وفيه عـدة مسـائل:
فيها قولان:
القول الأول: تكفي نية واحدة في أول ليلة من رمضان، ينوي فيها أنه سيصوم الشهر بأكمله، ولا يحتاج إلى تجديد نية إرادة الصوم في كل ليلة من ليالي رمضان، إلا أن يفطر يومًا منه لعذر كسفر أو مرض أو لغير عذر؛ فلا بد له حينئذ من تجديد النية للصوم إذا كان سيصوم ما تبقى من رمضان.
وهو مذهب الإمام مالك، ورواية لأحمد خلاف المشهور عنه، وقول زفر الحنفي.
ودليلهم: أن صوم شهر رمضان عبادة واحدة متصلة أيامه بعضها ببعض؛ فكفته نية واحدة في أوله، كالصلاة تكفي نية واحدة في أول الصلاة، ولا يلزم عليه تجديد النية في كل ركعة من ركعات هذه الصلاة، وكذلك الحج والعمرة تكفي فيها نية واحدة في أولها ولا يلزم تجديد نية الحج والعمرة في أثناء أداء أركان وواجبات الحج والعمرة.
القول الثاني: لا بد من تجديد النية في كل ليلة من ليالي رمضان، إذا أراد صوم يوم تلك الليلة فينوي صيام اليوم الآتي، وإن لم يفطر أي يوم من أيامه لعذر أو لغير عذر، فإن لم ينو الصوم في ليلة من ليالي رمضان عامدًا أو ناسيًا؛ لم يصح منه صوم يوم تلك الليلة، ويلزمه قضاء هذا اليوم.
وهو مذهب جمهور العلماء، منهم الشافعية، والمشهور عند الحنفية، والمشهور عند الحنابلة.
دليلهم: أن كل يوم من أيام رمضان يعتبر صومه عبادة مستقلة عن بقية أيام رمضان، فلا يرتبط بعض أيامه بالبعض الآخر، بدليل أنه يفصل بين أيام رمضان في لياليه بما لا يجوز للصائم فعله وهو صائم، كالأكل والشرب والجماع.
وأيضًا إذا فسد صوم يوم من أيامه فإنه لا يفسد صوم بقية الأيام لفساد صوم يوم من أيامه، فلو أفطر أحد أيامه عامدًا لم يفسد صوم اليوم الذي بعده أو قبله.
فبهذا يختلف الأمر هنا في النية عما يحصل في الصلاة والحج والعمرة، فلو أفسد الشخص ركنًا من أركان الصلاة أو الحج أو العمرة عامدًا لم تصح عبادته، فمثلًا لو ارتكب مبطلًا من مبطلات الصلاة عامدًا في ركعة من ركعات الصلاة؛ فإن الصلاة تبطل بأكملها فلا تصح جميع ركعاتها، وكذلك الحج فلو أفسد مثلًا وقوفه في عرفه لم يصح حجه وتبطل جميع أعماله السابقة، ويلزمه القضاء.
الترجيح: الراجح: مذهب الجمهور، فلا بد من تجديد النية في كل ليلة من ليالي شهر رمضان لمن كان سيصوم نهاره؛ لقوة دليل أهل هذا المذهب وسيأتي الكلام في المسألة الثالثة فيما لو نسي أن ينوي الصوم من ليلته([1]).
اختلف العلماء في هذه المسألة:
القول الأول: لا يشترط أن تكون النية للصوم من الليل في رمضان، فيجزئه أن ينوي الصوم من نهار اليوم الذي يريد صيامه قبل زوال الشمس، إذا لم ينو الصوم من الليل.
وهذا مذهب الحنفية.
دليلهم: الأول: حديث سلمة بن الأكوع ا في صوم عاشوراء فعن سلمة ا: أن رسول الله ﷺ أرسل رجلًا يوم عاشوراء يؤذن في الناس: «أن من أكل فليصم بقية يومه»([2]).
والشاهد قوله: «أن من أكل فليصم بقية يومه» حيث صوب صومه، وإن كان قد أصبح بنية الإفطار ما دام أنه سينوي من النهار، وكان صوم عاشوراء واجبًا حينئذ فيكون صوم رمضان مثله.
الثاني: حديث ابن عباس م: أن أعرابي جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: رأيت الهلال فقال رسول الله ﷺ له: «أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟» فقال: نعم. فقال رسول الله: «يا بلال أذن بالناس أن يصوموا» وقد مر تخريجه.
والشاهد فيه أنه أمر الناس بالصوم حين وصلهم الخبر برؤيته، والصوم لا يكون إلا بالنهار، فيفهم منه أن إخبار الأعرابي كان نهارًا، فكان الأمر لهم بالصوم في نفس الوقت فنووا الصوم في ذلك الوقت من النهار، فأجزأتهم نية الصوم من النهار.
الثالث: أن النية حصلت قبل أداء أكثر وقت الصوم؛ لأن الشرط بإجزاء هذه النية أن تكون قبل الزوال فكانت صحيحة مجزية.
الرابع: أن الأصل أن تكون النية مقارنة للأداء، فيكون الواجب هنا قران النية بالصوم لا تقدمها، والصوم يكون من النهار، وليس من الليل فتقارن النية الصوم إذا حصلت من النهار.
وردوا على حديث حفصة: «لا صيام لمن لم يبيت الصوم من الليل» - وسيأتي تخريجه- الذي استدل به الجمهور بأنه إما ضعيف، أو يحمل على خلاف ظاهره، فيكون محمولًا على نفي الكمال لا نفي الصحة، فتجزئه النية من النهار، أو يحمل على أن المراد منه ألا تكون النية قبل غروب الشمس؛ لأن مثل هذا لا يجزئ، فالمعنى أنه لا صيام لمن قدم النية على الليل، لا أن النية لا تصح من نهار يوم الصوم.
القول الثاني: لا يصح صوم رمضان إلا بعقد النية من الليل، فلو لم ينو من الليل لم تجزئه النية من النهار، ولو نسي أن ينوي الصوم من الليل؛ لم يصح صومه، ويلزمه قضاء صيام ذلك اليوم.
وهذا قول جمهور العلماء، بما فيهم المالكية، والحنابلة، والشافعية.
دليلهم: الأول: حديث حفصة ك قالت: قال رسول الله ﷺ: «من لم يُجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له»([3]).
والشاهد من الحديث ظاهر، وهو: أن الصيام لا يصح إلا بتبييت النية من الليل، والتآويل التي ذكرها الحنفية فاسدة، فالأصل في النفي أنه نفي للصحة، فقوله: «لا صيام له» أي لا يصح صيامه.
ولا دليل يعتمد عليه على حمل النفي هنا على معناه البعيد، وهو نفي الكمال فقط.
كما أن لفظه صريح بعدم إجزاء النية إذا كانت قبل الفجر، فقد قال: «من لم يجمع الصيام قبل الفجر ...»، وأيضًا من قوله في رواية أخرى: «من لم يبيت» والبيتوتة لا تكون إلا من الليل، فالتبييت في الأصل كل فعل دبر ليلًا.
وهذا الحديث وإن صحح بعض الحفاظ وقفه فقد صحح آخرون رفعه.
الثاني: أن الصيام يبدأ من الفجر، والنية تكون قبل العمل، فتكون في الصوم قبل الفجر.
الثالث: أن الصوم الواجب هو الإمساك من أول النهار إلى آخره، فإذا خلا أوله عن النية؛ فقد خلا بعض العبادة الواجبة عن النية، وذلك لا يجوز .
والجواب على استدلال الحنفية بحديث عاشوراء بالنظر إلى اعتبارين:
الأول: باعتبار القول بأن صيام عاشوراء لم يكن واجبًا وإنما كان تطوعًا، فلا يقاس رمضان عليه؛ لأن التطوع مبني على التخفيف، وأما رمضان ففريضة.
الثاني: باعتبار القول بأن صوم عاشوراء كان واجبًا، فالجواب أن نيتهم صحت من النهار؛ لأنهم لم يعلموا بوجوب صومه إلا حين أصبحوا، فكان ابتداء فرضه عليهم من حين بلوغهم الخبر، ولم يخاطبوا بما قبله لجهلهم بوجوب صومه، بخلاف صوم رمضان، فالجميع يعلم وجوبه، ولم تترك النية من الليل جهلًا بوجوبه.
والجواب على حديث ابن عباس من وجهين:
الأول: أن الحديث ضعيف – وقد مر بيانه-
الثاني: قد جاء في رواية، وهي عند أبي داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي وغيرهم قال: «فأمر بلالًا أن يؤذن أن صوموا من الغد»، فظاهره أن الإخبار برؤية الهلال ودخول الشهر كان قبل وجود وقت الصوم؛ لهذا أمرهم بالصيام من الغد، وليس في نفس الوقت.
ولو نسي أن ينوي الصوم من ليلته يلزمه قضاء صيام ذلك اليوم؛ لأن النسيان يرفع الإثم فقط، أما العمل فلا يصح فلا يحكم له بما لم يفعله، فهو صوم واجب لم يصح إلا بنية قبل الشروع فيه، كما لو نسي النية في الصلاة ثم ذكرها في بعض ركعات الصلاة، فلا تصح صلاته، ويلزمه الإعادة لأن النية تكون أول الصلاة، وقبل الدخول في حرمتها.
ولا يصح الاستدلال بحديث عاشوراء السابق على صحة صيام من نسي أن ينويه من الليل؛ لأن حديث صيام عاشوراء ليس في حق الناسي، إنما فيه أمر المفطر بالإمساك نهارًا وإكمال الصوم بقية يومه؛ لأنهم لم يعلموا بالأمر بصيام عاشوراء إلا في نهاره، فأمروا بصومه من حينها.
القول الثالث: كمذهب الجمهور يشترط لصحة الصوم النية له من الليل إلا إذا نسيها ثم ذكر في النهار التالي لتلك الليلة؛ فإنه ينوي الصوم من وقته ويصح صومه.
وهو قول ابن حزم/.
ودليله: ما استدل به الجمهور من اشتراط تبييت الصوم من الليل، وأما النسيان فلأنه عذر شرعي؛ فلا يبطل الصوم بنسيان النية من الليل، كما أنه لا يأثم بسبب نسيانه لما يجب عليه ويصح العمل به، ويدل على هذا حديث سلمة بن الأكوع أن رسول الله ﷺ أرسل رجلًا يوم عاشوراء يؤذن في الناس: «أن من كان أكل فليصم بقية يومه»([4]) فقبل منهم النية من النهار وصحح صيامهم.
الترجيح: الراجح مذهب الجمهور؛ فلا يصح صوم يوم من رمضان إلا بنية من الليل، سواء تركها عمدًا -لعذر أو لغير عذر-، أو نسيانا، أو نام حتى فات الليل كله، وذلك لقوة التعاليل التي ذكرها جمهور العلماء.
وأما حديث حفصة فلا تطمئن النفس لصحته مرفوعًا، والله أعلم.
لكن يعمل بالموقوف؛ فلا يعلم لها مخالف، وقد استدل الإمام أحمد بالموقوف على حفصة في هذه المسألة.([5])
في صحة الصوم بهذه النية خلاف بين العلماء:
القول الأول: إذا نوى الصوم قبل غروب الشمس لأجل الصيام في اليوم الآتي لا تجزئه هذه النية، فلا يصح صومه فلا بد من النية بعد غروب الشمس ودخول الليل.
وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والظاهرية والصحيح عند الحنابلة.
ودليلهم: حديث حفصة السابق: «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل»، ولأنه بذلك لم ينو عند ابتداء العبادة ولا قريبًا منها، فلم تصح كما لو نوى من الليل صوم يوم بعد غد.
القول الثاني: تجزئه النية قبل الغروب.
وهو رواية لأحمد، واختار هذا القول ابن تيمية.
ودليله: أن ليلة الصوم تابعة له، فجاز تقديم النية عليها، ولأن النية إذا لم تفسخ فإن حكمها باق، وإن تقدمت على العبادة بزمن طويل ما لم يفصل بينها عباده من جنسها.
الترجيح: الراجح: مذهب جمهور العلماء، فحديث حفصة وإن لم يثبت رفعه عند أكثر أهل الحديث، فقد ثبت موقوفًا عليها فهو أولى بالأخذ، والله أعلم([6]).
نعم، تلزم النية من الليل، ولا تجزئ نية الصوم فيه من بعد طلوع الفجر الصادق، وهذا عليه المذاهب الأربعة.
يتفق الحنفية هنا مع بقية المذاهب في عدم إجزاء إنشاء نية الصوم من بعد طلوع الفجر بحجة أن هذه الأشياء ليس لها وقت معين، بخلاف صوم رمضان والنذر المتعين وقته فزمن صومها متعين محدد([7]).
فيه مذاهب:
الأول: إن قال: "إن كان غدًا رمضان؛ فأنا صائم، وإن لم يكن رمضان؛ فأنا مفطر"، فوافق رمضان لم يصح صيامه عن رمضان، وإن قال: "إن لم يكن رمضان؛ فأنا صائم نفلًا"، فكان رمضان صح صيامه.
وهو مذهب الحنفية، ورواية لأحمد، واختاره ابن تيمية، وبعض الحنابلة.
ودليلهم: أنه إذا قال: "إن كان رمضان؛ فأنا صائم، وإلا فمفطر"، فصادف رمضان فصامه لم يجزئه للتردد في النية حيث لم يجزم بنية الصوم.
وإن قال: "إن كان رمضان؛ فأنا صائم فرضي، وإلا فصوم نفل"، فصادف رمضان؛ صح صومه، وأجزاءه للجزم هنا بنية الصوم، ولم يحصل التردد في أصل النية، وإنما في وصف الصوم فلا يضره ذلك.
المذهب الثاني: إن قال: "إن كان رمضان؛ فأنا صائم فرضي، وإن لم يكن رمضان؛ فأنا مفطر"، أو قال: "صائمه نفلًا -في كلا الحالين-"، إن توافق رمضان فصامه لا يصح صومه ويلزمه قضاء يومًا مكانه.
وهو قول جمهور العلماء، فهو مذهب المالكية، والصحيح عند الشافعية، والصحيح عند الحنابلة.
ودليلهم: أنه لم يجزم بنية صيام رمضان؛ إذ إن الواجب الجزم بتعيين نية صوم رمضان، وعند التردد فيها لم يحصل التعيين للنية، وحيث إن الأصل أن اليوم الآتي لا زال من شعبان؛ فالأصل بقاء شعبان.
المذهب الثالث: يجزيه الصوم في الحالتين إن وافق رمضان، وصام بنية رمضان.
وهو قول بعض الشافعية، واختاره الشيخ ابن عثيمين.
ودليله: أن التردد هنا مبني على التردد في ثبوت الشهر لا على التردد في النية هل يصوم أو لا يصوم؟
الترجيح: الأقرب -والله أعلم-: القول الثالث: أنه يجزئه إن صادف رمضان وصامه بهذه النية؛ لأنه في الحقيقة قد جزم بتعيين نية رمضان، وإنما الشك في هذا اليوم هل هو من رمضان أم ليس منه؟ فإن ظهر أنه من رمضان؛ فقد جزم بصومه بنية رمضان في وقته المناسب وهو الليل، والله أعلم.
تنبيه: يظهر من كلام العثيمين: أن لأحمد رواية في القول بصحة الصوم، إذا قال: "إن كان رمضان ففرضي، وإلا فمفطر"، ولم أقف على رواية لأحمد هكذا، وإنما الرواية عنه على التفصيل بحسب ما جاء في المذهب الأول([8]).
فيها خلاف عند العلماء:
القول الأول: إن استند اعتقاده إلى ما يحصل به الظن بأن يوم الغد من رمضان فصادف رمضان؛ صح صومه، وإن لم يستند إلى ما يحصل به ظنًّا، فوافق رمضان؛ لم يصح صومه.
وهو قول مالك، والصحيح عند الشافعية، والصحيح عند الحنابلة.
ودليلهم: أن النية قصد يتبع العلم، وما لا يعلمه ولا دليل على وجوده ولا هو على ثقة من اعتقاده لا يصح قصده، بخلاف ما بناه على الظن فيصح دليل له.
واستناد الاعتقاد إلى ما يحصل به ظنًّا مثل له الشافعية بأن يعتمد على قول من يثق به من حر أو امرأة أو عبد أو صبيان.
القول الثاني: يصح صومه، ولو حصلت نيته لصومه من رمضان بدون مستند شرعي أو ظن غالب بأن الغد من رمضان.
وهو قول الأوزاعي، والثوري، وقول للشافعية، ورواية لأحمد، وظاهر كلام الحنفية.
ودليلهم: أنه جزم هنا بالنية فلا تردد فيها.
الترجيح: الراجح القول الثاني: أنه يصح صومه للجزم بالنية فتصح نيته، وبالتالي صح صومه من رمضان، والله أعلم([9]).
فيها خلاف بين العلماء:
القول الأول: لم يصح صومه.
وهو وجه للحنابلة.
ودليله: عدم الجزم بالنية حيث قال: "إن كان من رمضان؛ فأنا مفطر، وإلا فأنا صائم".
القول الثاني: صح صومه، ولا قضاء عليه؛ إن ظهر أنه من رمضان.
وهو قول جمهور العلماء، وهو الأصح عند الحنابلة.
ودليلهم: لأن الأصل بقاء رمضان؛ فأجزأه استصحابًا للأصل، وإن كان في نيته تردد وعدم جزم.
الترجيح: الراجح: هو القول الأول.
مع أن أكثر القائلين به لا يقبلونه إذا حصل ذلك في الثلاثين من شعبان اعتمادًا على الأصل، وذلك بأنه لا زال وقت إفطار أي لا زال من شعبان، بخلاف ما في مسألتنا هذه.
والذي يظهر أن هذا الفرق لا يكفي حتى يحصل التغاير في الحكم؛ لأن التردد في النية، وعدم الجزم حاصل في الموضعين، لهذا قال العثيمين([10]): «ولكن هذا التفريق غير مؤثر بالنسبة للتردد، فكلاهما متردد، والاحتمال في كليهما وارد، فيوم الثلاثين من شعبان فيه التردد، وهل يكون من رمضان أم لا؟ ويوم الثلاثين من رمضان فيه التردد هل يكون من رمضان أم لا؟»([11])اهـ
فيها قولان:
القول الأول: التفصيل: إن قصد بالمشيئة هنا الشك والتردد في العزم والقصد بمعنى لا يدري أيصوم أم لا؛ فسدت نيته، وبالتالي لا يصح صومه؛ لعدم وجود الجزم في النية، كما لو قال: "أصوم غدًا إن شاء زيد"، وإن قصد بها التبرك والاستعانة بالله، وأن صومه موقوف على مشيئة الله وتوفيقه وتيسيره؛ صح صومه، لصحة نيته؛ لأنه لم يُرد حقيقة الاستثناء ولعدم حصول التردد هنا.
وهو قول الحنفية، والحنابلة، والصحيح عند الشافعية.
القول الثاني: يصح الصوم مطلقًا، ولا تفسد النية؛ لأن الأمور بمشيئة الله.
وهو وجه للشافعية.
الترجيح: الراجح: القول الأول، على التفصيل المذكور، والله أعلم([12]).
فيها خلاف عند أصحاب المذاهب:
القول الأول: لا يصح صومها من الغد، ولو طهرت.
وهو وجه للشافعية، ووجه للحنابلة.
ودليله: أنها نوت في وقت ليست أهلًا فيه للصوم؛ لعدم حصول الطهر حينها .
القول الثاني: إذا أصبحت طاهرًا؛ صح صومها.
وهو أصح الوجهين عند الشافعية، ووجه للحنابلة.
ودليله: أنها بنت نيتها على أصل معروف لديها، وهو أنها تطهر الليلة، فحصل، ولمشقة مقارنة النية للطهر في هذه الحالة، فربما طهرت قبل الفجر، وهي نائمة فلم تستيقظ إلا بعد الفجر.
الترجيح: الراجح: القول الثاني: أنه يصح صومها لقوة الاعتبار المذكور لأصحاب هذا القول([13]).
فيها أقوال عند العلماء:
القول الأول: لا يلزمه إمساك بقية هذا اليوم، ولا يلزمه قضاؤه.
وهو قول الظاهرية، عدا ابن حزم.
ودليلهم: أنه لم ينو الصيام من الليل، فلا يصح صيامه لوجوب تبييت النية للصوم، ولا يلزم القضاء؛ لأنه جهل أنه من رمضان، فأشبه من لم يعلم بفرضية صيام رمضان.
القول الثاني: لا يلزمه الإمساك بقية يومه، ولكن يلزمه القضاء.
وهو قول عطاء، وقول للشافعية، وجعله بعض الحنابلة رواية لأحمد.
ودليلهم: أنه قد أفطر بعضه فلم يجزئه صوم بقيته، كالحائض إذا طهرت في نهار رمضان، ويلزمه القضاء؛ لأن صوم رمضان واجب، وقد ظهر أن هذا اليوم من رمضان ولم يصمه.
القول الثالث: يلزمه إمساك بقية اليوم، ويلزمه كذلك قضاؤه.
وهو قول جمهور العلماء، فهو مذهب المالكية، والصحيح عند الشافعية، والمذهب عند الحنابلة، واختارته اللجنة الدائمة، وابن عثيمين.
ودليلهم: أنه تبين: أن هذا اليوم من رمضان، فوجب إمساك بقية اليوم؛ لوجوب صوم هذا اليوم عليه، وكذلك لحرمة هذا اليوم؛ إذ إنه من رمضان، ويلزم القضاء بعد ذلك؛ لأنه لم يجزئه صومه؛ حيث إنه لم يعقد النية من الليل، وربما أكل أو شرب في نهاره قبل أن يعلم أنه من رمضان، فلا يصح صومه، فعليه يلزمه القضاء؛ حيث وجب عليه صوم هذا اليوم ولم يستوف شروط صحة صومه.
وما جاء في ”الصحيحين“ أن رسول الله ﷺ: أمر بإمساك بقية يوم عاشوراء، ولم يأمر بالقضاء، فكذلك هنا لا يلزم القضاء لمن أصبح مفطرًا ولم يعلم أن هذا اليوم من رمضان.
فالجواب عليه: أنه قد جاء أن رسول الله ﷺ أمرهم أيضًا بالقضاء يوم عاشوراء فعن عبد الرحمن بن مسلمة وقيل ابن سلمة عن عمه أن أسلم أتت النبي ﷺ فقال لهم: «صمتم يومكم هذا – يعني عاشورا-؟» قالوا: لا. قال: «فأتموا بقية يومكم واقضوه»([14]).
وعلى ضعفه، والقول بأنه لم يأمرهم بالقضاء، فيرد على الاستدلال بحديث صوم عاشوراء في ”الصحيحين“ من وجهين:
الأول: أن صوم عاشوراء كان تطوعًا لا واجبًا، وصوم التطوع تصح فيه النية من النهار بخلاف صوم رمضان فهو واجب، فلا بد من تبييت النية من الليل.
الثاني: على القول بأن صوم عاشوراء كان واجبًا؛ فلا يصح الاستدلال به على من أصبح مفطرًا ثم ظهر له أنه أول أيام رمضان، فأمسك أنه لا يجب عليه القضاء، وذلك لأن الذين أُمروا بإمساك بقية يوم عاشوراء لم يكونوا يعلمون بوجوب صومه، فكان الواجب في حقهم حين وصول الخبر إليهم بوجوب صوم عاشوراء أن يصوموا، فلم يلزمهم القضاء، فلم يجب عليهم صومه إلا من حين معرفتهم بوجوب صومه، فصومهم في ذلك الوقت أداء للواجب في وقته، أما من أصبح مفطرًا هنا في أول يوم من رمضان؛ فهو يعلم وجوب صوم هذا اليوم عليه، لكنه جهل دخوله، فيلزمه القضاء لوجوبه عليه من قبل، ولم يبيت له النية جاهلًا برؤية الهلال فظهر الفرق.
القول الرابع: فيه تفصيل: إن كان لم يفطر بعد عندما وصله أن هذا اليوم من رمضان وكان ذلك قبل الزوال؛ فينوي الصوم، ويمسك ولا قضاء عليه، وإن وصله الخبر قبل الزوال وكان قد أفطر بأي مفطر من مأكل أو مشرب، أو وصله الخبر بأنه من رمضان بعد الزوال سواء كان أفطر بمفطر أم لا؛ ففي هاتين الحالتين يلزمه الإمساك والقضاء.
وهو مذهب الحنفية.
ودليلهم: أما الحالة الأولى في عدم وجوب القضاء، فهذا بناء على قولهم بأنه لا يشترط في صوم رمضان تبييت النية من الليل، بل تصح ولو من النهار إذا لم يفطر بعد بمفطر وكان قبل الزوال.
وأما في الحالة الثانية؛ فدليله: أنه صوم لم يجزئه أصلًا فوجب قضاؤه، ولحديث عبدالرحمن بن سلمة السابق، ففيه أمرهم بقضاء ذلك اليوم، وصوم عاشوراء كان واجبًا فكذلك هنا.
القول الخامس: يجب عليه إمساك ما بقي من يومه، سواء كان أفطر بأي مفطر أم لا، وسواء وصله الخبر بأنه من رمضان قبل الزوال، أو بعده ويجزئه ذلك، ولا يلزمه القضاء.
وهو قول ابن تيمية، وابن القيم، وابن حزم، ورجحه الشوكاني، والألباني.
وجاء أن عمر بن عبد العزيز قال في قوم شهدوا على الهلال بعد ما أصبح الناس: «من أكل فليمسك عن الطعام، ومن لم يأكل فليتم بقية يومه»([15]).
دليلهم: القياس على ما حصل يوم عاشوراء، حيث أمر رسول الله ﷺ من كان أكل أن يمسك، ومن كان لم يأكل أن يصوم بقية يومه.
وكان صيام عاشوراء واجبًا، فأمرهم بإمساك ما بقي من النهار، ولم يأمرهم مع هذا بالقضاء، فكذلك هنا من جهل دخول شهر رمضان ولم يعرف إلا من النهار؛ فيلزمه إمساك بقية يومه ولا قضاء عليه بعد ذلك، وما جاء من حديث عبد الرحمن بن سلمة عن عمه أن رسول الله ﷺ أمرهم بالقضاء حديث ضعيف – كما مر-.
ولأنه إذا وجب عليه إمساك بقية يومه؛ فمعناه أن صومه يصح ويجزئه ذلك، وإلا لما أمره بصومه إذا كان لا يجزئه ولا يصح منه، وما دام أنه يجزئه فلا يحتاج إلى القضاء لصومه.
ولأنه لو ألزمناه بالإمساك والقضاء لكان تكليف له بصيامين عن يوم واحد.
الترجيح: الأقرب عندي القول الثاني: أنه لا يجب عليه إمساك بقية اليوم، وذلك لأن الصوم لا يصح إلا بالإمساك عن المفطرات مع نية الصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والذي لم يعلم بدخول الشهر إلا من النهار لم يمسك بنية الصوم إلا بعد فوات جزء من وقت الصوم فلم يجزئه، لهذا أكثر العلماء الذين يقولون بوجوب الإمساك عليه يقولون في نفس الوقت: إنه لا يجزئه.
وعندي مع هذا أنه يستحب له الإمساك بقية يومه؛ مراعاة لحرمة الوقت، وخروجًا من الخلاف، واحتياطا للعبادة، وقد نقل ابن جريج عن عطاء ابن أبي رباح: أنه لم يكن يوجب عليهم أن يصوموا بقية يومهم([16]).
ولا يقاس على أمرهم بإمساك بقية يوم عاشوراء؛ لأنهم كانوا يجهلون وجوب صوم عاشوراء عليهم، فلما عرفوا ذلك من النهار وجب عليهم من حينها، فأمرهم بالإمساك من ذلك الوقت، وأما في مسألتنا فالشخص يعلم بوجوب رمضان، ولكنه جهل دخول الشهر، فالصوم واجب عليه من أول وقت النهار أي من طلوع الفجر، فلما لم يحصل ذلك؛ لم يصح صومه؛ فلم يلزم بالإمساك، ويجب عليه القضاء ما دام أنه لا يجزئه صوم بقية النهار، وقد ترك الصوم لعذر شرعي.
وأثر عمر بن عبد العزيز السابق ليس فيه أنه لم يأمرهم بالقضاء([17]).
اختلف العلماء في هذه المسألة:
القول الأول: لا يشترط تبييت نية صوم التطوع من الليل، بل تصح النية للصوم من نهار يوم صومه، قبل أن يتناول أي مفطر من المفطرات منذ طلوع الفجر.
وهو قول جمهور العلماء.
دليلهم: الأول: ما جاء عن عائشة ك: أن رسول الله ﷺ دخل عليها ذات يوم فقال: «هل عندكم من شيء؟» فقلنا: لا. فقال: «فإني إذن صائم»([18])، و(إذن) ظرف للزمان الحاضر، فأنشأ فيه الصوم من النهار، وكذلك الفاء في قوله: «فإني صائم» تفيد السبب والعلة، فالمعنى إني صائم لسببِ وعلةِ أنه لا شيء عندكم، ولو كان قد نوى الصوم من الليل لم يكن صومه لهذه العلة، وهي أنه لم يجد شيئًا عندهم، فلم يحتج لذكرها.
وأيضًا: فإن الظاهر من حال من أجمع الصيام من الليل أن لا يجيء سائلًا عن الغداء، وإنما يسأل عن الغداء المُفطِر.
وقد جاء حديث عائشة هذا بلفظ أظهر في الدلالة على أنه أنشأ الصوم من النهار([19]).
الثاني: أنه صح هذا القول عن جماعة من الصحابة، منهم: ابن مسعود، وأبو طلحة، وحذيفة، وأبو الدرداء، وابن عمر، وأبو هريرة ي([20]).
الثالث: أن التطوع مبني على التخفيف، وقد يجب في الفرائض ما لا يجب في التطوع، كالصلاة مثلًا، يجب في الفريضة القيام، ولا تجزيء على الراحلة، بخلاف النفل يصح قاعدا، أو على الراحلة؛ توسيعًا من الله على عباده في النافلة، فكذلك هنا في الصوم يوسع في التنفل بصحة صومه بنية من النهار.
وأما حديث حفصة السابق وفيه: «لا صيام لمن لم يبيت الصوم من الليل».
فالجواب عليه: إما أن يقال: إنه لم يصح رفعه بل هو موقوف؛ فلا حجة فيه، وإما أن يقال: "صح مرفوعًا فيحمل على صوم الفريضة، ويستثنى صوم النافلة للأدلة السابقة" وعليه يجمع بين الأدلة.
القول الثاني: لا بد في صوم النافلة من تبييت النية من الليل، ولا يصح الصوم بنية من النهار كما في صيام الفريضة.
وهو قول جماعة من السلف، والمالكية، والظاهرية.
دليلهم: حديث حفصة السابق: «لا صيام لمن لم يبيت الصوم من الليل» واللفظ عام، فيشمل صوم الفريضة، وصوم النافلة.
وحديث عائشة السابق ليس فيه أنه ﷺ لم يكن نوى الصيام من الليل، فيحمل أنه نوى الصوم من الليل، ثم ضعف عن الصوم في النهار، فأراد الفطر ثم عدل عنه؛ لأنه لم يجد شيئًا يفطر به.
وما جاء عن الصحابة فهو موقوف عليهم؛ فلا حُجة فيه، وقد خالفتهم حفصة ك - كما مر-.
الترجيح: الراجح: قول الجمهور؛ لقوة أدلتهم وردودهم، كما هو ظاهر فتجزيء نية الصوم في التطوع من النهار، واختارته اللجنة الدائمة في المملكة السعودية، والشيخ ابن عثيمين([21]).
فيها خلاف بين العلماء:
القول الأول: تصح منه هذه النية من أي وقت من النهار سواء قبل زوال الشمس أو بعده، ولو قبل المغرب بقليل ما لم يكن تناول مفطرًا قبل ذلك.
وهو مذهب جماعة من السلف، وهو المشهور عند الحنابلة، وقول للشافعي، وقال إسحاق بن راهويه: إنه قول الأكثرين.
دليلهم: أنه نوى في جزء من النهار فأشبه ما لو نوى في أوله، فلا فرق بين أوله وآخره، ولأن القول بإجزاء النية قبل الزوال وعدم إجزائها بعد الزوال تفريق لا دليل عليه، والنبي ﷺ قد صام بنية من النهار، فيعم ذلك أوله وآخره، وقد جاء عن حذيفة ا أنه بدا له الصوم بعدما زالت الشمس فصام([22]).
القول الثاني: لا تجزئ نية صوم النفل بعد زوال الشمس، فلا بد أن يكون نوى الصوم قبل الزوال حتى يصح صومه.
وهو قول جماعة من السلف، وهو مذهب الحنفية، والأصح عند الشافعية، ورواية لأحمد.
حجتهم: أن أكثر النهار قد مضى بدون نية صوم؛ فلا يصح صومه اعتبارا بالأكثر، بخلاف إذا نوى قبل الزوال؛ فإنه يكون قد أدرك معظم العبادة، فيكون أكثر الوقت صائمًا فيقوم مقام الكل.
وقد جاء عن ابن عمر أنه قال: «الرجل بالخيار ما لم يطعم إلى نصف النهار، فإن بدا له أن يطعم طعم وإن بدا له أن يصوم صام»([23]).
وعن أنس ا أنه قال: «ما لم يمتد النهار»([24]).
الترجيح: كلا القولين متكافئان، والأخذ بالقول الأول هو الأيسر، فإن صح صومه أُجر، وإن لم يصح صومه فلا وزر عليه، وليس عندنا من الدليل ما يكفي للحكم بعدم صحة صومه، والله أعلم([25]).
هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء:
القول الأول: يحكم له بأجر الصوم وثبوته من أول النهار، أي: من طلوع الفجر، لا من وقت النية بالصوم.
وهو الأصح عند الشافعية، ووجه للحنابلة.
دليله: الأول: أن الصوم لا يتبعض في اليوم الواحد، فإذا وجد صومه في بعض اليوم دل على أنه صائم من أوله.
الثاني: ما دام أننا قلنا بصحة نيته من أثناء النهار؛ علم أن صومه تام، فيكتب له ثواب يوم تام.
الثالث: لأن العبد قد يدرك بعض العبادة، فيكون مدركًا لجميعها كالمسبوق في الصلاة يدرك الركوع مع الإمام فيعتبر مدركًا لجميع الركعة.
القول الثاني: يحكم له بالثواب والأجر من وقت نيته من النهار، لا من وقت طلوع الفجر.
وهو الأصح عند الحنابلة، وقول لبعض الشافعية، ورجحه ابن تيمية.
ودليله: الأول: أن إمساك أول النهار كان بدون نية الصوم، وإنما نوى من بعد ذلك، وإنما لكل امرئ ما نوى، فكيف يثاب على إمساك لم يقصده ولم ينوه؟ وكونه يعتبر في حكم من صام اليوم كله لا يلزم منه أن يثاب عليه كله، وإنما يثاب في القدر الذي ابتغى به وجه الله.
الثاني: لأنه حقيقة إنما صام بعضه، وإن سمي صائمًا في يومه كله؛ لأنه لم يباشر المفطرات في يومه هذا، فيسمى صائمًا فيه على المعنى اللغوي لا المعنى الشرعي.
الثالث: إن إدراك العبد لبعض العبادة يقتضي إدراك الكل من ناحية الإجزاء، لا أن له ثواب الكل، ففي الصلاة إذا أدرك الإمام راكعًا تحسب ركعة ولا قضاء عليه، أما ما قبل الركوع مما صلاه الإمام ولم يصله معه المسبوق فلا يكن محسوبًا له.
الترجيح: الراجح: القول الثاني إنما يكتب له الأجر والثواب من حين عقد نية الصيام من النهار، وإن سُمي في يومه صائمًا([26]).
فيه خلاف:
القول الأول: يقع عما نواه ويصح عنه كأن ينويه عن كفارة أو نذر أو قضاء لرمضان.
وهو قول أكثر الحنفية.
ودليله: أنه زمن أبيح له الفطر فيه للعذر، فكان له صومه عن واجب آخر كصومه في غير شهر رمضان.
القول الثاني: يقع عن رمضان في حالة عذر المرض ولو نواه عن واجب آخر، ولا يقع عن رمضان وإنما عما نواه إن كان بسب عذر السفر.
ودليله: أن المرض إنما كان عذرًا يجوز بسببه الإفطار؛ لحقيقة العجز عن الصوم، فلو صام عن واجب آخر تبين أنه ليس عاجزًا، فيكون عن رمضان.
أما المسافر فيجوز له الإفطار لمظنة العجز لا لحقيقة العجز؛ فجاز له صرفه إلى واجب آخر.
القول الثالث: لا يقع عن رمضان ولا عن غيره.
وهو قول أكثر العلماء، بما فيهم الشافعية، والحنابلة.
ودليلهم: أولًا: أنه لا يصح عن رمضان؛ لأنه لم ينو به صوم رمضان أصلًا، ومن صام بنية واجب آخر من كفارة أو نذر أو قضاء؛ فإنه لم يصم رمضان، وإنما صام فيه، ولم يقع عن غيره؛ لأن الواجب في رمضان أن يصام عن رمضان، وإنما أبيح الفطر فيه للعذر، فلم يجز له أن يصومه عن غير رمضان.
الترجيح: لعل الراجح ما عليه أكثر العلماء، فلا يقع عن رمضان، ولا عما نواه؛ لأنه وقت لصوم واجب معين وهو رمضان، فلا يقبل شغله بصوم آخر([27]).
اختلف العلماء فيها:
القول الأول: إذا نوى صومًا واجبًا ومسنونًا في يوم واحد حصلا جميعًا.
وهو قول عند أهل المذاهب الأربعة.
الدليل: أن المقصود من صيام النوافل تعظيم هذه الأيام بالصوم وإحياؤها بهذه العبادة، وقد حصل بصومه هذا، كصلاة الفريضة مع نية تحية المسجد تجزيء للاثنين.
القول الثاني: لا يحصل له الأمران جميعًا، ولو نواهما فلا يصلح التشريك في النية هنا.
وهو قول عند أهل المذاهب الأربعة، وقول الظاهرية.
الدليل: أن العبادة لا تتسع للاثنين فهما عبادتان مستقلتان.
وفي كتاب ”التداخل بين الأحكام الشرعية“ للدكتور الخشلان (2/530) قال: «والظاهر التفريق بين ما كان مقصودًا لذاته كصوم عرفه وعاشوراء، فلا يجزئ، وما كان غير مقصودًا لذاته كالخميس والإثنين، فيظهر الجواز؛ حيث سبب صيامها ترفع فيها الأعمال فيحصل هذا المعنى بصيام الواجب فيهما، وأشار إليه ابن حجر الهيتمي في ”فتاويه“ (1/75، 83، 190)»اهـ.
قلت: والظاهر أن الأمر على ما رجحه د/الخشلان([28]).
هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء:
القول الأول: لا يبطل صومه إذا تعمد رفع النية نهارًا، ويواصل الصوم بنية مواصلة الصوم والرجوع فيه، سواء كان هذا في صوم واجب أو نفل.
وهو مذهب أبي حنيفة، وأكثر الشافعية، وبعض الحنابلة.
ودليلهم: الأول: القياس على الحج والعمرة؛ حيث اتفقوا على أن من نوى الخروج من حجه أو عمرته، فإنه لا يخرج ولا تنقطع نيته، ويمضي في حجه وعمرته، فكذلك الصوم.
الثاني: لأن الصوم عبادة من أفسدها بمبطل للصوم كالأكل والشرب، فيلزمه المضي في فاسده وإكمال صومه؛ لحرمة رمضان، فلم يفسد بنية الخروج منها.
القول الثاني: يبطل صومه في الصوم الواجب، كرمضان، والقضاء، والكفارة، والنذر، ولا يرجع لصومه، ولو نواه بعد ذلك أما إذا كان صوم نافلة؛ فله تجديد نيته بالنهار.
وهو قول المالكية، والحنابلة والظاهرية، وكثير من الشافعية.
دليلهم: الأول: ما في ”الصحيحين“ من حديث عمر ا قال: قال رسول الله ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» فلما نوى الصوم صح منه، ولما نوى قطع صومه وجزم بذلك بطل صومه لأجل نيته.
الثاني: لأن الأصل اعتبار النية في جميع أجزاء العبادة، فإذا نوى رفض الصوم فسد الصوم لزوال شرطه، وهو بقاء نية الصوم.
وكذلك يبطل صوم النافلة إلا أن له تجديد النية في النهار؛ لجواز عزم نية الصوم من النهار إذا كان ممسكًا عن مبطلات الصوم من أكل وشرب وغيره.
الرد على المخالف: قياسهم على الحج والعمرة يرد عليه بأن هنالك فرقا بين الصوم والحج والعمرة، فالحج والعمرة يصح بالنية المطلقة أو المبهمة، ويصح الحج والعمرة عن الغير، ولو كان حيًّا عند عجزه بالنية عنه، بخلاف الصوم لا بد من تعيين الصوم، ولا يصح الصوم عن الغير في حياته لعجزه، وإنما يطعم عنه أو يسقط عنه بحسب الخلاف فيه بين العلماء، ولم يقل أحد بالصيام عنه في هذه الحالة فعليه لا يقاس الصوم على الحج والعمرة في باب رفض النية وبقاء العمل.
وأيضًا لم يتفقوا على أن الحج والعمرة لا ينقطعان بقطع النية؛ فقد خالفت الظاهرية حيث قالت ببطلانها، كسائر العبادات لعموم قوله ﷺ: «وإنما لكل امرئ ما نوى».
والقول بوجوب مواصلة الصوم عند إبطاله بمفسد لا يقاس عليه صحة صوم من قطع نية صومه؛ لأنهم يقولون: "إن صومه يبطل إذا تناول مفطرًا عامدًا ذاكرًا عالمًا بالمنع"، وإنما يقولون بإكمال الصوم لأجل حرمة رمضان، ويجب عليه القضاء، أما في هذه المسألة فالقائلون بها يقولون يصح صومه ولا يبطل، ولا يلزمه القضاء فافترقا.
وأيضًا فقد قال جماعة من أهل العلم: إنه لا يجب إكمال الصوم عند إبطاله بمفطر- كما سيأتي-.
الترجيح: القول الثاني أرجح، وهو أن صومه يبطل؛ لأن بقاء النية دون إلغائها شرط في صحة الصوم، فإذا ألغاها ألغى الشرط الذي يصح به الصوم.
وهذا الذي اختاره الشيخ العثيمين([29]).
فائدة: أما إذا تردد في النية ولم يجزم بقطعها ففيه خلاف أيضًا:
فقول الشافعية وبعض الحنابلة لا يبطل الصوم؛ لأن الأصل بقاء النية حتى يعزم على إلغائها.
والمذهب عند الحنابلة يبطل الصوم أيضًا فلا بد أن يبقى عازمًا على الصوم.
والراجح: القول الأول أنه لا يبطل الصوم، والله أعلم([30]).
([1])، ”حاشية ابن عابدين“ (3/307)، ”فتح باب العناية“ (1/557)، ”مواهب الجليل لشرح مختصر خليل“ (3/338)، ”المجموع“ (6/300-302)، ”فتح الباري“ (4/643)، ”المغني“ (4/337)، ”الإنصاف“ (3/295)، ”المحلى“ لابن حزم (مسألة رقم/728، 729).
([2]) رواه البخاري (2007) ومسلم (1135).
([3]) رواه أحمد (6/287) وأبو داود (2454) والترمذي (730) والنسائي (4/197) وابن ماجة (1700) والدارقطني (2/172) والبيهقي (4/202) وغيرهم.
وقد أعله أكثر أهل الحديث.
روي هذا الحديث موقوفًا ومرفوعًا، وصوب أكثر هل الحديث وقفه على حفصة ك، منهم أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود وأبو حاتم.
وصحح بعض الحفاظ رفعه إلى النبي ﷺ منهم الدارقطني والبيهقي والخطابي.
انظر ”سنن النسائي“ (4/197) و”علل ابن أبي حاتم“ (1/115) و”سنن الدارقطني“ (2/172) و”سنن البيهقي“ (4/202) و”معاني الآثار“ للطحاوي (2/54) و”التلخيص الحبير“ لابن حجر (2/200) و”زاد المعاد“ لابن القيم (2/73) و”نصب الراية“ للزيلعي (2/434) وكتاب الصيام من ”شرح العمدة“ لابن تيمية (1/182)، وصححه الشيخ الألباني مرفوعًا إلى النبي r كما في ”الإرواء“ (رقم/914).
وجاء هذا الحديث مرفوعًا أيضًا من حديث عائشة وميمونة رواهما الدارقطني في ”سننه“ (2/172) بإسنادين ضعيفين جدًا.
([4]) رواه البخاري (2007) ومسلم (1135).
([5]) مراجع: ”حاشية ابن عابدين“ (3/304)، ”فتح باب العناية“ (1/558)، ”حاشية الدسوقي“ (2/147) مواهب الجليل على مختصر خليل (3/336)، ”المجموع“ (6/301)، ”المغني“ (4/333)، ”الإنصاف“ (3/294) كتاب الصيام ”شرح العمدة“ (1/184)، ”المحلى“ رقم المسألة (729)
([6]) مراجع للمسألة: ”حاشية ابن عابدين“ (3/304)، ”مواهب الجليل“ (3/337)، ”حاشية الدسوقي“ (2/147)، ”المجموع“ (6/290)، ”المغني“ (4/336)، ”الإنصاف“ (3/294) كتاب الصيام من ”شرح العمدة“ (1/196)، ”المحلى“ (مسألة رقم/728).
([7]) المراجع: ”فتح باب العناية“ (1/561)، ”حاشية ابن عابدين“ (3/308) كتاب الصيام من ”شرح العمدة“ (1/184)، ”المجموع“ (6/301) مع مراجع المسألة الرابعة.
([8]) المراجع: ”حاشية ابن عابدين“ (3/312)، ”فتح باب العناية“ (1/564)، ”مواهب الجليل“ (3/336)، ”المجموع“ (6/295)، ”المغني“ (4/339)، ”الإنصاف“ (3/295)، ”كشاف القناع“ (2/315)، كتاب الصيام من ”شرح العمدة“ (1/205)، ”الموسوعة الفقهية الكويتية“ (28/22)، ”الشرح الممتع“ لابن عثيمين (6/375)، ”الفقه الإسلامي وأدلته“ (3/1675).
([9]) مراجع: ”حاشية ابن عابدين“ (3/312)، ”المجموع“ (6/296)، ”المغني“ (4/337)، ”الإنصاف“ (3/296)، ”كشاف القناع“ (2/316).
([10])، ”الممتع“ (6/363).
([11]) المراجع: ”مواهب الجليل“ (3/337)، ”المجموع“ (6/296)، ”المغني“ (4/338)، ”الإنصاف“ (3/296)، ”الشرح الممتع“ (6/363).
([12]) مراجع: ”حاشية ابن عابدين“ (3/308)، ”المجموع“ (6/298)، ”كشاف القناع“ (2/316)، ”الإنصاف“ (3/296)، ”الشرح الممتع“ للعثيمين (6/357).
([13]) مراجع: ”المجموع“ (6/298)، ”الإنصاف“ (3/294)، ”كشاف القناع“ (2/315).
([14]) سنده ضعيف: رواه أبو داود (2447)، والبيهقي (4/221)، وأخرجه أحمد (5/367، 409) دون قوله: «قضوه«. فيه عبد الرحمن بن مسلمة مجهول. وضعف الحديث الشيخ الألباني في ”السلسلة الضعيفة“ (5199)
([15]) سنده صحيح: رواه ابن أبي شيبة (2/321).
([16]) سنده صحيح: رواه ابن أبي شيبة (2/321).
([17]) مراجع: ”حاشية ابن عابدين“ (3/342)، ”حاشية الدسوقي“ (2/137)، ”المجموع“ (6/271)، ”المغني“ (4/387)، ”فتح الباري“ (4/642-643، 715)، ”الإنصاف“ (3/281)، ”زاد المعاد“ (2/74)، ”تهذيب سنن أبي داود“ لابن القيم مع ”عون المعبود“ (7/81)، ”المحلى“ (729)، ”نيل الأوطار“ (4/196)، ”فتاوى اللجنة الدائمة“ (10/244)، ”الشرح الممتع“ (6/333)، ”السلسلة الصحيحة“ للألباني (6/251).
([18]) رواه مسلم (1154).
([19]) رواه عبد الرزاق في ”مصنفه“ (4/277) والبيهقي في ”سننه“ (4/203) وفيه أن رسول الله ﷺ قال: «إذًا أصوم اليوم» وفي إسناده سماك بن حرب فيه كلام فلا يطمأن لهذه الطريق.
([20]) انظر ”مصنف ابن أبي شيبة“ (2/289- 291)، و”مصنف عبد الرزاق“ (4/272- 277)، و”سنن البيهقي“ (4/204).
([21]) مراجع للمسألة: ”حاشية ابن عابدين“ (3/304)، ”بداية المجتهد“ (1/293)، ”المجموع“ (6/302)، ”فتح الباري“ (4/641)، ”شرح مسلم“ للنووي (8/29)، ”المغني“ (4/340)، ”الإنصاف“ (3/297)، ”شرح الصيام مع العمدة“ (1/185)، ”المحلى“ لابن حزم (مسألة/730)، ”الشرح الممتع“ (6/358)، ”فتاوى اللجنة الدائمة“ (10/244).
([22]) سنده صحيح: رواه ابن أبي شيبة (2/290) وعبد الرزاق (4/274) والبيهقي (4/204).
([23]) سنده صحيح: رواه ابن أبي شيبة (2/289).
([24]) سنده صحيح: رواه ابن أبي شيبة (2/289).
([25])، ”حاشية ابن عابدين“ (3/304)، ”المجموع“ (6/292)، ”روضة الطالبين“ (2/216)، ”فتح الباري“ (4/641)، ”المغني“ (4/341)، كتاب الصيام من ”شرح العمدة“ (1/191)، ”الإنصاف“ (3/297).
([26]) مراجع: ”المجموع“ (6/293)، ”المغني“ (4/342)، ”الإنصاف“ (3/298)، كتاب الصيام من ”شرح العمدة“ (1/193)، ”روضة الطالبين“ (2/216).
([27]) مراجع: ”حاشية ابن عابدين“ (3/306)، ”المجموع“ (6/299)، ”المغني“ (4/349)، ”الإنصاف“ (3/288)، كتاب الصيام من ”شرح العمدة“ (1/204)، ”المحلى“ رقم المسألة (762).
([28]) مراجع: ”فتح القدير“ (2/320)، ”الأشباه والنظائر“ (ص/22)، ”لطائف المعارف“ لابن رجب (ص/590)، ”الإنصاف“ (3/295)، ”كشاف القناع“ (2/316)، ”المحلى“ (مسألة/731).
([29]) مراجع: ”المجموع“ (3/285و6/297)، المغنى (4/370)، ”الإنصاف“ (3/297)، كتاب الصيام من ”العمدة“ (1/195)، ”المحلى“ (مسألة/732)، ”الموسوعة الكويتية“ (28/61)، ”فتاوى أركان الإسلام“ (ص/466).
([30])انظر المراجع السابقة.