ولا نية صحيحة حال سكره.
وأيضًا قد صح عن عثمان I عدم وقوع طلاق السكران، وهو مذهب بعض السلف والظاهرية، وبعض الحنفية، وبعض الشافعية، ورواية لأحمد، واختاره ابن تيمية وابن القيم وابن باز وابن عثيمين، والله أعلم.
وأما إذا لم يذهب عقله بسبب السكر؛ فطلاقه واقع.
الغضب على ثلاثة أقسام:
الأول: ما يزيل العقل، ولا يشعر صاحبه بما يقول ولا يعلم ما يقول؛ فهذا لا يقع طلاقه بلا خلاف بين العلماء، لأنه صار بحكم المجنون.
الثاني: ما كان من مبادئ الغضب وأوائله؛ فلا يتغير عليه عقله ولا ذهنه ويعلم ما يقول؛ فهذا يقع طلاقه بلا خلاف بين العلماء.
الثالث: وسط في الغضب بين القسمين، فيتعدى أوائله ولا ينتهي إلى آخره، فيشتد بصاحبه ولا يبلغ به زوال عقله، بل يمنعه من التثبت والتروي ويخرجه عن حال اعتداله، فهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية V: «طلاقه محل اجتهاد». وظاهر كلامه: أن طلاقه لا يقع، وهو قول القاضي إسماعيل المالكي وابن القيم وابن باز وابن عثيمين - رحمهم الله-؛ لأنه وإن لم يذهب عقله بالكلية، لكن الغضب استحكم عليه واشتد به، فحال بينه وبين نيته وقصده، بحيث يندم بعد سكونه ندمًا شديدًا.
وقد روى الإمام أحمد (6/276)، وأبو داود (2193)، وابن ماجه (2046)، والدارقطني (4/36)، والبيهقي (7/357) عن عائشة J قالت: قال رسول الله H: «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ»، روي من طريقين فيهما ضعف، حسنه الألباني بمجموعهما([5]).
والإغلاق: انسداد باب العلم والقصد، فيدخل فيه الغضبان، لأنه غلق عليه باب القصد بشدة غضبه، فصار كالمكره، وقد فسر بعض الأئمة الإغلاق في الحديث بالغضب.
وذهب جمهور العلماء إلى وقوع طلاق الغضبان في هذه الحالة، فهو يعلم ما يقول، فوجد منه القصد والعلم بمعناه، وهو مختار لذلك، ولا مكره له، ولم يصل إلى حد الجنون، وقد أمره الشرع بكتم الغضب وتهدئة نفسه ومسك لسانه فلم يفعل، فيتحمل ما صدر منه في غضبه هذا.
وأجيب عن حديث: «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ» بالآتي:
وهذا المذهب هو الراجح، وقد ذكر بعض العلماء أنه لا خلاف فيه عند المتقدمين.
([1]) المغني (10/348)، مجموع الفتاوى (33/108)، زاد المعاد (5/205)، فتح الباري (10/348)، الإنصاف (8/431).
([2]) فتح الباري (1/494)، المغني (10/345).
([3]) المغني (10/346)، الاستذكار (18/160)، مجموع الفتاوى (33/102)، إعلام الموقعين (4/39)، فتح الباري (10/480)، سبل السلام (3/377).
([4]) مجموع الفتاوى (33/109)، إعلام الموقعين (3/52)، زاد المعاد (5/215)، فتح الباري (10/489)، الإنصاف (8/432)، جامع العلوم والحكم (1/375)، حاشية ابن عابدين (4/333)، جامع الاختيارات الفقهية (2/689).
([5]) الإرواء (7/113).