وَعَنْ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «أَنَا بَرِئٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ». رَوَاهُ الثَّلَاثَةُ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ , وَرَجَّحَ الْبُخَارِيُّ إِرْسَالَهُ.
(1277) 07- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ H: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ, وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
تخريج الحديثين:
حديث جرير بن عبد الله البجلي I: رواه أبو داود (2645)، والنسائي (8/36)، والترمذي (1604)، ورجاله ثقات، وأكثر الرواة على إرساله، ورجح الإرسال البخاري وأبو داود والترمذي وأبو حاتم والدارقطني([1])، وهو الأصح.
حديث ابن عباس L: رواه البخاري (2825)، ومسلم (1353).
فقه الحديثين:
الصحيح الذي عليه جمهور العلماء: أن دار الإسلام هي البلدة التي يسيطر عليها المسلمون، ويحكمها المسلمون، وتجري فيها الأحكام الإسلامية، ولو كان أكثر أهلها من الكفار.
وأما دار الكفر؛ فهي البلدة التي لا تقام فيها شعائر الإسلام على وجه عام شامل، والنفوذ فيها للكفار، ولو أقيمت فيها شعائر الإسلام على وجه مخصوص.
لا خلاف بين العلماء على أنه لا يجوز للمسلم البقاء في دار الكفر، وتجب عليه الهجرة إذا خشي على نفسه الفتنة في الدين، أو كان مستضعفًا لا يستطيع إقامة الشعائر الإسلامية، أو كان لا يأمن فيها على نفسه أو ماله أو عرضه، لأنه يجب عليه اتقاء الفتن، ويجب عليه القيام بواجبات الدين والصيانة لنفسه وماله وعرضه، وفي هؤلاء قال E: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمۡۖ قَالُواْ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ... الآية ﴾ [النساء: ٩٧].
وأما من عجز عن الهجرة، واضطر للبقاء لسبب -كمرض أو ضعف أو إكراه على الإقامة-؛ فيجوز له البقاء، ولا تجب عليه الهجرة لعدم القدرة عليها، فقد قال E: ﴿ إِلَّا ٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ حِيلَةٗ وَلَا يَهۡتَدُونَ سَبِيلٗا ٩٨ فَأُوْلَٰٓئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعۡفُوَ عَنۡهُمۡ ﴾ [النساء: ٩٨ - ٩٩].
وتجوز للمسلم الإقامة في دار الكفر، إذا كانت في إقامته مصلحة للإسلام أو المسلمين، ولم يخش الفتنة في دينه وتمكن من إقامة دينه، كما ذكره جماعة من أهل العلم([4]).
واختلفوا في المسلم يقيم في دار الكفر مع استطاعته على الهجرة، وليس مضطرًّا للبقاء، وكان لا يخشى على نفسه فتنة، لما عنده من قوة دين تمنعه من الشهوات ومن علم يدفع به الشبهات، ولا يخشى من ضرر على نفسه أو ماله أو عرضه، ويستطيع إقامة شعائر الإسلام فيها، وهو مبغض للكفار:
القول الأول: لا يجوز له البقاء، وتجب عليه الهجرة؛ لقوله D: ﴿ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلَٰيَتِهِم مِّن شَيۡءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ ﴾ [الأنفال: ٧٢]، وقوله D: ﴿ فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنۡهُمۡ أَوۡلِيَآءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ [النساء: ٨٩].
وفي ]صحيح مسلم[ عن بريدة I أن النبي H كان يقول لأمير الجيش: «ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ»، وهذا أمر فهو يقتضي الوجوب.
وفي حديث جرير البجلي I أن رسول الله H قال: «أَنَا بَرِئٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ المُشْرِكِينَ»، وروى الإمام أحمد (5/4) عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله H: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ سبحانه وتعالى مِنْ مُشْرِكٍ يُشْرِكُ، بَعْدَ مَا أَسْلَمَ عَمَلًا، أَوْ يُفَارِقُ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ»، وإسناده حسن.
وهذا مذهب المالكية وابن حزم، وكثير من العلماء العصريين.
القول الثاني: يجوز للمسلم في هذه الحالة البقاء في دار الكفر، ولا تجب عليه الهجرة، وإنما تستحب، فقد قال D: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمۡۖ قَالُواْ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ... الآية ﴾ [النساء: ٩٧]، ففيه: أن الله E أمرهم بأن يهجروا البلد الذي لا يأمنون فيه على أنفسهم، ولا يتمكنون فيه من إقامة دينهم، فيفهم منه: أن من لم يكن مستضعفًا وكان متمكنًا من إقامة دينه أنه لا تجب عليه الهجرة.
وفي ]الصحيحين[ عن أبي سعيد الخدري I: «أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ
رَسُولَ اللَّهِ H عَنِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: وَيْحَكَ، إِنَّ شَأْنَ الْهِجْرَةِ لَشَدِيدٌ فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ تُؤْتِي صَدَقَتَهَا؟، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا»، فأقره على المكث في بلده يعبد ربه، ولم يأمره بالهجرة.
وفي ]الصحيحين عن عائشة J قالت: «لَا هِجْرَةَ الْيَوْمَ، كَانَ الْمُؤْمِنُ يَفِرُّ أَحَدُهُمْ بِدِينِهِ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ H مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ، فَالْمُؤْمِنُ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ شَاءَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ»، فمقتضى كلامها: أن من قدر على عبادة الله E في أي بلد كان لم تجب عليه الهجرة، وله البقاء فيه.
وفي حديث ابن عباس L أن النبي H قال: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ –أي: لا هجرة واجبة من دار الكفر إلى دار الإسلام-، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ –أي: ولكن يبقى الجهاد والنية الصالحة-».
وما جاء في ]صحيح مسلم[ من حديث بريدة I فتتمته: «فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ
حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ»، فأقرهم على البقاء وأمرهم بالهجرة استحبابًا.
والآيات التي تأمر بالهجرة وتذم من تركها هي في حق من كان مستضعفًا ولا يتمكن من إقامة دينه أو منسوخة، فقد كان في أول الأمر يحتاج المسلمون لهجرتهم لضعفهم وقلتهم مع قيام الحرب.
وحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده معناه: أن المشرك إذا أسلم، ثم ارتد، ثم رجع إلى الإسلام؛ فلا يقبل منه عمل حتى يفارق دار الكفر إلى دار الإسلام، أو أنه خاص بمن لم يأمن على دينه، أو أنه منسوخ، أو يحمل على الاستحباب؛ جمعًا بين الأدلة.
وكذلك الجواب على حديث جرير بن عبد الله البجلي I، على صحته.
وهذا مذهب جمهور العلماء من فقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة.
وهذا القول هو الأرجح، إلا إذا كان في إقامته بينهم تقوية لجانبهم ودعم لهم، فتجب عليه الهجرة ولا يجوز له البقاء.
([1]) تحفة الأحوذي (5/189).
([2]) أحكام أهل الذمة (2/728)، العلاقات الدولية للزحيلي، وفقه الأقليات، لخالد عبد القادر، والهجرة إلى بلاد غير المسلمين لعمار عامر، والهجرة ومفارقة المشركين لحسين العوايشة، والولاء والبراء للقحطاني.
([3]) المغني (13/150)، فتح الباري (6/122)، (7/365)، وانظر المراجع السابقة.
([4]) وانظر مجلة البحوث الإسلامية (32/98).