وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ, وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ, فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ, مِنْهُ فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا, فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
حديث أم سلمة J: رواه البخاري (7169)، ومسلم (1713).
مذهب أبي حنيفة: أن حكم القاضي ينفذ ظاهرًا وباطنًا، في المال أو في النكاح أو في غيرهما، فلو أن رجلين تواطئا على الشهادة على رجل أنه طلق امرأته الطلقة الثالثة، وقبل القاضي شهادتهما؛ لظاهر عدالتهما، ففرق بين الزوجين، فإنه يجوز لأحد الشاهدين نكاحها بعد عدتها.
ولو أن رجلًا ادعى نكاح امرأة وهو كاذب، وأقام شاهدي زور، فحكم الحاكم له؛ حلت له بذلك وصارت زوجته.
ومذهب جمهور العلماء: أن حكم القاضي ينفذ ظاهرًا ولا ينفذ بالباطن إلا إذا وافق الحق، فلا يحل لمن قضي له الاستمتاع بامرأة بقضاء باطل، ولا يحل له أخذ المال بقضاء باطل، ففي الصورتين السابقتين النكاح باطل، ولا يصح، فقد قال النبي H: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ, وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ -أي أبلغ بحجته-, فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ –أي: في الظاهر-، فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا, فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّار -أي لا يحل له في الباطن-» .
فعلى هذا: حكم الحاكم لا يُحل حرامًا، ولا يحرم حلالًا، ولا يغيره عن حقيقته.
وهذا القول هو الراجح.
أي: إذا علم بصدق أحد المتخاصمين، من دون شهود ولا إقرار ولا قرائن.
اختلف العلماء في هذه المسألة:
القول الأول: لا يقضي بعلمه لا في الأموال ولا في الحدود؛ للأدلة الشرعية التي نصت على طلب الشهود مِنْ المدعي للحكم له، ومِنْ طلب اليمين من المدعى عليه، عند انعدام الشهود ولم يقر، ولقوله H: « فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ »، ولم يقل: «بنحو ما أعلم».
وهذا مذهب المالكية، والصحيح عند الحنابلة، وقول جماعة من الحنفية، واختاره ابن القيم.
القول الثاني: يقضي بعلمه في الأموال، ولا يقضي في الحدود؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، وهذا هو الأصح عند الشافعية، وقول بعض الحنفية، ورواية لأحمد.
القول الثالث: يحكم بعلمه في الحدود والأموال، فالحكم بالشهود حكم ظني، والحكم بعلمه حكم قطعي، فيقبل من باب أولى، ولأنه إنما يتحاكم عنده لغرض أن يعلم الحق ويعمل به، وهو قد علمه هنا؛ ولأنه إذا حكم بخلاف ما علمه، حكم بالباطل، ولم يقم الحق والعدل.
ولما رواه مسلم عن أبي سعيد I أن رسول الله H قال: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيغَيِّرْهُ»، والحاكم إذا قضى بخلاف علمه لم يغير المنكر، فيكون عاصيًا.
وأما الأدلة التي تنص على البينة والشهود على المدعي؛ فيقال: علم الحاكم بالحق بينة، فالبينة بالأصل ما به يتبين الأمر ويتضح.
وقوله: « فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ»، هذا فيما طريقه السمع، وأما ما كان طريقه العلم، فيقضي به بعلمه، والأول هو الأغلب.
وهذا مذهب الظاهرية، وقول للشافعية، ورواية لأحمد، وهو أقرب الأقوال من ناحية التقعيد، أما العمل؛ فعلى القول الأول؛ لفساد كثير من قضاة هذه الأزمنة.
([1]) المغني (14/37)، روضة الطالبين (8/138)، المحلى مسألة (1792)، المنتقى للباجي (5/186)، فتح باب العناية (2/122)، الموسوعة الفقهية (26/257)، الفقه الإسلامي وأدلته (8/5945).
([2]) المحلى مسألة (1796)، المغني (14/31، 33)، الاستذكار (22/10)، روضة الطالبين (8/141)، فتح الباري (15/37، 63)، الإنصاف (11/250)، الطرق الحكمية (ص/194)، نيل الأوطار (5/574)، الفقه الإسلامي وأدلته (8/5947).