عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: اثْنَانِ فِي النَّارِ, وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ. رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ, فَقَضَى بِهِ, فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ. وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ, فَلَمْ يَقْضِ بِهِ, وَجَارَ فِي الْحُكْمِ, فَهُوَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ, فَقَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ, فَهُوَ فِي النَّارِ». رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ, وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
حديث بريدة: رواه أبو داود (3573)، والنسائي في الكبرى (5/397)، وابن ماجه (2315)، وإسناده حسن.
ورواه الترمذي (1322) بإسناد آخر، فيه شريك النخعي، فيه ضعف.
وللحديث طرق أخرى ضعيفة يرتقي بها إلى الصحة([1]).
أجمع العلماء على تحريم الحكم بالقضاء بغير علم، فقد جعله الله من أعظم المحرمات، فقال: ﴿ قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلۡفَوَٰحِشَ... وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ ٣٣ ﴾ [الاعراف: ٣٣]. وقال: ﴿ وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ ١١٦ ﴾ [النحل: ١١٦].
أجمع العلماء على تحريم الحكم بالقضاء بالهوى، لأجل مال أو جاه أو محاباة لقريب أو صديق، وعلى تحريم الجور والظلم في القضاء وقد قال H: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: اثْنَانِ فِي النَّارِ, وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ. رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ, فَقَضَى بِهِ, فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ. وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ, فَلَمْ يَقْضِ بِهِ, وَجَارَ فِي الْحُكْمِ, فَهُوَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ, فَقَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ, فَهُوَ فِي النَّارِ».
يشترط لمن تولى القضاء الآتي:
الشرط الأول: الإسلام؛ فلا يصح أن يكون القاضي بين المسلمين من الكفار، بالإجماع.
الشرط الثاني: التكليف، بأن يكون بالغًا عاقلًا، وهو شرط مجمع عليه.
الشرط الثالث: الاجتهاد، أي: أن يكون القاضي من أهل الاجتهاد في معرفة الأحكام، ولا يكون من المقلدين، وقد اختلفوا في هذا الشرط؛ فالمشهور عند الحنفية: أنه لا يشترط الاجتهاد لولاية القضاء، وإنما هو من باب الأفضل والمستحب، فيجوز أن يتولى القضاء المقلد لغيره؛ لإمكانه إيصال الحق إلى مستحقيه إذا قلد من يثق بدينه.
ومذهب جمهور العلماء: أنه يشترط فيمن تولى القضاء أن يكون من أهل الاجتهاد، ولا يجوز أن يكون مقلدًا؛ لأنه لا يستنبط الأحكام من مصدرها وهو الكتاب والسنة، فقد قال E: ﴿ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُ ﴾ [النساء: ١٠٥]، وقال تعالى: ﴿ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ ﴾ [النساء: ٥٩]، وهذا هو الأرجح.
ويجوز تولية المقلد للضرورة؛ لانعدام أهل الاجتهاد في بلدة، إذا كانت عنده أهلية في فهم مذهب من المذاهب الإسلامية المعتبرة، كما ذهب إليه كثير من فقهاء المذاهب.
الشرط الرابع: العدالة.
المشهور عند الحنفية: أنه لا تشترط العدالة في القضاء، فتصح تولية الفاسق، فالعدالة شرط أولوية وكمال لا شرط صحة، فقد أجاز السلف حكم من تغلب وجار من الأمراء، ولولا صحة ولايتهم لما فعلوا ذلك.
ومذهب جمهور العلماء: أنه يشترط فيمن تولى القضاء أن يكون عدلًا؛ لقوله تعالى: ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ ﴾ [الحجرات: ٦] فأمر بالتبين عند قول الفاسق، ولا يجوز أن يكون الحاكم ممن لا يقبل قوله، ويجب التبين عند حكمه، ولأن الفاسق لا يجوز أن يكون شاهدًا، فمن باب أولى لا يكون قاضيًا، ولأنه متهم في الحكم وغير أمين، وهذا هو الراجح.
وإجازة السلف حكم من تغلب؛ لأجل عدم قيام الفتنة في المجتمع المسلم، والمسألة هنا في عدم جواز توليته.
وإذا لم يوجد العالم العدل؛ فلا بأس بتولية العالم الفاسق للضرورة، ويختار أنفع الفاسقين وأقلهم شرًّا، كما نص عليه جماعة من العلماء.
الشرط الخامس: الذكورية، وهو شرط في صحة ولاية القضاء عند جمهور العلماء، ـ كما سيأتي في مسألة مستقلة ـ.
الشرط السادس: الفطانة، وهي جودة الذهن وقوة إدراكه لمعاني الكلام.
وقد نص المالكية، وبعض الشافعية والحنابلة على أنه يشترط في القاضي أن يكون فطنًا، وهو ضد المغفل الذي ينخدع بتحسين الكلام، ولا يتفطن لما يوجب الإقرار والإنكار وتناقض الكلام.
وظاهر مذهب الحنفية، وقول بعض الشافعية والحنابلة: أنه لا يشترط أن يكون القاضي فطنًا، وإنما يستحب ذلك، فلا دليل على اشتراطه.
الذي عليه بعض المالكية، وأكثر الحنابلة، وجماعة من الشافعية: أن حكمه منتقض ولا ينفذ مطلقًا؛ لأنه لا يصح توليته للقضاء فلا ينفذ حكمه.
ومذهب الحنفية، والمشهور عند المالكية، وقول جماعة من الشافعية والحنابلة: أن أحكامه لا تنقض، وتنفذ إذا وافق حكمه الحق والصواب؛ لأنه لا فائدة من نقض حكمه؛ ولأن الحق وصل إلى مستحقه، وهذا هو مقصود القضاء، وحتى لا تتعطل مصالح الناس.
وهذا هو الراجح.
([1]) إرواء الغليل (2614).
([2]) مراتب الإجماع (ص/51)، المحلى مسألة (1774)، الأخبار العلمية (ص/480)، إعلام الموقعين (1/28)، (2/184)، الإنصاف (11/179، 187).
([3]) المراجع السابقة.
([4]) المنتقى للباجي (5/183)، روضة الطالبين (8/83)، المغني (14/13-17)، مجموع الفتاوى (28/252، 259)، روضة القضاة (1/53)، آداب القضاء (ص/33)، الإنصاف (11/177-181)، الموسوعة الفقهية (33/291)، الاختصاص القضائي (ص/356).
([5]) شرح مسلم (12/13)، المغني (14/37)، الأخبار العلمية (ص/488)، الإنصاف (11/225)، حاشية الدسوقي (6/15)، الاختصاص القضائي (ص/501).