فيه مسائل:
وهي على صورتين:
اختلف العلماء في هذه المسألة هل يفسد صومه ويلزمه القضاء أم لا يفسد صومه؟
القول الأول: يفسد صومه، ويلزمه القضاء.
وهو قول ربيعة الرأي، والمشهور عند المالكية.
دليله: الأول: أنه ارتكب ما يبطل الصوم، ففسد صومه، ولزمه القضاء، كما لو فعله عمدًا، والنسيان إنما يرفع الإثم عنه، أما الصوم فيبطل، ويلزمه القضاء.
الثاني: لأن الصيام إمساك عن المفطرات، وقد فات بوجود ما ينافيه.
القول الثاني: لا يفسد صومه، ويتم صومه، ولا يلزمه القضاء.
وهو قول جمهور العلماء.
دليله: ما جاء من حديث أبي هريرة ا: أن رسول الله ﷺ قال: «من نسي فأكل أو شرب؛ فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه»([1]).
فأمره بإتمام الصوم دليل على أنه لم يبطل، ولم يأمره بالقضاء.
بل جاء حديث أبي هريرة في خارج ”الصحيحين“ بزيادة في آخره: أن رسول الله ﷺ قال: «ولا قضاء عليه»([2]).
وقياس باقي المفطرات على الأكل والشرب في عدم إبطال الصوم إذا حصل منه ارتكاب هذه المفطرات نسيانًا؛ فلأن العلة واحدة، وهي ذهول القلب عن استحضار كونه في صومه.
الترجيح: الراجح: ما عليه الجمهور: لا يفسد الصوم، فوجود النص في المسألة يكفي في الرد على المخالف، وقياس بقية المفطرات على الأكل والشرب صحيح وسليم([3]).
اختلف العلماء هل يفسد صومه في هذه الحالة أم لا؟
القول الأول: يفسد صومه، ويلزمه القضاء.
وهو قول بعض السلف، والمشهور عند المالكية، والمذهب عند الحنابلة.
دليلهم: الأول: أن رسول الله ﷺ نص على حكم من أكل أو شرب ناسيًا، ولم يذكر الجماع في حالة النسيان، فهو دليل على أن له حكمًا خاصًّا، وأن النسيان في الجماع لا يكون عذرًا، وإلا لذكر رسول الله ﷺ ذلك عندما ذكر الأكل والشرب ناسيًا.
الثاني: لأنه لا يتصور النسيان في الجماع؛ لما يسبق الجماع من مقدمات وتهيئات تمنع استمرار بقاء نسيان الصوم حتى يقع الجماع.
واختلف أهل هذا القول هل يلزمه مع القضاء كفارة؟
القول الأول: لا تلزمه كفارة.
وهذا المشهور عند المالكية.
لأن الغرض من الكفارة العقوبة على هذا الذنب، وهذا رفع عنه الذنب بسبب النسيان، فلا تلزمه كفارة لرفع الإثم؛ إذ لا إثم عليه بسبب النسيان.
القول الثاني: تلزمه الكفارة كالمجامع عمدًا.
وهو المذهب عند الحنابلة.
ففي قصة المجامع لأهله في نهار رمضان أمره رسول الله ﷺ بالكفارة، ولم يسأله هل فعله عمدًا أو سهوًا، وترك الاستفصال عند الحاجة له يدل على عموم الحكم.
القول الثاني في المسألة: لا يلزم على من جامع ناسيًا في نهار رمضان قضاء ولا كفارة، ولا يفسد صومه، ويتم صومه.
وهو قول أكثر العلماء، منهم الشافعية، والحنفية، والظاهرية، ورواية لأحمد، وبعض الحنابلة كابن تيمية.
دليلهم: أنه قد ثبت بدلالة الكتاب والسنة: أن من فعل محظورًا جاهلًا أو ناسيًا لم يؤاخذه الله تعالى بذلك، ويكون بمنزلة من لم يفعل، كقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: ٢٨٦].
وقد ذكر رسول الله ﷺ أن الأكل والشرب إذا وقعا نسيانًا لا يبطل الصوم بسبب النسيان، فعمل الناسي ليس هو مما كسبه قلبه وتعمده، فلا يؤاخذ به، ونفس المعنى حاصل فيمن جامع وهو ناسٍ.
والجواب على إشكالاتهم: أنه لم يذكر رسول الله ﷺ الجماع ناسيًا عند ذكر الأكل والشرب في حديث أبي هريرة، وذلك لأن الجماع مع نسيان كونه صائمًا هذا أمر نادر بالنسبة للنسيان الذي يحصل عند الأكل والشرب، فعلق الحكم في الحديث على الأكل والشرب ناسيًا؛ لأنه الغالب، وما عداه يأخذ حكمه أيضًا.
وعدم تصور حصول النسيان في الجماع فصحيح، لكن المسألة فيما لو حصل النسيان، وكان الشخص صادقًا في دعواه هذه.
ولم يستفصل رسول الله ﷺ المجامع في نهار رمضان هل فعله عمدًا أو سهوًا؟ لأن الظاهر من قصته أنه كان عامدًا لهذا قال: (هلكت) وفي رواية: (احترقت) وهذه الألفاظ لا تصح إلا في حق من ارتكب المخالفة عمدًا.
الترجيح: الراجح: القول الثاني: أن من جامع ناسيًا في نهار رمضان لا يبطل صومه، ولا قضاء عليه، ولا كفارة، ورجحانه، واضح والله أعلم([4]).
فيه صورتان:
فعند المالكية: أن من كان حديث عهد بإسلام يظن أن الصيام الإمساك عن الأكل والشرب دون الجماع فجامع أنه ليس عليه الكفارة.
وقال بعض المالكية: عليه القضاء والكفارة.
وهكذا في سائر المفطرات إذا جهل حكمها وكان حديث عهد بالدخول في الإسلام.
وقال الشافعية: إذا أكل أو شرب أو جامع جاهلًا بتحريمه؛ فإن كان قريب عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة يخفى عليه كون هذا مفطرًا؛ لم يفطر؛ لأنه لا يأثم، فأشبه الناسي، وإن كان مخالطًا للمسلمين بحيث لا يخفى عليه تحريمه؛ أفطر لأنه مقصر.
والصحيح عند الحنابلة: أن الجاهل بالتحريم يفطر بفعل المفطرات؛ لأن من أفطر جاهلًا لم يقصد فعل العبادة التي أمر بها، فأمر بترك الأكل والشرب، فلم يقصد ذلك، ولم يُرِدْهُ لجهله بحكمه، فلم يمتثل ما أمر به فتبقى العبادة في عهدته حتى يقضيها، بخلاف من قصد الكف والإمساك عن الطعام والشراب ثم فعله ناسيًا لصومه، فلا شيء عليه.
ولأن النبي ﷺ حكم بإفطار الحاجم والمحجوم، ولم يكونا يعلمان أن ذلك منهي عنه، ولم يعذرا بالجهل.
وقال جماعة من الحنابلة: إنه إن جهل أن ذلك الشيء مفطر ففعله أنه لا يفطر؛ لأن الجهل أشد عذرًا من النسيان، فإن الناسي قد كان علم ثم نسي، والجاهل لم يعلم أصلًا، فإذا كان النسيان عذر فالجهل أولى.
ولما جاء عن عدي بن حاتم ا: أنه كان يأكل حتى يتبين له العقال الأبيض من العقال الأسود معتقدًا أن ذلك معنى قوله تعالى: ﴿حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ﴾ [البقرة: ١٨٧]، وجاء عن غيره من الصحابة، ولم يأمرهم النبي ﷺ بالقضاء لكونهم غير عالمين بأن الأكل في هذا الوقت مفطرًا.
وفي ”الموسوعة الكويتية“ (28/44): «الجمهور من الحنفيّة والشّافعيّة ، والمشهور في مذهب المالكيّة ، على إعذار حديث العهد بالإسلام، إذا جهل الصّوم في رمضان».
وقال الشيخ ابن عثيمين: «والصحيح أن الرجل إذا كان معذورًا بجهل، أو نسيان، أو إكراه، فإنه لا قضاء عليه ولا كفارة».
وقال أيضًا: «المراد الجهل بهذا الفعل، هل هو حرام أو ليس بحرام، ولهذا لو أن أحدًا زنى جاهلًا بالتحريم، وهو ممن عاش في غير البلاد الإسلامية، بأن يكون حديث عهد بالإسلام، أو عاش في بادية بعيدة لا يعلمون أن الزنى محرّم فزنى؛ فإنه لا حدّ عليه».
الترجيح: الراجح: أن الجهل عذر كالنسيان، بشرط ألا يكون الجهل بسبب تقصير منه، وإلا لم يُعذر؛ لأنه المتسبب في الوقوع في المحظور–كما مر معنا من نص الشافعية([5]).
وهذا كمن علم بحرمة الجماع للصائم، وجهل وجوب الكفارة عليه، فهل تسقط عنه الكفارة؟
والجواب: لا تسقط عنه الكفارة؛ لأن معرفته بحرمة هذا الفعل كان كافيًا لزجره وردعه عن اقتراف هذا الذنب، ولأنه جاهل بما يجب عليه، وليس جاهلًا بحكمه، فلا أثر لهذا الجهل في وجوب الكفارة؛ لمعرفته بحكم هذا الفعل.
لهذا لو زنى شخص وهو يعلم بحرمة الزنا، لكنه لا يعلم بالحد؛ فلا يسقط عنه الحد؛ لأن معرفته بالحرمة تكفي، ولو جهل العقاب.
والرجل الذي جاء إلى النبي ﷺ وقد جامع امرأته في نهار رمضان كان يجهل حكم الكفارة؛ لهذا جاء يسأل: ما ذا عليه؟ فأمره الرسول ﷺ بالكفارة ولم يعذره بجهله بها ما دام أنه يعلم بحرمة الجماع للصائم؛ لهذا قال: (احترقت) وفي رواية: (هلكت)، وهذا قول من يعلم أنه واقع في المعصية.
وهذا الذي نص عليه المالكية والشافعية والحنابلة.
قلت: والأمر واضح فهو على ما قالوه([6]).
والكلام في هذه المسألة على قسمين:
القول الأول: لا يفسد صومه، كما لو أكره على الأكل والشرب.
القول هذا هو الأصح عند الشافعية، والمذهب عند الحنابلة، وقول الظاهرية.
دليلهم: الأول: حديث ابن عباس م قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه»([7]).
الثاني: قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ﴾ [النحل:١٠٦]، فمن أكره على الكفر فكفر وقلبه يأبى ذلك لا يقع عليه الكفر فمن باب أولى من أكره على ما دون الكفر كالإفطار وقت الصيام.
الثالث: قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ ﴾ [الأحزاب: ٥]، فالمؤاخذة إنما تكون على ما يتعمد الإنسان فعله والمكره غير متعمد للفعل فلا جناح عليه.
الرابع: لأنه بالإكراه سقط أثر فعله، فلهذا لا يأثم بفعله؛ لأنه صار مأمورًا بفعله كالأكل والشرب للصائم ليدفع ضرر الإكراه عن نفسه، فهو أولى من الناسي؛ فإن الناسي لا يؤمر بالأكل، ومع هذا إذا أكل صح صومه.
القول الثاني: يفسد صومه، ويلزمه القضاء.
وهو قول المالكية، والحنفية، وقولٌ للشافعية، ووجه للحنابلة.
دليلهم: أنه أفطر عامدًا ذاكرًا لصومه، ففسد صومه بخلاف الناسي، فهو لا يذكر أنه صائم أصلا ، وأما إذا قلنا: إن المفطر ناسيًا يبطل صومه فهذا مثله، ولا إشكال بعدها.
ولأن غرض المكره من فطره دفع الضرر عن نفسه، وهذا لا يكون سببًا لقبول صومه وعدم مطالبته بالقضاء، كمن أفطر بالأكل والشرب؛ لدفع الضرر الناتج عن الجوع والعطش، فيلزمه القضاء.
والأدلة السابقة لأصحاب القول الأول تحمل على نفي الإثم ورفعه عن المكره، أما الصوم فيفسد، ويلزم القضاء.
الترجيح: الراجح: القول الأول: لا يفسد صومه؛ لأنه لم يتعمده قلبه([8]).
فيه خلاف عند أصحاب المذاهب:
فالصحيح عند الحنابلة: أن المرأة إذا اكرهت يلزمها القضاء، ولا كفارة عليها، ففسد صومها.
لأن الصوم عبادة يفسدها الوطء، ففسدت به على كل حال، وفارق الإكراه بالأكل والشرب؛ لأنه يعذر فيها مع النسيان بنص الحديث، ولا يعذر المجامع فكذلك هنا.
ولا كفارة؛ لأن الغرض منها: إما العقوبة، وإما محو الذنب، ولا حاجة لكل هذا؛ لأن المكره معذور، فلا يأثم ولا يعاقب.
وأما الرجل إذا أكره على الجماع فتلزمه الكفارة مع القضاء؛ لأنه لا يتصور منه جماع إلا مع انتشار وانتصاب الذكر، وهذا لا يحصل إلا مع وجود الشهوة، فكان كغير المكره؛ لأنه جامع بفعله.
ورواية لأحمد وبعض الحنابلة منهم ابن تيمية: أنه لا كفارة عليهما، ولا قضاء؛ لأنهما مغلوبان على أمرهما، مع عموم الأدلة السابقة في إعذار المكره، وكالناسي فإنه لا كفارة على المجامع فيه ولا قضاء، وكالمكره على الفطر بغير الجماع.
والانتشار قد يحصل من الرجل بسبب دنوه من المرأة، وإن كان يكره الزنا بها، فلا يسلم من الانتشار، ورجحه الشيخ ابن عثيمين.
وعند الشافعية: أن المرأة لا كفارة عليها قولًا واحدًا؛ لتصور وجود الإكراه في حقها فلا تحتاج إلى كفارة.
وأما صومها فعلى قولين:
الأصح: أنه لا يفسد، ولا قضاء بالتالي عليها؛ لأنها أرادت دفع ضرر الإكراه عن نفسها.
والقول الثاني: يلزمها القضاء؛ لأن صومها يفسد؛ لأن الإكراه يرفع الإثم، أما الصوم فيفسد، وهذان القولان عندهم كما في القسم الأول تمامًا.
وأما الرجل إذا أكره على الجماع فيرجع الأمر فيه إلى الخلاف المشهور في إكراه الرجل على الجماع فجامع هل يتصور إكراهه فيه أم لا ؟!
فإذا قلنا: "يتصور الإكراه فيه"؛ فالحكم فيه كالقولين السابقين، ولا كفارة عليه قولًا واحدًا.
وإن قلنا: "لا يتصور إكراهه؛ لأن الجماع من الرجل لا يكون إلا مع الانتشار، وهذا لا يكون إلا عند شهوة ولذة"؛ ففي هذه الحالة يفطر، ويلزمه القضاء والكفارة؛ لأنه غير مكره.
وأما الظاهرية: فذكر ابن حزم مذهبهم: أن المرأة إذا أكرهت على الجماع فصومها تام ولا قضاء عليها، ولم يتعرض للرجل.
لكن الظاهر أنه كذلك لا يفسد صومه عندهم يفهم من عموم قول ابن حزم: «من أكره على الفطر؛ فإن صومه تام، ولا شيء عليه»، ثم ذكر حديث ابن عباس السابق : «إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ...».
تنبيه: لم نتعرض هنا للنقل عن المالكية والحنفية؛ لأنهم يرون الإكراه مطلقًا يفسد الصوم.
الترجيح: الراجح: أن الإكراه يتصور في حق الرجل، كما هو متصور في حق ،المرأة فالانتشار للذكر يكون عن شهوة، والباعث للشهوة هنا هو الإلجاء إلى ذلك، وليس الرغبة في الزنا، فليس هو سببًا اختياريًّا، وقد يكون الانتشار دليل الفحولية، لا أنه دليل على عدم الإكراه ووجود الاختيار، وقد يحصل الإيلاج وإن لم يوجد الانتشار([9]).
فعليه لا يفسد صوم الرجل إذا جامع الرجل مكرهًا، ولا قضاء عليه ولا كفارة([10]).
فيه خلاف:
القول الأول: يلزمه أن يواصل صومه، ويقضي يومًا مكانه.
وهو قول جمهور العلماء، منهم: مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وهو المذهب عند الحنابلة.
دليلهم: أما إمساك بقية اليوم؛ فلأنه مطالب بالصيام ولا عذر له يبيح له الإفطار، ولأجل حرمة الشهر.
ويقضي مكانه؛ لأن الواجب في الصوم الإمساك من وقت طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ومن ظن أن الفجر لم يطلع فأكل، ثم بان أنه أكل بعد طلوع الفجر، أوظن غروب الشمس فأكل، ثم بان أن الشمس لم تغرب؛ يكون في الحالتين قد أكل في وقت الصيام، فلم يحصل الإمساك منه في جميع الوقت الواجب الإمساك فيه من الطلوع إلى الغروب.
وهو وإن كان يجهل طلوع الفجر أو يجهل غروب الشمس؛ فإنما يرفع الإثم عنه، ولا يسقط القضاء؛ لأنه في الواقع والحقيقة لم يمسك جميع اليوم، والعبرة بالواقع، وبحقيقة الأمر.
وقد جاء من حديث أسماء بنت أبي بكر م قالت: «أفطرنا على عهد النبي ﷺ يوم غيم ثم طلعت الشمس»، فقيل لهشام بن عروة: فأمروا بالقضاء؟ قال: «بُدُّ من القضاء»([11]).
فصرح هشام بالقضاء، وهو يروي هذا الحديث عن زوجته فاطمة بنت المنذر عن جدته أسماء.
وأيضًا جاء عن عمر ا: أن الناس أفطروا في غيم، فإذا الشمس طالعة، فأمر عمر بقضاء يوم([12]).
وما جاء عنه خلاف هذا أنه أنكر القضاء فهو خطأ عليه وسيأتي هذا الأثر.
وجاء القضاء عن معاوية ا([13])، وعن صهيب الرومي ا([14]).
وعن ابن مسعود: عن رجل تسحر وهو يرى أن عليه ليلًا، وقد طلع الفجر، فقال: «من أكل من أول النهار فيأكل من آخره»([15]).
ولا يقاس على الناسي في عدم القضاء للفرق بين هذا وبين الناسي؛ فإن النسيان لا يمكن التحرز منه، أما الخطأ فيمكن التحرز منه بأن لا يفطر حتى يتيقن غروب الشمس، وأن يمسك حتى يتيقن عدم طلوع الفجر، لكنه أفطر باجتهاده، فتبين خطأ اجتهاده.
ورجحت هذا القول اللجنة الدائمة برئاسة ابن باز.
القول الثاني: من أكل أو شرب ظانًّا أن الفجر لم يطلع، أو أن الشمس غربت، فتبين خلاف ذلك، فصومه صحيح، ويتم صومه، ولا يلزمه القضاء.
وهو قول بعض السلف، وإسحاق بن راهويه، والظاهرية، ورواية لأحمد، واختارها ابن تيمية، وقال: «قال به طائفة من السلف والخلف».
دليلهم: الأول: دليل عام، وهو: عموم قوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٨٦]، وقوله: ﴿ وَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٞ فِيمَآ أَخۡطَأۡتُم بِهِۦ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتۡ قُلُوبُكُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا ﴾ [الأحزاب:٥].
وفي الحديث: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه».
فهذه الأدلة تدل على عدم المؤاخذة على الخطأ، ومن أمر المخطئ هنا بالقضاء؛ فقد خالف عموم هذه الأدلة، حيث آخذه وجعل عليه الحرج فيما أخطأ به، ولم يتعمده قلبه.
الثاني: دليل خاص، وهو حديث أسماء – السابق- ليس فيه أن الرسول ﷺ أمرهم بالقضاء، وكانوا أكلوا ظانين أن الشمس غربت، فإذا هي لم تغرب.
وما جاء عن هشام بن عروة فهذا من قوله ، وقد قال معمر سمعت هشامًا قال: «لا أدري أقضوا أم لا»([16])، فيكون جزمه بالقضاء محمولًا على أنه استند فيه إلى دليل آخر بحسب اجتهاده، وأما حديث أسماء فلا يحفظ فيه إثبات القضاء ولا نفيه.
الثالث: القياس على الناسي؛ فهو يتم صومه ولا قضاء، فكذلك هنا؛ لأنه جهل الحال والواقع، فكلاهما ظن أنه في غير صيام، فكلاهما معذور، والتفريق بين الجاهل والناسي هنا ضعيف.
ولا يُلام من حصل منه هذا الجهل؛ لأنه أراد أن يمتثل الأمر بتعجيل الفطر، وتأخير السحور فيصيب سنة رسول الله ﷺ.
وما جاء عن عمر ا من القول بالقضاء؛ قد جاء عنه خلافه، وهو أنه كان يرى عدم القضاء؛ لوجود العذر في هذه الحالة، فعن زيد بن وهب قال: كانت في السماء سحابة، فظن الناس أن الشمس قد غربت، فشرب عمر وشربنا، فلم يلبثوا أن تجلت السحاب، فإذ الشمس طالعة، فقال الناس: "نقضي هذا اليوم". فقال عمر: «-ولم- فو الله ما تجانفنا لإثم» وفي رواية قال عمر: «فو الله لا نقضيه ما تجانفنا من إثم»([17]).
وهذا أصح سندًا مما روي عنه في الأمر بالقضاء، ورجاله ثقات من رجال الشيخين، والحكم بوجود الخطأ من أحد رواته قول بلا برهان، ورجح هذا القول الشيخ ابن عثيمين.
القول الثالث: لا قضاء عليه إذا أكل ظانًّا بقاء الليل، ويلزمه القضاء إذا أفطر ظانًّا غروب الشمس.
وهو قول بعض السلف.
ولعل دليلهم: أن الأصل بقاء الليل، وأنه يجوز له الأكل والشرب حتى يتبين طلوع الفجر، فلم يحصل منه التعجل؛ لبقاءه على الأصل بخلاف وقت الغروب؟!
فالأصل بقاء الصوم، وبقاء النهار، حتى نتيقن من غروب الشمس، فيكون التعجل عندما أفطر، ولم ينتظر حتى يحصل له اليقين بغروب الشمس.
الترجيح: الأقرب القول الثاني: أنه لا يلزم القضاء، لكن الأفضل أن يقضي يومًا احتياطا للصوم، وسدًّا لباب التساهل، وخروجًا من مخالفة الجمهور، والأمر سهل ويسير.
وما جاء عن عمرا فقد صح الأمران عنه، فإما أن يقال: له قولان، وإما أن يؤخذ بالأقوى سندًا، ولعل الأقوى سندًا عنه عدم الأمر بالقضاء([18]).
} ¥ }
([1]) رواه البخاري (1933) ومسلم (1155).
([2]) رواه الدارقطني (2/178) والبيهقي (4/229) وغيرهما من طرق لا تخلو من كلام، على أن الحافظ ابن حجر قال: «أقل درجات الحديث بهذه الزيادة أن يكون حسنًا فيصلح للإحتجاج به» كما في ”فتح الباري“ (4/661)، وحسن الألباني أحد هذه الطرق كما في ”الإرواء“ (4/87).
([3]) مراجع: ”المبسوط“ (3/61) ”فتح القدير“ (2/327)، ”مواهب الجليل من أدلة خليل“ (2/36)، ”المجموع“ (6/324)، ”المغني“ (4/367)، ”فتح الباري“ (4/659).
([4]) مراجع: ”المبسوط“ (3/61)، ”بداية المجتهد“ (1/303)، ”المجموع“ (6/324)، ”المغني“ (4/374)، ”فتح الباري“ (4/670)، ”الإنصاف“ (3/311)، ”الفتاوى“ (25/226)، ”المحلى“ (4/358) .
([5]) المراجع: ”مواهب الجليل“ (3/357)، ”المجموع“ (6/324)، ”المغني“ (4/368)، ”الإنصاف“ (3/304)، كتاب الصيام من ”شرح العمدة“ (8/464)، ”الممتع“ (6/404).
([6]) المراجع: ”حاشية الدسوقي“ (2/157)، ”المجموع“ (6/344)، ”الموسوعة الفقهية“ (28/44)، ”الممتع“ (6/404)، كتاب ”دفع الدعوى الجزائية“ للبهلي (ص/334).
([7]) حديث معل: رواه عبد الرزاق (6/409)، وابن أبي شيبة (4/172)، ورواه ابن ماجة (1/609)، والدارقطني (4/170)، والبيهقي (7/356)، وغيرهم، وبعض طرقه ظاهرها الصحة.
لكن قد أنكر صحة الحديث الإمام أحمد، وأبو حاتم، وغيرهما، وأعلوه، كما في ”علل ابن أبي حاتم“ (1/431)، و”جامع العلوم والحكم“ لابن رجب (2/361).
([8]) مراجع: ”فتح باب العناية“ (1/570)، ”مواهب الجليل من أدلة خليل“ (2/36)، ”المجموع“ (6/325، 326)، ”الإنصاف“ (3/304)، ”المحلى“ (4/316)، كتاب الصيام ”شرح العمدة“ (1/462).
([9]) انظر ”الأشباه والنظائر“ لابن الوكيل (2/358)، و”الأشباه والنظائر“ للسيوطي (ص/208).
([10]) مراجع عامة: ”المجموع“ (6/325)، ”المغني“ (4/376، 377)، ”الإنصاف“ (3/312)، كتاب الصيام ”شرح العمدة“ (1/316، 320، 463)، ”المحلى“ (4/361)، ”الممتع“ للعثيمين (6/404).
([11]) رواه البخاري (1959).
([12]) هو ثابت عنه: جاء هذا عنه من عدة طرق كما في ”الموطأ“ لمالك رقم (820)، و”مصنف عبد الرزاق“ (4/178)، وابن أبي شيبة (2/286، 287)، والببهقي (4/217).
([13]) إسناده ضعيف: رواه ابن أبي شيبة (2/287).
([14]) إسناده ضعيف: رواه البيهقي (4/218).
([15]) في إسناده ضعف: رواه ابن أبي شيبة (2/286)، والبيهقي (4/416).
([16]) سنده صحيح: رواه البخاري (4/714) معلقًا، وقد وصله عبد بن حميد ذكره ابن حجر بسنده في ”تغليق التعليق“ (3/195) وسنده صحيح.
([17]) سنده صحيح: رواه عبد الرزاق (4/179) والبيهقي (4/217) وسنده صحيح، ورواه ابن أبي شيبة (2/287) بسنده دون ذكر القضاء.
([18]) مراجع: ”حاشية ابن عابدين“ (3/340)، ”فتح باب العناية“ (1/570)، ”التمهيد“ لابن عبد البر (21/98)، ”حاشية الدسوقي“ (2/154)، ”المجموع“ (6/309)، ”فتح الباري“ (4/715)، ”المغني“ (4/389)، ”الإنصاف“ (3/311)، ”الفتاوى“ (20/570و25/228)، ”المحلى“ المسألة/753،و6/222)، ”فتاوى اللجنة الدائمة“ (10/292)، ”الممتع“ (6/397)