اختلفوا في حكم صيام رمضان للمسافر:
القول الأول: لا يصح صومه.
وهو قول بعض السلف، وبعض الظاهرية، منهم ابن حزم.
دليل هذا القول: الأول: ما جاء عن جابر ا قال: كان رسول الله ﷺ في سفر فرأى زحامًا ورجلًا قد ضلل عليه، فقال: «ما هذا؟» فقالوا: صائم. فقال: «ليس من البر الصوم في السفر»([1])، وعكس البر الإثم، وإذا كان آثمًا بصومه بالسفر؛ فلم يجزئه.
الثاني: ما جاء عن جابر ا أيضًا: أن رسول الله ﷺ خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم – اسم موضع-، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء، فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: "إن بعض الناس قد صام"، فقال: «أولئك العصاه، أولئك العصاه»([2]).
فنسب من صام إلى العصيان، فدل على أن الصوم في السفر معصية.
الثالث: ما جاء عن عبد الرحمن بن عوف ا: أنه قال: قال رسول الله ﷺ : «الصائم في السفر كالمفطر في الحضر»([3]).
الرابع: ما جاء أن رجلًا صام رمضان في السفر فأمره عمر ا أن يعيده([4]).
وأما الأحاديث التي يفهم منها جواز الصيام في السفر فالجواب عليها من وجهين:
الأول: ليس في شيء منها أنه ﷺ كان صائمًا في رمضان، فقد يمكن أنه كان صيام تطوع.
الثاني: أنها منسوخة؛ لأن آخر الأمرين من رسول الله أنه أفطر رمضان، وذلك عام الفتح، فعن ابن عباس م قال: «خرج رسول الله ﷺ عام الفتح في رمضان فصام، ثم أفطر، وكان أصحاب رسول الله يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره»([5]).
القول الثاني: يصح صومه في السفر، ويجوز له الفطر.
وهو مذهب جمهور العلماء، بما فيهم الأئمة الأربعة.
دليله: الأول: حديث عائشة ك قالت: أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي ﷺ: "أأصوم في السفر؟" - وكان كثير الصيام- فقال: «إن شئت فصم وإن شئت فأفطر»([6])، فأذن له بالصوم في السفر، وسؤاله عام، فيشمل رمضان وغير رمضان، والإذن لحمزة إذن لجميع الأمة.
الثاني: ما جاء عن أنس ا: أنه سافر مع رسول الله ﷺ في رمضان، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم([7]).
وعن أبي سعيد ا قال: «غزونا مع رسول الله ﷺ لست عشرة مضت من رمضان، فمنا من صام ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم»([8]).
الثالث: عن أبي سعيد الخدري ا أيضًا قال: إن رسول الله ﷺ قال: «إنكم مصبحون عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا» وكانت عزيمة، فأفطرنا، ثم لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله ﷺ بعد ذلك في السفر([9]).
فبين أبو سعيد أن الذي استقر عليه العمل عندهم بعد ذلك: جواز الصوم في السفر، وأنهم لا يُمنعون منه.
والجواب على ما في حديث جابر: «ليس من البر الصيام في السفر»: أن هذا في حق من يتضرر بسبب صومه في السفر، كما هو ظاهر من القصة التي هي سبب لهذا القول، أو يحمل على أن الفطر أفضل من الصيام، لا أن الصوم يحرم على المسافر بالمرة.
وحديث جابر الآخر في حكم رسول الله على من صام بأنه عاصٍ، فلأنهم أمروا بالفطر لمصلحة، ووجدت مفسدة على المسلمين بسبب الصوم وعُزم عليهم الإفطار، فيكون الإفطار في حقهم واجبًا، فلهذا نسبوا في الحديث للعصيان، لا أنه يحرم الصوم على المسافر مطلقًا.
وقد جاء أيضًا هذا الحديث عن جابر ا عند مسلم (7/200) وفيه: فقال جابر: قيل لرسول الله ﷺ: "إن الناس شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت"، فدعا بقدح من ماء فشرب – الحديث.. فبين أنهم قد شق عليهم الصوم مع أنهم سيلاقون أعداء.
ويدل عليه حديث أبي سعيد – السابق-: «إنكم مصبحون عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا» وكانت عزيمة، فبين أبو سعيد أنه كان عزيمة في حقهم أي واجب في هذا الموطن، ثم انتهى الأمر بجواز الصوم والفطر للمسافر.
وحديث عبد الرحمن بن عوف ضعيف- كما مر-.
وأما دعوى النسخ فمردودة ؛ لأمرين:
الأول: أن الأصل الجمع بين الأدلة إذا أمكن، ولا يرجع للقول بالنسخ إلا إذا لم يمكن الجمع بين الأدلة، وهنا يمكن الجمع بأن يقال بجواز الصوم في السفر، إلا إذا خُشي الضرر بسبب الصوم.
الثاني: عدم التسليم بأن آخر الأمرين في مسألة الصوم في السفر هو المنع، وما جاء في حديث ابن عباس: «وكان أصحاب رسول الله ﷺ يتبعون الأحدث»؛ فهو من قول الزهري، جاء واضحًا هذا الإدراج في رواية أخرى عند مسلم (7/199)، قال: وقال ابن شهاب – وهو الزهري-: «فكانوا يتبعون الأحدث من أمره». وهكذا رواه البخاري في ”صحيحه“ عند حديث (4276) من قول الزهري.
ويدل عليه: أن في حديث ابن عباس هذا أن ابن عباس كان يقول: «فصام رسول الله ﷺ وأفطر، فمن شاء صام، ومن شاء أفطر» كما في البخاري (1948) ومسلم (7/200).
فلو كان منسوخًا؛ لما أفتى ابن عباس الناس بجواز الأمرين: الفطر، والصوم بالسفر، وهو راوي هذا الحديث.
وأيضًا: ما مر من حديث أبي سعيد ا وفيه: «لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله ﷺ بعد ذلك في السفر» يظهر منه أن آخر الأمرين جواز الصوم في السفر.
الترجيح: الراجح: قول الجمهور، وأدلتهم واضحة وصريحة في الدلالة على صحة صوم المسافر([10]).
فيه خلاف بين العلماء:
القول الأول: الفطر في السفر أفضل وأحسن، سواء وجد مشقة في الصوم أم لا.
وهو قول جماعة من السلف، والمذهب عند الحنابلة، واختاره الشيخ الألباني.
دليلهم: الأول: حديث جابر – السابق-: «ليس من البر الصيام في السفر» ،فيكون البر هو الفطر في السفر، والبر هو العمل الصالح، والصوم هنا ليس بعمل صالح، بل مباح فقط فلا حاجة له إذن.
الثاني: ما جاء عن حمزة بن عمرو الأسلمي ا: أنه قال: "يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل على جناحٌ ؟" فقال رسول الله ﷺ: «هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه»([11]).
فذكر في الفطر أنه حسن، وفي الصيام لا جناح عليه، أي: لا إثم عليه، فهذا دليل أرجحية الفطر، فيكون الفطر أفضل، والصوم مباح وجائز.
الثالث: حديث أبي هريرة ا قال: كان رسول الله ﷺ في سفر ومعه أبو بكر وعمر فأتي بطعام، فقال لأبي بكر وعمر: «ادنوا فكلا»، فقالا: "إنا صائمان". فقال: «ارحلوا لصاحبيكم، واعملوا لصاحبيكم»([12]).
وغرض رسول الله ﷺ من قوله: «اعملوا، ارحلوا» الإنكار عليهما بسبب صيامهما، فدل ذلك على أن الفطر في حق المسافر أفضل من الصوم.
الرابع: ما رواه سعيد بن المسيب قال رسول الله ﷺ: «خياركم من قصر الصلاة في السفر وأفطر»([13]).
الخامس: ما صح عن ابن عباس م: أنه قال: «الإفطار في السفر عزيمة» وقال أيضًا عن الصوم في السفر: «عسر ويسر فخذ بيسر الله عليك»([14]).
القول الثاني: الصوم في السفر أفضل من الفطر، إذا لم يشق عليه الصوم.
وهو قول جمهور العلماء، منهم: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، ووجه للحنابلة، واختاره الشيخ العثيمين.
دليلهم: الأول: حديث أبي الدرداء ا قال: «خرجنا مع رسول الله ﷺ في شهر رمضان في حر شديد، حتى إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله r وعبد الله بن رواحة»([15]).
فصوم رسول الله ﷺ في سفره هذا مع شدة الحر؛ حرصًا منه على القيام بالأفضل، وهو الصوم، ولو كان الفطر أفضل من الصوم؛ لأفطر هنا، فدواعي الإفطار موجودة هنا، وهي شدة الحر.
الثاني: عن أبي سعيد الخدري ا قال: «كنا نغزوا مع رسول الله ﷺ في رمضان، فمنا الصائم، ومنا المفطر، ولا يعيب بعضهم على بعض، يرون أن من وجد قوة فصام فهو حسن، وأن من وجد ضعفًا فأفطر فهو حسن»([16]).
فظهر من هذا أن الأحسن لمن وجد من نفسه قوة، ولم يجد ضعفًا: أن يصوم.
الثالث: من ناحية المعنى فرمضان محل الوجوب فهو أفضل من غيره من الأيام لأداء الصوم.
وأيضًا الأداء أفضل من القضاء عند القدرة على الأداء.
وأيضًا يحصل بالصوم براءة الذمة بالحال فلا يعلم ما يطرأ له بعد ذلك.
والجواب على أدلة أصحاب القول الأول بالآتي:
أما حديث: «ليس من البر الصيام في السفر» فيحمل هذا على من شق عليه الصوم وتضرر به، كما هو ظاهر من قصة الرجل الذي ظلل عليه، فقال رسول الله ﷺ هذه المقولة بسبب ما رآه من حال هذا الرجل، وكيف أضر بنفسه بسبب الصوم؟ والمعنى ليس من البر أن يبلغ رجلٌ بنفسه إلى هذا الحد، فالإفطار في حقه أفضل، وربما كان واجبًا.
وكذلك من ظُن به الإعراض عن قبول الرخصة، ورغب عنها مع الحاجة إليها، فليس صومه في السفر من البر.
وأما حديث حمزة الأسلمي فليس فيه ما يدل على أفضلية الفطر على الصوم؛ فإن وصف الإفطار في الحديث بإنه حسن لا يدل على أنه أحسن من الصيام؛ لأن الصيام أيضًا حسن، فقد صام رسول الله ﷺ في السفر، وهذا يدل على أن الصوم فيه حسن.
وقال أبو سعيد الخدري -كما سبق-: «إن الصحابة كانوا يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن».
وحديث أبي هريرة في صوم أبي بكر وعمر في السفر وإنكار رسول الله ﷺ عليهما فالجواب: أن الإمام النسائي أعله ورجح الإرسال – كما سبق-، وعلى صحته فيُجاب عليه بأن رسول الله ﷺ لم ينكر عليهما الصوم في السفر مطلقًا، وإنما أنكر عليهما لسبب، وذلك حتى لا يحوجا الناس إلى خدمتهما، وهو واضح من قوله: «اعلموا ، ارحلوا لصاحبيكم».
وما جاء عن ابن عباس وابن عمر م من تفضيل الفطر في السفر قد جاء عن غيرهما من الصحابة تفضيل الصوم في السفر.
فعن عائشة ك أنها «كانت تصوم في السفر حتى أذلقها السموم»([17]).
وعن أنس أنه سئل عن الصوم في السفر؟ فقال: «من أفطر فرخصة ومن صام فالصوم أفضل»([18]).
وعن عثمان بن أبي العاص قال: «الصوم أفضل»([19]).
الترجيح: الراجح: مذهب الجمهور: الصوم أفضل، إلا أن يخشى على نفسه ضررًا، أو تحصل له مشقة، فيفرط بحقوق واجبة عليه لربه، أو لأهله، أو للمسلمين عامة، أو الغرض من الصوم الاستهانة برخصة رسول الله ﷺ، وعدم المبالاة بها، والإعراض عنها، أو خشي على نفسه رياءً أو عجبًا بسبب صومه في السفر، فيكون الإفطار أفضل. كما في ”فتح الباري“ لابن حجر.
وقد يجب في بعض الحالات، وكذلك يستحب الإفطار له إذا عجز عن خدمة نفسه، كما بوب له ابن خزيمة في ”صحيحه“(3/261)([20]).
لا خلاف عند أهل المذاهب الأربعة والظاهرية على أن السفر المجيز للفطر هو السفر الذي يصح فيه القصر للصلاة، ولا يجوز في الفطر في سفر لا يصح فيه القصر.
لأنه في عرف الشرع إذا ذكر السفر قُصد به الطويل الذي يصح فيه القصر، وكذلك إذا نوى الإقامة مدة لا يقصر فيها، فلا يجوز له الفطر عندهم أيضًا.
واتفقوا على أن من أفطر في سفر يصح القصر للصلاة فيه: أنه يلزمه القضاء، لقوله تعالى:﴿ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﴾ [البقرة: ١٨٤]([21]).
على ثلاثة أحوال:
الحال الأول: أن يدخل عليه شهر رمضان وهو في سفر، فيجوز له الفطر عند عامة العلماء.
الحال الثاني: أن يسافر قبل الفجر، فيجوز له الفطر في اليوم الآتي، وما بعده عند عامة أهل العلم.
الحال الثالث: إذا كان مقيمًا صائمًا ثم سافر أثناء النهار أي سافر بعد الفجر.
وقد اختلف العلماء في هذا الحال هل يباح له الفطر؟
القول الأول: لا يجوز له الفطر في هذا الحال.
وهو قول جمهور العلماء، بما فيهم الحنفية، والمشهور عند المالكية، والمذهب عند الشافعية، ورواية لأحمد.
دليلهم: الأول: أن السفر لا يبيح الفطر إنما يبيح عدم الشروع في الصوم، فلو سافر بعد الفجر؛ فلا يحل له الفطر؛ لأنه قد شرع في الصوم، فلم يباح له الفطر.
الثاني: لأنه عبادة تختلف بالسفر والحضر، فإذا اجتمعا فيها غُلب حكم الحضر، فلم يثبت له رخصة السفر.
القول الثاني: يباح له الفطر في هذا الحال أيضًا.
وهو قول جماعة من السلف، والظاهرية، والمذهب عند الحنابلة، وبعض الشافعية، وبعض المالكية.
دليلهم: الأول: قوله تعالى: ﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ﴾ [البقرة: ١٨٤]. فأباح الفطر بسبب السفر، وأطلق ذلك، فاستوى الجواز في الفطر للمسافر: فيما إذا سافر بعد الفجر، أو سافر أثناء النهار؛ لوجود معنى الإفطار، وهو السفر، كالمريض إذا صام ثم مرض في أثناء النهار أفطر.
الثاني: ما جاء عن محمد بن كعب القرظي قال: «أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفرًا، وقد رحلت له راحلته ولبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل» وفي رواية: قبل غروب الشمس، فقلت له: سنة؟ قال: «سنة» ثم ركب([22]).
والشاهد: أن أنس بن مالك سافر أثناء النهار، فأفطر، ونسب هذا إلى السنة، وهذا له حكم الرفع كما هو معلوم في علم الحديث.
الثالث: عن عبيد بن جبر قال: ركبت مع أبي بصرة الغفاري الصحابي في سفينة، ثم قرب غداءه ثم قال: «اقرب» وذلك في رمضان، فقلت: "والله ما تغيب عنا منازلنا بعد"، فقال: «أترغب عن سنة رسول الله ﷺ؟» قلت: "لا". قال: «فكل»([23]).
وقد رجح هذا القول ابن القيم، والصنعاني، والألباني، وابن عثيمين، واللجنة الدائمة، وغيرهم.
الترجيح: الراجح: القول الثاني: له الفطر إذا خرج بعد الفجر، وإن كان نوى الصيام قبلها؛ لقوة ما استدل به أهل هذا المذهب([24]).
تنبيه: إذا أراد الشخص السفر من الليل وهو في الحضر فلا ينوي فيه الفطر من الليل.
قال ابن عبد البر: «اتفقوا على أن الذي يريد السفر في رمضان: أنه لا يجوز له أن يبيت الفطر؛ لأن المسافر لا يكون مسافرًا بالنية، وإنما يكون مسافرًا بالنهوض في السفر والأخذ في أهبته»([25]).
فيه خلاف عند من أجاز له الفطر في هذه الحالة:
القول الأول: من بيته من حين نوى السفر.
وهو قول أنس بن مالك ا، ومذهب إسحاق بن راهويه، ونُقل عن الحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، واختاره الشيخ الألباني.
دليله: حديث أنس المتقدم، فقد تناول طعامه في بيته، وذكر أن هذا من السنة، والمراد بقول الصحابي السنة؛ أي سنة رسول الله ﷺ، فإذا ثبت الدليل المنصوص فالعمل عليه.
القول الثاني: لا يجوز له الفطر من بيته، وإنما يباح له الفطر إذا خرج من بيوت بلدته.
وهو قول الشعبي، والإمام أحمد، والمذهب عند الحنابلة، واختارته اللجنة الدائمة، والعثيمين.
دليله: الأول: حديث أبي بصرة – السابق- فيه أن أبا بصرة أكل طعامه بعد ركوبه السفينة وجاوز بلدته، وإن كان يرى بيوتها ولم يغب عنها.
الثاني: أن السفر لا يكون سفرًا بمجرد النية، وإنما بالتحرك والخروج، لهذا لا يصح منه القصر إلا إذا خرج من بلدته، وجاوز بيوتها، فكذلك هنا في الفطر، فهو لازال مقيمًا حتى يغادر بلدته.
وحديث أنس السابق لعل ما أراد أن ينسبه للسنة هو الفطر لمن أراد السفر ولو في أثناء النهار، وأما إفطاره من بيته؛ فهو من اجتهاده، أو يكون محمد بن كعب جاءه، وكان أنس قد برز من البلد خارجًا منها، فأتاه ابن كعب في منزله ذلك خارج البلدة.
الترجيح: مذهب أحمد جاري على المقاييس المعتبرة في أحكام السفر، لكن أنسا أسند فعله كاملًا إلى السنة، والمراد سنة رسول الله ﷺ - كما مر سابقًا-، والأصل تقديم النص على القياس، لكن مع وجود الاحتمالات فيه؛ فالأحوط لمن كان مسافرًا: ألا يفطر حتى يخرج من بلده، والخطب يسير، والأمر سهل.
وأما حديث أبي بصرة فلا يعتمد عليه لضعفه([26]).
فيه خلاف بين العلماء:
القول الأول: لا يجوز له الفطر وقد نوى الصوم في سفره.
وهو قول الحنفية، والمشهور عند المالكية، ووجه للشافعية.
دليله: لأن السفر إنما يبيح عدم الشروع في الصوم، وما دام أنه نوى الصوم؛ فقد شرع فيه، فلا يكون السفر مزيلًا للصوم.
ولأنه دخل في فرض المقيم؛ فلا يجوز له أن يترخص برخصة المسافر، كما لو دخل الصلاة في السفر بنية الإتمام، ثم أراد أن يقصر فلا يصح منه.
القول الثاني: له الفطر في هذه الحالة بغير الجماع.
وهو رواية للإمام أحمد.
دليله: لأن المقصود من الفطر في السفر التقوي على السفر، والجماع لا يقوي على السفر.
القول الثالث: له الفطر ولو نوى الصوم ما دام أنه في سفر، ويفطر سواء بالجماع أو غيره.
وهذا هو المذهب عند الحنابلة، والصحيح عند الشافعية، وقول الظاهرية، وبعض المالكية.
دليله: لأن العذر المبيح للفطر قائم، وهو كونه في سفر، كما لو صام المريض، ثم أراد أن يفطر صح منه، فكذلك المسافر.
ولا يقاس على من دخل في الصلاة بنية الإتمام؛ لأن الصائم إذا أفطر تركه إلى بدل، وهو القضاء، فجاز له، ويشرع له الفطر بالجماع؛ لأن من جاز له الفطر بالأكل والشرب؛ جاز له بغيرهما، فلا فرق.
الترجيح: الراجح: القول الأخير: يجوز له الفطر بكل مفطر، ما دام في سفر؛ لأن الرخصة باقية([27]).
فيه خلاف بين العلماء:
القول الأول: لا يجوز له الفطر في سفر المعصية، ويلزمه الإفطار.
وهو قول المالكية، والشافعية، والحنابلة.
دليله: أن الفطر إنما شرع للمسافر؛ إعانة له على القيام بما يحتاج إليه في سفره، وإباحة الفطر مع سفر المعصية فيه؛ إعانة له على تسهيل أمر المعصية، وعلى القيام بها فتحولت المصلحة إلى مفسدة، وندفع هذه المفسدة بإلزامه بالصوم.
القول الثاني: يباح له الفطر في سفر المعصية.
وهو مذهب الحنفية، والظاهرية.
دليله: قوله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ ﴾ [البقرة: ١٨٤]، فعم سبحانه الأسفار، ولم يخصه بسفر الطاعة، فيشمل سفر الطاعة والمعصية، ولأن مقارفة المعصية لا تمنع المشروع.
الترجيح: لعل القول الثاني أرجح؛ لعموم النص القرآني([28]).
لا خلاف بين العلماء على مشروعية الفطر للمريض، وأنه يجب عليه القضاء بعد ذلك، وقد قال تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ ﴾ [البقرة: ١٨٤].
واختلفوا في حد المرض المجيز للفطر:
القول الأول: بكل ما يسمى مرضًا، حتى من وجع الإصبع أوالضرس، وإن لم توجد مشقة بصومه.
وهو قول بعض السلف، والظاهرية.
دليله: قوله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ ﴾ [البقرة: ١٨٤]، فالآية عامة تشمل كل مريض، ولم تخص مرضًا دون مرض.
ولأن المسافر يباح له الفطر، وإن لم يحتج إليه، وإن لم يشق عليه الصوم، فكذلك المريض فلا فرق، خاصة وقد جمعت الآية بينهما.
القول الثاني: المرض المبيح للفطر هو ما يشق معه الصوم، فيخاف فيه على نفسه لو تمادى على الصوم، أو يخاف فيه على عضو من أعضائه، أو زيادة في المرض الذي بدأ به، أو يخشى تباطؤ برئه.
أما ما عدا كل هذا فيلزمه الصوم، ويرجع معرفة هذا إلى غلبة ظن المريض، أو قول الطبيب المأمون: إن الصوم يضر به.
وهو قول جمهور العلماء، منهم: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
دليله: أن المعتبر بالمرض الذي تقبل الرخصة فيه في العبادات هو ما يحصل للشخص بسببه مشقة وحرج، ويخاف على نفسه الضرر معه، فمثلًا في الصلاة للمريض تسقط أركان الصلاة بالمرض الذي يحصل بسببه ضرر، ويعجزه عن القيام بهذا الركن، ففي الحديث: «صل قائمًا فإن لم تستطع فجالسًا..».
وخالف السفر؛ فإن المعتبر فيه مظنة السفر، ولو لم توجد المشقة؛ لهذا يقصر المسافر الصلاة بغض النظر عن وجود المشقة.
الترجيح: الراجح: مذهب الجمهور: أن المرض الذي يشرع فيه الفطر: الذي يشق على المرء الصوم معه، ويخشى على نفسه الضرر، بسبب البقاء على الصوم.
وقد رجح هذا الشيخ ابن باز([29]).
فالصحيح عند الحنابلة أنه يكره له الصوم في هذه الحالة، ولا يحرم عليه.
لوجوبه عليه أصلًا، وأباح المرض له الفطر.
وقال جماعة من الحنابلة: يحرم عليه الصوم في هذه الحالة، وقد قال تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195]، وقال:﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء:٢٩].
وقال المالكية: يحرم الصوم مع المرض، إذا أدى إلى التلف أو الأذى الشديد، كتعطيل منفعة من سمع وبصر وغيرهما؛ لأن حفظ النفس والمنافع واجب.
الراجح: أنه يأثم في هذه الحالة، ويحرم عليه الصوم، ورجحه ابن عثيمين([30]).
اختلف العلماء هل يلزمه إمساك بقية النهار؟
القول الأول: يجب عليهما إمساك بقية النهار.
وهو قول الحنفية، والصحيح عند الحنابلة.
دليلهم: أن عذرهما المبيح للفطر قد زال، فوجب الصوم عليهما كغيرهما، وأيضًا لحرمة رمضان، فحرمته تقتضي الصوم في نهاره، ولو بعض النهار لمن لا عذر له.
ولحديث عاشوراء في ”الصحيحين“ – كما مر- وفيه: أنهم أمروا بإمساك بقية النهار، وقد أصبحوا مفطرين لا يعلمون بالأمر بصيامه.
القول الثاني: لا يجب عليهما إمساك بقية النهار.
وهو قول المالكية، والشافعية، والظاهرية، ورواية للإمام أحمد.
دليلهم: أنه عبادة وقتها متصل من الفجر إلى غروب الشمس، فلا تصح إلا بالإمساك في جميع وقتها، فلو أفطر أوله وصام بقيته؛ لم يصح صومه، فلا فائدة إذًا من إيجاب إمساك بقيته.
وحرمة رمضان مرفوعة عنهم؛ لوجود العذر، فليس الصيام في حقهم محترمًا.
وحديث عاشوراء بأمرهم بإمساك بقية النهار يستفاد منه وجوب الإمساك على من جهل بدخول الشهر ولم يعلم إلا بالنهار؛ لأنه مأمور بصيام ذلك اليوم، ولو علم أنه من رمضان؛ لصامه.
وأما المسافر والمريض فيعلمان أنه من رمضان، وأن الصيام واجب أصلًا؛ لكنه لم يجب عليهما لوجود العذر فأفطرا مع علمهما بأنه رمضان.
الترجيح: الراجح: القول الثاني: لا يجب عليهم إمساك بقية اليوم، كما لا يلزم على الحائض تطهر في النهار، والكافر يسلم، والصبي يبلغ، والمجنون يعقل أثناء النهار – كما مر سابقا-.
وقد يستحب الإمساك كما نص عليه الشافعية؛ خروجًا من الخلاف، وعملًا بالأحوط، ولحرمة ال
الوقت([1]).
القول الأول: لا يجوز لهما الفطر في هذه الحالة.
وهذا هو الصحيح عند الشافعية، نصوا عليه وهو ظاهر مذهب الحنفية، والحنابلة، فقد أوجبوا على المريض الصوم إذا برأ أثناء النهار ولو كان مفطرًا أول النهار، فمن باب أولى إذا كان صائمًا من أوله مع وجود مرض، وكذلك أوجبوا على المسافر الصوم بقية النهار إذا قدم بلده ولو كان مفطرًا أول النهار بسبب سفره، فمن باب أولى هنا إذا قدم وكان صائمًا أصلًا.
وقال المالكية: إذا قدم المسافر بلده وهو صائم؛ وجب عليه إكمال الصوم، ولا يجوز له الفطر، ولم أقف لهم على كلام في المريض يبرأ في النهار وهو صائم، وأظنهم يرون وجوب إتمام الصوم عليه؛ لأن العلة المذكورة في المسافر تصلح أيضًا في المريض.
ودليل هذا القول: أن العذر قد زال، وهو المرض، أو السفر، وهو صائم من أوله فكيف يجوز له الفطر في آخره ولا عذر له؟ فهو كغيره ممن يجب عليه الصوم، فقد زال سبب الرخصة قبل الترخص، فلم يجز الترخص.
القول الثاني: يجوز لهما الفطر في هذه الحالة.
وهذا وجه للشافعية.
دليله: لأنه أبيح لهما الفطر في أوله فجاز لهما الفطر في بقية النهار، كما لو دام عذر السفر أو المرض.
الترجيح: الراجح: القول الأول: يلزمهما الصوم، ولا يجوز لهما الفطر، فلا عذر هنا في هذه الحالة([2]).
يشرع له الفطر في هذه الحالة، ولو كان صحيحًا مقيمًا؛ لقوله: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة:195]، وقوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [النساء:٢٩].
ويلزمه القضاء؛ لأنه في معنى المرض.
وهذا هو الموجود في المذاهب الأربعة.
وفصل ابن حزم فقال: يفطر، وأما القضاء فبحسبه، فإن كان خرج بذلك إلى حد المرض، فعليه القضاء، وإن كان لم يخرج إلى حد المرض فصومه صحيح، ولا قضاء عليه؛ لأنه في حكم المغلوب المكره المضطر، ولا قضاء على مكره أو مغلوب.
الترجيح: الراجح: القول الأول: يفطر ويقضي([3]).
اختلف العلماء في اللازم عليه:
القول الأول: يلزمه فدية طعام مسكين على كل يوم.
وهو قول جمهور العلماء، بما فيهم: الحنفية، والصحيح عند الشافعية، وقول الحنابلة.
دليله: الآية القرآنية في الصوم ففيها قراءتان:
القراءة الأولى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: ١٨٤]، فعن سلمة بن الأكوع ا قال: «لما نزلت هذه الآية: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِوقونه فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها»([4])، فعلى هذه القراءة يفهم الدليل منها على وجوب الإطعام على العاجز عن الصوم، من كون الناس كانوا في أول الأمر مخيرين بين الصوم والفدية، فلما جعل الله الفدية عديلًا للصوم في مقام التخيير دل ذلك على أنها تكون بديلًا عنه في حالة العجز عن الصوم.
والقراءة الثانية: ﴿وَعَلَى الَّذِين يُطَوَّقُونَه فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِين﴾.
كان ابن عباس يقرأ هكذا، وقال: «ليست بمنسوخة هو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعما مكان كل يوم مسكينًا» ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: ١٨٥]([5]). ومعنى ﴿يُطَوَّقُونَه﴾ أي: يكلفونه فلا يستطيعونه.
وعن ابن عباس ﴿ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﴾ قال: «كانت رخصة للشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، وهما يطيقان الصيام: أن يفطرا، ويطعما مكان كل يوم مسكينا، والحبلى والمرضع إذا خافتا»([6]).
وعن عائشة ك: أنها كانت تقرأ ﴿يُطَوَّقُونَه﴾([7]).
وقال ابن حجر: «وهذه قراءة ابن مسعود أيضًا»([8]).
قلت: ولم أقف على سندها إليه.
فعلى هذه القراءة يكون الله تعالى قد رخص للعاجز عن الصوم: أن يفطر ويطعم، وأن حكم الآية باق في حقه.
والقراءة الأولى أكثر، وهذه القراءة وإن لم تكن متواترة، لكنها ثابتة، فيؤخذ الحكم منها على الصحيح من أقوال أهل العلم: أن القراءة الشاذة يستفاد منها الأحكام، ويعمل بها؛ لأنها تعتبر قراءة ثابتة؛ لأن قارئها يخبر أن رسول الله ﷺ قرأها كذلك، فلا يجوز أن يقرأها هكذا من عند نفسه، فتكون محكمة غير منسوخة في حق العاجز، ومنسوخة في حق القادر على الصوم.
وأيضًا قد صح عن بعض الصحابة، ولا مخالف لهم: أن العاجز عن الصوم يفطر ويطعم.
فعن أنس ا: أنه كبر حتى كان لا يطيق الصيام، فكان يفطر ويطعم([9]).
وعن قيس بن السائب ا: «إن شهر رمضان يفتديه الإنسان أن يطعم عنه لكل يوم مسكينًا، فأطعموا عني مسكينين»([10]).
وجاء عن أبي هريرة([11]).
وأيضًا ما صح عن ابن عباس آنفًا: بأن العاجز كان يطعم، وأن هذا الحكم غير منسوخ.
ورجح هذا القول: اللجنة الدائمة في المملكة العربية السعودية، والشيخ العثيمين.
القول الثاني: لا يجب على العاجز عن الصوم شيء.
وهو قول بعض السلف، والمالكية، والظاهرية، وقول للشافعية.
دليله: الأول: أنه ترك الصوم لعجزه عنه بالمرة، وقال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: ٢٨٦]، فما دام أنه عاجز عنه، فلم يعد مكلفًا به، وبالتالي يسقط عنه فلا يلزمه الفدية.
والثاني: لأنه لا دليل من نص أو إجماع على لزوم الفدية على العاجز عن الصوم، والأموال محرمة إلا بنص أو إجماع.
وما جاء عن بعض الصحابة من القول بالإطعام هنا لا حجة فيه، فهو اجتهاد منهم، والحجة فيما جاء في الكتاب والسنة.
والقول بأن الآية ليست منسوخة في العاجز عن الصوم؛ فغير صحيح، بل منسوخة كما جاء من حديث سلمة بن الأكوع.
وروى البخاري (4/699) بسنده عن ابن أبي ليلى عن أصحاب محمد ﷺ قال: «نزل رمضان فشق عليهم، فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه، ورخص لهم في ذلك فنسختها ﴿وأن تصوموا خير لكم﴾ فأمروا بالصوم».
ويؤيده: أن القراءة المتواترة والتي تقرأ في المصاحف بلفظ: ﴿يُطِيقُونَهُ﴾ أي: يقدرون عليه، وقد قال بعدها: ﴿ ﮏ ﮐ ﮑ ﴾ فلو كانت نزلت في العاجز عن الصوم؛ لما ناسب أن يقال: والصوم خير له؛ لأنه لا يطيق الصوم أصلًا.
الترجيح: الراجح: ما عليه جمهور العلماء: من أفطر لعجزه التام عن الصوم فعليه الفدية، وهي إطعام مسكين عن كل يوم، فالوجهان من القراءة ثابتان، وكل منهما بحسب مدلوله، مع ما صح عن بعض الصحابة في هذا، ولا مخالف لهم.
تنبيه: الإطعام هنا للمسكين الواحد بحسب ما مر في كفارة الجماع، والخلاف هنا بين العلماء في القدر، وشرط التمليك، كالخلاف بينهم هنالك.
فيستحق المسكين الواحد على الأصح نصف صاع من بر أو تمر أو شعير أو أرز، والنصف الصاع يساوي كيلو ونصف.
ويجوز أيضًا صنع الطعام له وجبة واحدة تكفي عشاء أو غداء، وقد ثبت هذا عن أنس ا - كما مر تخريجه في كفارة الجماع في نهار رمضان- فراجعه.
فعن اليوم الواحد إطعام مسكين واحد([12]).
فيه خلاف:
القول الأول: يلزم إطعام عدد من المساكين بعدد الأيام، ولا يجزئ أن يعطي لمسكين واحد مثلًا فدية يومين أو أكثر.
وهو قول للحنفية، ورجحه الشيخ ابن عثيمين.
دليله: الأول: القياس على الإطعام في الكفارات؛ فإنه يشترط فيه استيعاب عدة مساكين، بحسب نوع الكفارة، ففي كفارة اليمين عشرة مساكين ولا بد، وفي كفارة المظاهر إطعام ستين مسكينًا ولا بد، فكذلك هنا لا بد من إطعام عدة مساكين بحسب الأيام التي أفطرها، ولا يجزئ إعطاؤها لبعضهم، ولو أعطاهم عدة مرات بحسب الأيام.
الثاني: أنها جاءت قراءة ثابتة مشهورة: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ هكذا بالجمع – مساكين-، فدلت على أنه لابد من عدة مساكين، فيكون عن كل يوم أفطره يطعم مسكينًا معينًا، فيطعم عن اليوم الأول مسكينًا، وعن اليوم الثاني مسكينًا غيره.
القول الثاني: لا يشترط في الفدية إطعام عدة مساكين، فتجزئ الفدية ولو أعطاها لمسكين واحد يكررها له، بحسب الأيام التي أفطرها.
وهذا قول الشافعية، والحنابلة، وقول للحنفية، ورجحته اللجنة الدائمة.
دليله: الأول: أنه لا دليل على وجوب استيعاب عدة مساكين هنا، بخلاف ما جاء في الكفارات، فقد ذكر فيها عدد المساكين الواجب إطعامهم، أما الإطعام في الفدية هنا فجاءت الآية مطلقة، وليست مقيدة بعدد.
الثاني: لأن كل يوم مستقل بنفسه، فإذا أعطى فدية هذا اليوم لمسكين انتهى ما عليه، فإذا جاء اليوم الثاني لزمه فدية جديدة، ولا دخل لها باليوم الأول، فيجوز إعطاؤها لنفس المسكين، بخلاف الكفارة فهي شيء واحد فيمين واحدة لا بد لها من عشرة مساكين.
الترجيح: الراجح: القول الثاني: أنه لا يشترط عدد من المساكين بحسب عدد الأيام التي أفطرها.
وتخريج الآية عندي التي فيها لفظ الجمع: أن المراد البيان لجنس المستحقين، وهم المساكين، وليست شرطًا في استيعاب مجموعة مساكين في الفدية كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ فمن كانت عليه عدة صدقات فأعطاها لمسكين واحد أجزأه، ويدل على صحة هذا التخريج والله أعلم القراءة الأخرى بالإفراد، وهي ثابتة ﴿ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾([13]).
اختلف العلماء هل تجزئه الفدية السابقة أم يلزمه القضاء؟
القول الأول: إذا قدر على الصوم بعدما أطعم؛ بطلت فديته، ووجب عليه الصوم.
وهذا مذهب الحنفية، ووجه للشافعية، واحتمال للحنابلة.
دليله: أنه يشترط في كون الفدية خلفًا عن الصوم هنا أن يستمر هذا العجز عن الصوم إلى وقت الموت، وهذا كالمعتدة عدة الطلاق بالشهور إذا كانت آيس من الحيض ثم حاضت قبل انتهاء العدة، فإنها تستأنف العدة من جديد بثلاث حيضات.
فعليه: إذا قدر على الصوم -وهو الأصل- قبل حصول المقصود من البديل وهو الفدية بدوام هذا العجز إلى الموت؛ فإنه يستأنف من جديد بقضاء الأيام، ويُلغى ما كان أطعمه من سابق.
القول الثاني: لا يجب عليه الصوم قضاءً للأيام التي أفطرها وكان قد أطعم عنها.
وهذا الصحيح عند الشافعية، والمذهب عند الحنابلة.
دليله: لأنه لما عجز عن الصوم صار الواجب عليه الفدية، فلما أداها؛ كان قد أدى ما يجب عليه، فبرئت ذمته بأداء الفدية التي كانت هي الواجبة عليه، فلم يكلف بفعل ما برئت ذمته منه.
وكل يوم يفدي عنه يكون مستقلًا عن بقية الأيام، والمعتدة الآيس ترجع للحيض إذا حاضت؛ لأن المدة لم تنته؛ لعدم انتهاء العدة، وأما الفدية؛ فقد حصلت وانتهت.
ورجح هذا القول الشيخ ابن باز، ورجحه ابن عثيمين أيضًا.
الترجيح: الراجح القول الثاني: لا يلزمه القضاء بعد أداء الفدية ولو قدر على الصوم بعد ذلك.
واشتراط بقاء العجز -ولا بد- لا دليل عليه، إنما يشترط أن يغلب على ظنه أن عجزه دائم مستمر ولن يقدر على الصوم، فهذا يكفيه، فإن قدر بعد هذا؛ فتصح فديته، وهو كمن عجز عن الحج فناب عنه غيره، ثم قدر عليه لم يلزمه الحج بنفسه، وكمن صام لعجزه عن هدي التمتع ثم قدر على الهدي، لم يلزمه الهدي، وكمن صلى بالتيمم قبل خروج الوقت ثم استطاع للماء، فلا يلزمه القضاء، وكمن صام في كفارة اليمين، ثم قدر على الإطعام، فلا يلزمه الإطعام([14]).
اختلفوا إذا عجز عن الإطعام هل يبقى في ذمته إلى حين القدرة؟
القول الأول: تسقط الفدية هنا عند العجز عن أدائها في وقتها.
القول هذا: وجه عند الشافعية، ووجه عند الحنابلة، ورجحه الشيخ ابن عثيمين.
دليله: وذلك لأنه عاجز حال التكليف بالفدية، وليست هي مقابل جناية ونحوها، كمن عليه كفارة جماع أو ظهار أو يمين، فأشبهت الفدية هنا الفطرة؛ حيث تسقط عمن عجز عن إخراجها في وقتها، ولأن الإطعام لا بديل له هنا حتى يلجأ إليه عند العجز عنه، فلا يلزمه، ويسقط عنه فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
القول الثاني: لا تسقط فدية الإطعام هنا، وتلزمه متى أيسر.
وهذا هو الأصح عند الشافعية، والصحيح عند الحنابلة.
دليله: أن الإطعام هنا في حقه كالقضاء على من أفطر بسبب سفر أو مرض، فمتى قدرا على قضاء الصوم لزمهما، فكذلك الإطعام على العاجز متى قدر عليه لزمه، ولأن حق الله المالي إذا عجز عنه العبد وقت الوجوب يثبت في ذمته ما دام متسببًا بها كالكفارات والنذور والزكوات، والفدية هنا كذلك لزمت عليه بسبب فطره، فتثبت في ذمته بخلاف زكاة الفطر.
الترجيح: الراجح: القول الثاني: أنها تلزمه متى استطاع، ولا دليل على سقوطها عنه([15]).
قال الحنفية: يخير بين دفعها في أول الشهر أو في آخره.
وقال الشافعية: لا يجوز تعجيلها قبل دخول رمضان، ويجوز بعد طلوع فجر كل يوم، وأما قبل الفجر في رمضان ففيه احتمالان، قال النووي: والصواب جوازه أيضًا.
وقال الشيخ ابن عثيمين: «أما وقت الإطعام فهو بالخيار، إن شاء فدى عن كل يوم بيومه، وإن شاء أخر إلى آخر يوم لفعل أنس ا، ولا يقدم الفدية قبل ذلك؛ لأن تقديم الفدية كتقديم الصوم، فهل يجزئ تقديم الصوم في شعبان؟ الجواب: لا يجزئ»([16]).
فتخاف الحامل على نفسها من المرض والضعف، وتخاف على ولدها أن يَضُرَّ بِهِ الجوع.
وتخاف المرضع على نفسها إذا صامت بأن يضعفها الإرضاع، أو تخاف على ولدها إذا صامت يتغير اللبن أو ينقص فيتضرر الرضيع.
ولا خلاف بين العلماء على جواز الفطر لهما في هذه الحالات؛ لحديث أنس بن مالك الكعبي ا قال: أتيت النبي ﷺ وهو يتغدى فقال لي: «هلم إلى الغداء» فقلت: إني صائم. فقال النبي ﷺ : «إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة وعن الحبلى والمرضع»([17]).
القول الأول: يلزم عليهما الإطعام، عن كل يوم إطعام مسكين، ولا قضاء عليهما.
ثبت هذا عن ابن عباس من طريقين:
الأولى: عن عكرمة قال: قال ابن عباس في قوله: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ قال: «أثبتت للحبلى والمرضع»([18]).
الثانية: عن سعيد جبير، قال في قوله: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ﴾ قال ابن عباس: «رخص للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة في ذلك وهما يطيقان، ورخص لهما: أن يفطرا إن شاءا، ويطعما مكان كل يوم مسكينًا، ثم نسخ ذلك في هذه الآية ﴿ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ﴾ [البقرة: ١٨٥]، وثبتت الرخصة للشيخ، والعجوز إذا كان لا يطيقان الصوم، والحبلى والمرضع، إذا خافتا أفطرتا وأطعمتا مكان كل يوم مسكينًا، ولا قضاء عليهما»([19]).
وثبت عن ابن عمر، فروى نافع عنه أنه قال: «الحامل إذا خشيت على نفسها تفطر، وتطعم، ولا قضاء عليها».
وفي لفظ: «الحامل إذا خافت على ولدها تفطر وتطعم».
وفي لفظ: أن امرأة سألته وهي حبلى فقال لها: «أفطري، وأطعمي، كل يوم مسكين».
وكل هذه الألفاظ صحيحة عنه([20]).
وقال به بعض التابعين، ورجحه الألباني؛ لحديث ابن عباس السابق، فقوله: «ثبتت في الحامل والمرضع» دليل على أن ذلك من السنة؛ لهذا أعطاهما ابن عباس هذا الحكم من قوله إن الآية منسوخة.
القول الثاني: الحامل تفطر، وتقضي، ولا تطعم، والمرضع تفطر، وتقضي، وتطعم.
وهو مذهب المالكية في المشهور عندهم، وقول للشافعية.
دليله: أن الحمل متصل بالحامل، فالخوف عليه كالخوف على بعض أعضائها، فأشبهت المريض، والمريض إذا أفطر فعليه القضاء فقط.
أما المرضع فجمعت بين حكم المريض؛ لخوفها على نفسها، وحكم الذي يجهده الصوم؛ لخوفها على طفلها، فتقضي وتطعم.
القول الثالث: إن خافت الحامل والمرضع على أنفسهما؛ أفطرتا، وعليهما القضاء فقط، وإن خافتا على ولدهما؛ أفطرتا، وعليهما القضاء، والإطعام أيضًا.
وهذا هو الصحيح عند الشافعية، والصحيح عند الحنابلة.
دليله: أنهما إذا خافتا على أنفسهما فهما بحكم المريض الخائف على نفسه، والمريض يلزمه القضاء فقط.
وإذا خافتا على ولدهما؛ فعليهما القضاء؛ لقدرتهما على القضاء بعد ذلك، فأشبهتا المريض والمسافر، إذا أفطرا عليهما القضاء، ويلزمهما الفدية أيضًا؛ لأن إفطارهما بسبب نفس عاجزة عن الصوم، وهو الطفل، والعاجز عن الصوم يلزمه الإطعام، كما في الشيخ الكبير، والمرأة العجوز، وقد مر عن ابن عباس أن قوله تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ : أنها ثبتت في الشيخ الكبير، والعجوز، فيطعمان، والحامل والمرضع إذا خافتا أفطرتا وأطعمتا.
القول الرابع: يلزمهما القضاء فقط، سواء خافتا على أنفسهما، أو على ولدهما، أو على أنفسهما وولديهما، ولا فدية عليهما بحال.
وهو قول جماعة من السلف، ومذهب الحنفية، وقول بعض المالكية، وقول للشافعية، ورجح هذا اللجنة الدائمة، والشيخ العثيمين، وشيخنا الوادعي.
دليله: الأول: أنهما أفطرتا لعذر، ويطيقان القضاء، فأشبهتا المسافر والمريض والحائض، فيلزم عليهما القضاء مثلهم، وإنما الإطعام على العاجز عن القضاء، وليستا كذلك.
الثاني: أنهما ذكرتا مع المسافر في حديث أنس الكعبي – السابق-، فدل ذلك على أنهما بحكمه، والمسافر يقضي فقط، ولا يطعم.
والقول بالفدية لعجز الطفل، فيقاس على الهرم: ليس بقياس صحيح؛ لأن الطفل لا يجب عليه الصوم أصلًا حتى تلزمه الفدية؛ لعجزه، بل الصوم على أمه، وهي قادرة على القضاء.
والإلزام بالفدية مع القضاء باطل؛ إذ إنه جمع بين البدل والمبدل عنه.
وما جاء عن بعض الصحابة؛ فهو اجتهاد منهم، فلا حجة فيه، وقد جاء عن عطاء عن ابن عباس قال: «تفطر الحامل والمرضع وتقضيان صيامًا ولا تطعمان»([21])، فعكرمة وابن جبير رويا عنه الإطعام، وعطاء روى عنه القضاء.
القول الخامس: يلزم عليهما القضاء، والإطعام معًا في كل الأحوال.
وهو قول مجاهد بن جبر، ورواية مشهورة للإمام أحمد، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية.
دليله: أما القضاء فلأنهما قادرتان عليه؛ فلا يصح أن يسقط عنهما مع القدرة.
وأما الفدية فتلزم لأمور:
الأول: أن الحامل والمرضع تركتا الصوم مع القدرة عليه في الحال؛ فكأنهما ممتنعتان عن الصوم باختيارهما، مع جواز الفطر، والحمل والرضاع في الأصل باختيارهما، فصارتا كأنهما ممتنعتان عن الصوم باختيارهما، فليستا كالمريض الذي خوفه من جهة نفسه، فصارت كحال من كان يطيق الصوم، لكنه لم يجب عليه، بل مخير بين الصوم والفدية، فإذا أفطرتا هنا لزمهما الفدية.
الثاني: أنهما أفطرتا مع خوفهما على نفسهما، وأيضًا أفطرتا لمصلحة الغير، وهو الولد، والخوف عليه، وهو في حكم العاجز عن الصوم، ومثل هذا عليه الفدية.
الثالث: الإطعام صح عن ابن عباس وابن عمر، ولا يعلم لهما مخالف، فوجب الأخذ به، وأما القضاء فللقدرة عليه، وأمره واضح.
القول السادس: لا شيء عليهما، لا قضاء، ولا إطعام.
وهو قول ابن حزم.
دليله: لعدم وجود دليل على وجوب شيء عليهما من قضاء أو إطعام، كالعاجز عن الصوم لا شيء عليه – كما مر-.
الترجيح: القول بوجوب القضاء والفدية دليلهم أقوى؛ فالأخذ به أولى، ولو من باب الاحتياط، والخروج من الخلاف.
ويلاحظ في المسألة: أن أكثر العلماء يرون القضاء على المرضع والحامل سواء خافتا على أنفسهما أو ولدهما، والإطعام عند كثير منهم فيه تفصيل.
وما جاء عن ابن عباس فهو من فهمه وفقهه، وليس من المرفوع، والله أعلم.
فهي رخصة للجميع ثم نسخت؛ فبقاؤها في حق الشيخ الكبير والعجوز واضح لعجزهما عن الصوم، وبقاؤها في حق الحامل والمرضع لا دليل عليه من نص أو معنى؛ لعدم عجزهما عن الصوم([22]).
فيه خلاف بين العلماء:
القول الأول: يجب عليه قضاء اليوم الذي أفطره.
وهو قول جمهور العلماء، بما فيهم الأئمة الأربعة، ورجحه الشيخ ابن باز.
دليله: الأول: أن رسول الله ﷺ أمر بعض من أفطر عمدًا أن يقضي، فكذلك كل من أفطر عمدًا بأي مفطر.
فسبق من حديث أبي هريرة: أن من استقاء عمدًا فليقض يومًا.
وأيضًا أمر المجامع في نهار رمضان مع الكفارة أن يقضي يومًا مكانه([23]).
الثاني: أن الصوم كان ثابتًا في الذمة؛ فلا تبرأ منه إلا بأدائه، فإذا قضى يومًا مكانه؛ برئت ذمته، وإن كان آثمًا على الإفطار في نهار رمضان بغير عذر.
الثالث: لأنه يجب عليه القضاء إذا أفطر لعذر، فمن باب أولى إذا أفطر عامدًا.
القول الثاني: لا يلزمه القضاء إذا أفطر عامدًا بأي مفطر كان.
وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: «إنه قول طائفة من السلف، كأبي عبد الرحمن صاحب الشافعي، وداود الظاهري»اهـ
وأيضًا اختاره ابن حزم.
وقال ابن حجر: «ذهب قوم إلى عدم القضاء في الفطر عامدًا، وأشار البخاري بالآثار التي ذكرها إلى أن إيجاب القضاء مختلف فيه بين السلف»اهـ.
دليله: الأول: ما جاء عن أبي هريرة ا: أنه قال: قال رسول الله ﷺ: «من أفطر يومًا من رمضان من غير رخصه ولا مرض؛ لم يقض عنه صوم الدهر كله، وإن صامه»([24]).
الثاني: أنه جاء عن بعض الصحابة كأبي هريرة – سبق-.
وعن ابن مسعود قال: «من أفطر يومًا من رمضان من غير رخصة؛ لم يجزه صيام الدهر كله»([25]).
وجاء عن علي ا قال: «من أفطر يومًا متعمدًا؛ لم يقضه أبدًا طوال الدهر»([26])
الثالث: لأنها عبادة مؤقتة، فإذا تعمد الإنسان إخراجها عن وقتها بلا عذر؛ فقد وقع بالإثم، فلا تقبل منه في غير وقتها، وإنما يكتفي بالتوبة والعمل الصالح والنوافل، فكما أن العبادة المؤقتة لا تفعل قبل وقتها، ولا تصح فكذلك، لا تفعل بعد وقتها، ولا تصح.
وأما أمر من تقيأ عمدًا بالقضاء – فعلى صحته-؛ فإنما أمره بالقضاء؛ لأن الإنسان إنما تقيأ عامدًا لعذر من أذى ووجع، فيتداوى بالقيء، فهو كالمريض، ففعله هذا جائز، فيصير من جملة المرضى الذين يفطرون، ويلزمهم القضاء، وليس هو من أهل المعاصي الذين أفطروا بغير عذر.
وأمره للمجامع بالقضاء لا يصح كما سبق.
ورجح هذا القول الشيخ ابن عثيمين.
الترجيح: القول بعدم وجوب القضاء أصوب؛ لقوة ما استدلوا به.
ومذهب الجمهور أحوط([27]).
([1]) مراجع: ”فتح باب العناية“ (1/590)، ”حاشية الدسوقي“ (2/137)، ”المجموع“ (6/262)، ”المغني“ (4/387)، ”الإنصاف“ (3/283)، ”المحلى“ (مسألة/760)، ”الممتع“ (6/335).
([2]) مراجع: المراجع السابقة في المسألة التي قبل، وأيضًا ”مواهب الجليل“ (3/382).
([3]) مراجع: ”فتح القدير“ (2/350)، ”حاشية ابن عابدين“ (3/359)، ”حاشية الدسوقي“ (2/137، 170)، ”المجموع“ (6/258)، ”كشاف القناع“ (2/310).
([4]) رواه البخاري (4507) ومسلم (1145).
([5]) رواه البخاري (4505)
([6]) سنده صحيح: رواه أبو داود (2318)
([7]) سنده صحيح: رواه عبد الرزاق (4/222) ومن طريقه البيهقي (4/271).
([8]) ”الفتح“ (9/35).
([9]) سنده صحيح: رواه عبد الرزاق (4/220)، وبسند آخر صحيح عند الدارقطني (2/207)، وابن سعد في ”الطبقات“ (7/25) بسند ثالث حسن.
([10]) سنده صحيح: رواه البيهقي (4/271).
([11]) في سنده ضعف: عند البيهقي (4/271) بنحو الذي قبله.
([12]) مراجع: ”فتح القدير“ (2/356)، ”بداية المجتهد“ (1/301)، ”تفسير القرطبي“ (1/287)، ”المجموع“ (6/258، 259)، ”الإنصاف“ (3/284)، ”المغني“ (4/395)، كتاب الصيام ”شرح العمدة“ (1/258)، ”المحلى“ مسألة/770)، ”الممتع“ (6/325، 337)، ”فتاوى اللجنة الدائمة“ (10/160).
([13]) مراجع: ”حاشية ابن عابدين“ (3/366)، ”المجموع“ (6/372)، ”الإنصاف“ (3/291)، ”تفسير الطبري“ (3/440)، ”الممتع“ (6/340)، ”فتاوى اللجنة الدائمة“ (23/21).
([14]) مراجع ”حاشية ابن عابدين“ (3/366)، ”فتح القدير“ (2/356)، ”النجم الوهاج في شرح المنهاج“ (3/339)، ”المغني“ (4/396)، ”الإنصاف“ (3/285، 405)، ”كشاف القناع“ (2/310)، ”الممتع“ (6/449)، ”مجموع فتاوى ابن باز“ (15/354).
([15]) مراجع: ”المجموع“ (6/259)، ”مغني المحتاج“ (1/593)، ”الإنصاف“ (3/291)، ”الممتع“ (6/340)، ”المغني“ (4/396).
([16]) مراجع: ”حاشية ابن عابدين“ (3/366)، ”المجموع“ (6/260)، ”الممتع“ (6/326).
([17]) رواه أحمد (4/347)، وأبو داود (2408)، والترمذي (715)، وابن ماجه (1667)، والبيهقي (4/231)، وغيرهم عن عبد الله بن سوادة عن أنس به.
ورواه النسائي في ”المجتبى“ (4/190)، والسنن ”الكبرى“ (2636)، والبيهقي (3/154و4/231) عن عبد الله بن سوادة عن أبيه عن أنس به.
وهذه الطريق أصح والسند حسن متصل، وقال الألباني: «إسناده جيد» كما في المشكاة (2025).
وله طريق أخرى عن أبي قلابة عن رجل عن أنس به. رواه أحمد (5/29)، والنسائي (4/180)، وابن خزيمة (2042)، والبيهقي (4/231)، وغيرهم، وفيها هذا الرجل المبهم.
([18]) إسناده صحيح: رواه أبو داود (2317)، ورواه الطبري في ”تفسيره“ (3/426) مطولًا.
([19]) سنده صحيح: رواه الطبري في تفسيره (3/425) والدارقطني (2/205) والبيهقي (4/230) وهو عند أبي داود مختصرًا (2318).
([20]) روى أثر ابن عمر عبد الرزاق (4/218)، والطبري في ”تفسيره“ (3/428)، والدارقطني (2/207)، والبيهقي (4/230)، وابن حزم في ”المحلى“ (4/411).
([21]) سنده صحيح: رواه عبد الرزاق (4/218).
([22]) مراجع: ”حاشية ابن عابدين“ (3/359، 361)، ”فتح القدير“ (2/355)، ”مواهب الجليل“ (3/383) ”حاشية الخرشي“ (3/56)، ”بداية المجتهد“ (1/301)، ”المجموع“ (6/268)، ”تفسير الطبري“ (3/425)، ”المغني“ (4/390)، كتاب الصيام ”شرح العمدة“ (1/245)، ”المحلى“ مسألة (770)، ”الممتع“ (6/347)، ”فتاوى اللجنة الدائمة“ (10/219)، ”الإرواء“ (4/24).
([23]) حديث ضعيف: فقد جاء من طرق متعددة عن رسول الله ﷺ: أنه قال للمجامع: «واقض يومًا مكانه»، رواه مالك في ”موطئه“ (1/311)، وعبد الرزاق (4/695)، وابن أبي شيبة (2/347)، وأبو داود (2393)، والبيهقي (4/226)، والدارقطني (2/210 وما بعده) وغيرهم.
وهذه الطرق كلها ضعيفة، ولا تصح هذه الزيادة، فقصة المجامع في نهار رمضان واحدة، وهي في ”الصحيحين“ من حديث أبي هريرة وعائشة م، وليس في حديثهما هذه الزيادة، وأيضًا في خارج ”الصحيحين“.
وما جاء في بعض طرق حديث أبي هريرة خارج ”الصحيحين“ بهذه الزيادة؛ فهو شاذ أو منكر.
وضعفه ابن تيمية فقال: «وأما أمره للمجامع بالقضاء؛ فضعيف، ضعفه غير واحد من الحفاظ، وقد ثبت هذا الحديث من غير وجه في ”الصحيحين“ من حديث أبي هريرة وعائشة، ولم يذكر أحد أمره بالقضاء، ولو كان أمره بذلك لما أهمله هؤلاء كلهم، وهو حكم شرعي يجب بيانه» اهـ ”مجموع الفتاوى“ (25/225).
وضعفه ابن حزم وابن القيم. انظر ”المحلى“ (4/309) ”تهذيب السنن“ (7/19) مع ”عون المعبود“.
وصحح هذه الزيادة الشيخ الألباني في ”الإرواء“ برقم (940).
وقال الحافظ ابن حجر: «بمجموع هذه الطرق تعرف أن لهذه الزيادة أصلًا». ”الفتح“ (4/680).
([24]) سنده ضعيف: رواه أحمد (2/386، 442)، وابن أبي شيبة (2/347)، والترمذي (723)، وأبو داود (2396)، وعبدالرزاق (4/198)، وغيرهم. وضعفه الألباني في ”ضعيف الترمذي“ (رقم/115).
لكن قال ابن حزم: «روي بأصح طريق عن علي بن الحسين عن أبي هريرة موقوفًا عليه». ”المحلى“ (4/312).
فإن كان كما قال فسنده صحيح إلى أبي هريرة، وإلا؛ فقد رواه النسائي في ”الكبرى“ (3271) عن علي بن الحسين عن أبي هريرة به موقوفًا، وسنده ضعيف.
وله طريق أخرى إلى أبي هريرة بنحوه موقوفًا عليه رواها النسائي في ”الكبرى“ (3272)، وسندها ضعيف أيضًا.
([25]) سنده حسن إن شاء الله: رواه ابن أبي شيبة (2/347)، وعبد الرزاق (4/199)، والبيهقي (4/228)، وله طريق أخرى عند البيهقي، وسندها ضعيفة جدًا.
([26]) سنده ضعيف جدًا: رواه ابن أبي شيبة (2/348).
([27]) مراجع المسألة: ”فتح باب العناية“ (1/568)، ”حاشية الخرشي“ (3/59)، ”المجموع“ (6/329، 344)، ”فتح الباري“ (6/660، 666، 680)، ”المغني“ (4/365)، ”الفتاوى“ (25/225)، ”الاختيارات العلمية“ (ص/53)، ”المحلى“ (مسألة رقم/735)، ”فتاوى ابن باز“ (15/332)، ”الممتع“ (6/400)، ”فتاوى أركان الإسلام“ للعثيمين (ص/455).
([1]) رواه البخاري (1946) ومسلم (1115).
([2]) رواه مسلم (1114).
([3]) سنده ضعيف: رواه ابن ماجة (1666) هكذا مرفوعًا، ورواه ابن أبي شيبة (2/279)، والنسائي (4/183) موقوفًا من قول عبد الرحمن بن عوف، والموقوف أصح، ومع هذا في إسناده انقطاع، فعليه لا يصح مرفوعًا ولا موقوفًا.
وانظر ”سنن البيهقي“ (4/244) و”فتح الباري“ لابن حجر (4/695).
وضعف الألباني المرفوع، وصحح الموقوف، كما في ”الضعيفة“ (رقم/498).
([4]) سنده ضعيف: رواه ابن أبي شيبة (2/282) وعبد الرزاق (2/567) والطحاوي في ”معاني الآثار“ (2/63) وغيرهم.
([5]) رواه مسلم (1113) بهذا اللفظ، ورواه البخاري (1944) دون قوله: «وكان أصحاب رسول الله r ...»
([6]) رواه البخاري (1943) ومسلم (1121).
([7]) رواه البخاري (1947) ومسلم (1118).
([8]) رواه مسلم (1116).
([9]) رواه مسلم (1120).
([10]) ”المبسوط“ (3/516)، ”حاشية الدسوقي“ (2/138)، ”المجموع“ (6/264)، ”فتح الباري“ (4م693-694)، ”المغني“ (4/406)، ”المحلى“ (مسألة/762)، ”الفتاوى“ لابن تيمية (25/210).
([11]) رواه مسلم (7/204).
([12]) سنده صحيح إن ثبت اتصاله: رواه أحمد (2/336)، وابن شيبة (2/279)، والنسائي في ”المجتبى“ (4/177)، وابن خزيمة (2031)، والبيهقي (4/246)، وغيرهم.
وقد اختلف في وصله وإرساله، قال النسائي كما ”سننه“ ”الكبرى“ (2584): «الموصول خطأ، والصوب مرسلًا». اهـ وقد صحح الألباني / وصله كما في ”الصحيحة“ (85).
([13]) سنده ضعيف مرسل: رواه ابن أبي شيبة (2/204)، وعبد الرزاق (2/566).
([14]) رواهما ابن أبي شيبة (2/279).
وصح عن ابن عمر أنه كان يفطر في السفر. رواه عبد الرزاق (2/564).
وعنه أيضًا قال: «لأن أفطر في السفر فآخذ برخصة الله أحب إلي من أن أصوم» رواه ابن سعد في ”الطبقات“ (4/148) والبيهقي (4/245) وسنده صحيح.
([15]) رواه البخاري (1945) ومسلم (1122).
([16]) رواه مسلم (7/202)
([17]) سنده صحيح: رواه ابن أبي شيبة (2/280)، والبيهقي (4/301)، وبنحوه عند عبد الرزاق (2/570) .
([18]) سنده صحيح: رواه ابن أبي شيبة (2/280) والبيهقي (4/301).
([19]) رجال سنده ثقات: انظر المصدرين السابقين.
([20]) مراجع المسألة: ”فتح باب العناية“ (1/584)، ”حاشية الدسوقي“ (2/138)، ”المجموع“ (6/265) ”شرح مسلم“ (7/201)، ”فتح الباري“ (4/693، 695)، ”المغني“ (4/406)، ”الإنصاف“ (3/287) كتاب الصيام ”شرح العمدة“ (1/210)، ”السلسلة الصحيحة“ للألباني (1/169، 377)، ”الممتع“ (6/342).
([21]) مراجع للمسألة: ”حاشية ابن عابدين“ (3/359)، ”حاشية الدسوقي“ (2/169)، ”المجموع“ (6/261، 263) ”شرح مسلم“ (4/24)، ”المغني“ (4/345، 389)، ”المحلى“ (مسألة/762)، ”الإنصاف“ (3/287)، ”الموسوعة الكويتية“ (28/47)
([22]) سنده صحيح: رواه الترمذي (799)، والدارقطني (2/187)، والبيهقي (4/247) وغيرهم، من طريق محمد بن جعفر –ثقة- وتابعه عبد الله بن جعفر المدني – ضعيف- عن زيد بن أسلم عن محمد بن المنكدر عن محمد بن كعب به.
وجاء من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن زيد بن أسلم عن ابن المنكدر عن محمد بن كعب بنفس القصة وفي آخره فقلت له: سنة؟ فقال: «لا» ثم ركب. رواه ابن عبد البر في ”الاستذكار“ (10/89).
وعبد العزيز الدراوردي صدوق، ومحمد بن جعفر هو ابن أبي كثير ثقة، وتوبع أيضًا فروايته أرجح، فيصح الحديث بقوله: «سنة أو نعم». وبهذا خلص الشيخ الألباني في رسالة له أسماها ”تصحيح حديث إفطار الصائم قبل السفر بعد الفجر ورد على من أعله“.
([23]) سنده ضعيف: رواه أحمد (6/7)، وأبو داود (2/24)، والبيهقي (4/246)، وابن خزيمة (240)، وهذا الحديث مع ضعفه يشهد له حديث أنس السابق، لهذا حكم الشيخ الألباني في رسالته السابقة والشيخ شعيب الأرنؤوط في تحقيقه لـ”مسند أحمد“ على حديث أبي بصرة الغفاري بأنه: حسن لغيره.
([24]) مراجع: ”حاشية ابن عابدين“ (3/370)، ”حاشية الدسوقي“ (2/169)، ”مواهب الجليل“ (3/382)، ”المجموع“ (6/261)، ”المحلى“ المسألة (763)، ”فتح الباري“ (4/691)، ”المغني“ (4/345)، ”الإنصاف“ (3/289)، ”زاد المعاد“ (2/55)، ”تهذيب السنن“ لابن القيم (3/1172وما بعدها) ”تفسير القرطبي“ (3/131)، ”سبل السلام“ (2/258)، ”الممتع“ (6/345)، ”فتاوى اللجنة الدائمة“ (10/297) رسالة الألباني السابقة.
([25]) ”الاستذكار“ (10/89).
([26]) مراجع: ”المغني“ (4/347)، ”الإنصاف“ (3/289)، ”المحلى“ مسألة/763)، و”سنن الترمذي مع عارضة الأحوذي“ (4/11)، ”التمهيد“ لابن عبد البر (22/50)، ”الممتع“ (6/346)، ”رسالة الشيخ الألباني في تصحيح حديث إفطار الصائم قبل سفره بعد الفجر“ (ص/34)، ”فتاوى اللجنة الدائمة“ (10/297).
([27]) مراجع: ”حاشية ابن عابدين“ (3/371)، ”حاشية الدسوقي“ (2/169)، ”المجموع“ (6/261)، ”مواهب الجليل“ (3/382)، ”المغني“ (4/347)، ”الإنصاف“ (3/288)، ”المحلى“ مسألة (763).
([28]) مراجع: ”حاشية ابن عابدين“ (3/359)، ”مواهب الجليل“ (3/377)، ”المجموع“ (6/261)، ”المغني“ (3/113)، ”المحلى“ (مسألة/762).
([29]) مراجع: ”حاشية ابن عابدين“ (3/360)، ”فتح القدير“ (2/350)، ”حاشية الدسوقي“ (2/170)، ”المجموع“ (6/258)، ”شرح مسلم“ للنووي (8/18)، ”فتح الباري“ (9/34)، ”المغني“ (4/389، 403)، ”الإنصاف“ (3/285)، ”الفتاوى الشرعية في المسائل الطبية“ لابن باز (ص/37).
([30]) مراجع: ”الإنصاف“ (3/286)، ”مواهب الجليل“ (3/383)، ”الموسوعة الكويتية“ (28/45)، ”الممتع“ (6/341).