وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ, وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمْ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
حديث عمر I: رواه البخاري (2641).
الشرط الأول: أن يكون عاقلًا، فلا تقبل شهادة من ليس بعاقل بالإجماع، سواء ذهب عقله بجنون أو بسكر.
الشرط الثاني: أن يكون بالغًا، فلا تقبل شهادة الصبيان في غيرهم ولا فيما بينهم، ولو لم يتفرقوا، فقد قال تعالى: ﴿ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ ﴾ [البقرة: ٢٨٢] والصبي ممن لا يرتضى، وقال: ﴿ فَرَجُلٞ وَٱمۡرَأَتَانِ ﴾ [البقرة: ٢٨٢]، فجعل الشهادة للرجال والنساء، وفي الحديث: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَعْقِلَ... الحديث» ولأن الصبي لا يخاف من الكذب، ويقبل التلقين، فلا تحصل الثقة بقوله، وأيضًا لا يستطيع الضبط بشكل يطمأن له، وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو الراجح.
والمشهور عند المالكية، ورواية لأحمد: أن شهادة الصبيان تقبل فيما بينهم ما لم يتفرقوا، فالظاهر صدقهم وضبطهم، عند توفر هذين الشرطين.
الشرط الثالث: أن يكون عدلًا، وهذا شرط متفق عليه بين الفقهاء، فشهادة الفاسق مردودة، قال تعالى: ﴿ وَأَشۡهِدُواْ ذَوَيۡ عَدۡلٖ مِّنكُمۡ ﴾ [الطلاق: ٢]، وقال أيضًا: ﴿ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ ﴾ [الحجرات: ٦]، فأمر بالتوقف في نبأ الفاسق، والشهادة نبأ وإخبار، وفي حديث عبد الله بن عمرو L ـ السابق ـ: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ، وَلَا خَائِنَةٍ»، وذلك لأن الخائن ليس بعدل، ولأن دين الفاسق لم يردعه عن ارتكاب محظورات الدين، فلا يؤمن ألا يردعه عن الكذب.
والصحيح الذي عليه جمهور العلماء: أن العدالة معنى زائد عن الإسلام، فلا يكفي في الشاهد أن يكون مسلمًا، فلابد أن يكون مع إسلامه مرضيًا معروف الحال، فيسأل الحاكم عن حاله، قال تعالى: ﴿ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ ﴾ [البقرة: ٢٨٢] .
ومذهب الجمهور: أن العدل: من كان غير مرتكب للكبيرة، ولا مصر على الصغيرة.
ومذهب بعض السلف، وبعض المحققين، ورواية لأحمد: أن العدل من لم تظهر منه ريبة، فهو من اطمأن القلب إلى خبره، وسكنت النفس إليه.
واشتراط اجتناب الكبائر والصغائر، تشديد في العدالة، لا يتوفر إلا في أفراد من المؤمنين، فيترتب عليه إبطال الشهادة، فالعدل لابد من مقارفته لشيء من الذنوب، ولكن غالب حاله السلامة، وقد قال تعالى: ﴿ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ﴾، والمرضي: من تسكن النفوس إلى خبره، ويرضى به القلب، ولا يُرتاب من خبره، وقال عمر I: «إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالوَحْيِ -أي يعرف الصادق منهم من الكاذب، بالوحي الذي ينزل على رسول الله H - فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ H، وَإِنَّ الوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ -أي بعد موت رسول الله H -، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ -فالمؤاخذة بالظاهر وأما الباطن فأمره إلى الله -، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا، أَمِنَّاهُ، وَقَرَّبْنَاهُ، وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ، وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ: إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ»، فهذا الكلام من عمر I يفهم منه: أن العدل: من لم توجد منه ريبة وتهمة، وهذا القول هو الأقرب.
واختلفوا في اشتراط اجتناب خوارم المروءة في العدالة، وهي الأمور الدنيئة المزرية بالشخص، كمن يضع مائدة طعامه في السوق ويأكل والناس ينظرون، وكالمشي في السوق مكشوف الرأس، واجتناب خوارم المروءة شرط في العدالة عند أكثر العلماء.
ومذهب الحنفية والظاهرية وبعض المحققين: أن اجتنابها لا يشترط في العدالة؛ إذ لم يأت في ذلك نص من كتاب أو سنة، وهذا هو الأقرب.
وضبطه يصعب، فقد تكون بعض الأمور خارمة للمروءة عند ناس دون ناس.
([1]) روضة الطالبين (8/199، 209)، المغني (14/147، 150)، المحلى مسألة (1785)، فتح الباري (5/578)، شرح السنة للبغوي (10/126)، بداية المجتهد (2/462)، شرح البخاري لابن بطال (8/24)، بدائع الصنائع (6/268)، فتح باب العناية (3/131)، الإنصاف (12/43)، الأخبار العلمية (ص/516)، حاشية الدسوقي (6/61)، الكفاية للخطيب البغدادي (ص/100)، روضة القضاة (1/224)، الحاوي الكبير (17/149).