وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ قَالَ: دَخَلَ رَمَضَانُ, فَخِفْتُ أَنْ أُصِيبَ اِمْرَأَتِي, فَظَاهَرْتُ مِنْهَا, فَانْكَشَفَ لِي مِنْهَا شَيْءٌ لَيْلَةً, فَوَقَعَتْ عَلَيْهَا, فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ : «حَرِّرْ رَقَبَةً» قُلْتُ: مَا أَمْلِكُ إِلَّا رَقَبَتِي. قَالَ: «فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ»، قُلْتُ: وَهَلْ أَصَبْتُ الَّذِي أَصَبْتُ إِلَّا مِنْ الصِّيَامِ? قَالَ: «أَطْعِمْ عِرْقًا مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتِّينَ مِسْكِينًا». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ, وَالْأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ, وَابْنُ الْجَارُودِ.
تخريج الحديث:
حديث سلمة بن صخر I: رواه احمد (4/37)، وأبو داود (2212)، والترمذي (1198)، وابن ماجه (2062) وغيرهم عن سليمان بن يسار عن سلمة ابن صخر I، والصحيح أنه عن سليمان بن يسار مرسلًا، كما رواه أبو داود (2216) وغيره، وقد رواه الترمذي (1200)، والبيهقي (7/390) عن أبي سلمة ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مرسلًا أيضًا، وهو عند أبي داود عن أبي سلمة وحده، فالحديث يرتقي للحسن بهذه الشواهد مع الشواهد التي سبقت قبله.
فقه الحديث:
وذلك بأن يظاهر الرجل من زوجته مدة معينة، كأن يقول لها: «أنت علي كظهر أمي شهرًا»، وقد اختلف العلماء فيه:
فمذهب مالك: أنه يكون ظهارًا مطلقًا ويسقط التوقيت؛ لأن هذا اللفظ يوجب تحريم الزوجة، فإذا وقته لم يتوقت كالطلاق.
وفي قول للشافعية أنه لا يكون ظهارًا؛ لأن الظهار أن يشبه زوجته على التأبيد بمن تحرم عليه على التأبيد، فيكون لغوًا.
والصحيح: أن الظهار يصح ويكون مؤقتًا كما أقته، فإذا مضى هذا الوقت زال الظهار وحلت المرأة بلا كفارة، فقد قال سلمة بن صخر I: «دَخَلَ رَمَضَانُ، فَخِفْتُ أَنْ أُصِيبَ اِمْرَأَتِي فَظَاهَرْتُ مِنْهَا، فَانْكَشَفَ لِي مِنْهَا شَيْءٌ لَيْلَةً –أي: ظهر بعض أعضائها بسبب ضوء القمر-، فَوَقَعَتْ عَلَيْهَا، فَقَالَ لِي
رَسُولُ الله H حَرِّرْ رَقَبَةً...»، ولم ينكر عليه هذا الظهار المؤقت، ولأن تحريم الظهار يرتفع بالتكفير، فكذلك بالتوقيت، بخلاف الطلاق، وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد، والأصح عند الشافعية.
الصحيح الذي عليه جمهور العلماء: أنها تجب عند عود المظاهر لما قال، فتجب بالظهار والعود معًا، قال D: ﴿ وَٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مِّن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّا ﴾ [المجادلة: 3].
فلا تجب الكفارة بمجرد الظهار، ولا بالظهار مع مكث المرأة معه، ولا يشترط للكفارة أن يعود للظهار مرة ثانية.
ومعنى العود: الوطء أو العزم على الوطء؛ فعليه: إن مات المظاهر أو فارق امرأته قبل العود فلا كفارة عليه.
أجمع العلماء على أن المظاهر يجب عليه أولًا ان يعتق رقبة.
ويشترط عند جمهور العلماء: أن تكون رقبة مؤمنة، قياسًا على كفارة قتل الخطأ.
ولا يشترط فيها الإيمان عند الحنفية والظاهرية ورواية لأحمد؛ لأن الله D ذكرها في الظهار مطلقة، ولا تقاس على غيرها؛ لاختلاف السبب.
وأجمعوا على أن المظاهر إذا لم يجد رقبة؛ فإنه يجب عليه أن يصوم شهرين متتابعين، لقوله سبحانه: ﴿ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ مِن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّا﴾ [المجادلة: ٤].
فإذا قطعه لعذر –كالمرض الشديد-؛ فإن التتابع لا ينقطع، لأن هذا العذر ليس باختياره، وهذا مذهب المالكية والحنابلة، وقول للشافعي.
وأما إذا قطعه لأجل السفر أو لمجيء العيد أو أيام التشريق؛ فجمهور العلماء على أن التتابع ينقطع ويجب عليه العود من جديد، لأن السفر يحصل باختياره، ولأنه يستطيع أن يصوم في الأيام التي لا تتخللها أيام العيد والتشريق.
والمذهب عند الحنابلة: أن التتابع لا ينقطع فيواصل صومه بعد زوال عذره، لأنه يباح له الفطر في رمضان لعذر السفر؛ فكذلك هنا، ولأن الشرع نهى عن صوم يوم العيد والتشريق، وهو ترك الصيام امتثالًا للشرع.
ومذهب الجمهور هو الأقرب والأحوط، والله أعلم.
فإن لم يستطع الصوم لعذر شرعي –مرض أو ضعف في البدن أو كبر في العمر-؛ فعليه الإطعام بإجماع العلماء، وقد قال النبي H للمظاهر: «حَرِّرْ رَقَبَةً، قال: مَا أَمْلِكُ إِلَّا رَقَبَتِي، قَالَ: فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، قال: وَهَلْ أَصَبْتُ الذِي أَصَبْتُ إِلَّا مِنْ الصِّيَامِ؟»، أي: بسبب الصيام، فقد كان لا يستطيع الصبر على ترك الجماع، وهذه العبارة جاءت في قصة سلمة بن صخر بسند ضعيف، وضعفها الشيخ الألباني V([4]).
والواجب عليه أن يطعم ستين مسكينًا، ولا يجزئه أن يطعم أقل من ذلك، ولو بالمقدار من الطعام الذي يكفي لستين مسكينًا، فلا بد من هذا العدد، لظاهر القرآن والسنة، وعلى هذا جمهور العلماء.
والإطعام للمساكين على نوعين:
الأول: أن يعطى للمساكين من غالب قوت البلاد، من بر أو أرز أو شعير أو تمر.
واختلفوا في المجزئ منه لكل مسكين:
فقيل: مُد وهو ربع الصاع، ففي حديث المظاهر قال له: «أَطْعِمْ عِرْقًا مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتِّينَ مِسْكِينًا»، والعرق الزنبيل، قيل: يسع خمسة عشر صاعًا، وقيل: لا حصر له.
وهذا مذهب الشافعي، ورواية لأحمد، ورواية لمالك.
وقيل: صاع، فقد جاء في بعض طرق قصة المظاهر: «أَطْعِمْ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتِّينَ مِسْكِينًا»، والوسق يساوي ستين صاعًا.
وهذا مذهب الحنفية.
وقيل: نصف صاع، قياسًا على ما ثبت في بعض الكفارات، لاختلاف الروايات في قصة المظاهر، ففي فدية الأذى على المحرم في الحج أو العمرة نصف صاع من طعام للمسكين الواحد، والحديث في ]الصحيحين[.
وهذا هو المذهب عند الحنابلة، والمشهور من مذهب مالك، واختارته اللجنة الدائمة([5])، وقدروا النصف الصاع بكيلو ونصف.
وهذا هو الأرجح.
الثاني: دعوة المساكين إلى طعام مطبوخ.
ذهب جماعة من السلف، وهو المذهب عند الشافعية والحنابلة، وقول للمالكية: أنه لا يجزئ، فالمعروف عن رسول الله H في الكفارات التمليك كما في قصة المظاهر والمجامع في نهار رمضان وفدية الأذى على المحرم، وهو المشهور عن الصحابة، ولا يعلم إذا أكلوا أن كل واحد يأكل قدر حقه.
وذهب جماعة من السلف، وهو مذهب الحنفية والمشهور عند المالكية، وقول الظاهرية، ورواية لأحمد، واختيار ابن تيمية وابن القيم: أنه يجزئ لأنه إطعام، فيدخل في عموم قوله تعالى: ﴿ فَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ فَإِطۡعَامُ سِتِّينَ مِسۡكِينٗا ﴾ [المجادلة: ٤]، وقوله تعالى في كفارة اليمين: ﴿ فَكَفَّٰرَتُهُۥٓ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ ﴾ [المائدة: ٨٩]، وهذا إطعام حقيقة.
ثم مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة أنه يطعم ما يحصل به الإشباع بالقدر الواجب لكل مسكين.
وظاهر كلام الإمام أحمد، ومذهب الظاهرية، واختيار ابن تيمية وابن القيم: بما يحصل به الإشباع، ولو كان دون القدر الواجب.
واختلفوا: هل تكفي وجبة واحدة أم لابد من وجبتين؟
فقال بعض السلف والحنفية والمالكية: لابد من وجبتين كغداء وعشاء، أو غدائين أو عشائين؛ حتى يكون كل مسكين قد أخذ قدر حقه الواجب فيما لو أعطى تمليكًا من الحبوب.
وقال بعض السلف، ورواية لأحمد، وقول الظاهرية وابن تيمية وابن القيم: تكفي وجبة واحدة؛ فهذا الظاهر من الأدلة، واختارته اللجنة الدائمة([6]).
قلت: الأحوط وجبتان، يحصل بهما الإشباع، والقدر الواجب والأفضل إعطاء المسكين من غالب قوت البلاد من الحبوب؛ لاتفاق الجميع على إجزائه.
([1]) المغني (11/68)، البيان للعمراني (10/342).
([2]) المغني (11/72)، المجموع شرح المهذب (17/358)، بداية المجتهد (2/106)، زاد المعاد (5/227).
([3]) المغني (11/88)، المجموع شرح المهذب (17/378)، بداية المجتهد (2/113)، زاد المعاد (5/338)، الإنصاف (9/230)، أضواء البيان (6/556).
([4]) الإرواء (2094).
([5]) فتاواها (20/288).
([6]) المغني (4/384)، (11/94، 97)، المحلى مسألة (1183)، مجموع الفتاوى (35/350)، فتح الباري (13/459)، حاشية ابن عابدين (2/565)، حاشية الدسوقي (2/67)، (3/387)، الموسوعة الفقهية الكويتية (5/117)، أحكام اليمين، د/ المشيقح (ص/75)، فتاوى اللجنة الدائمة (23/7، 12، 20).