فيه مسائل:
هي الليلة التي أنزل فيها القرآن، قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾.
وسميت ليلة القدر؛ لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة من أمور، قال تعالى: ﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾.
ومن فضائلها:
1- أن العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، قال تعالى: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ .
2- قيامها سبب لتكفير الذنوب، فعن أبي هريرة ا قال: قال رسول الله ﷺ: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»([1]).
أجمع العلماء على أن ليلة القدر باقية دائمة إلى يوم القيامة؛ للأحاديث الصريحة في الحث على طلبها وقيامها – كما سيأتي-.
وأما حديث عبادة بن الصامت ا قال: خرج النبي م ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: «خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى رجلان فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة»([2])، فالمراد برفعها في الحديث رفع علمه ﷺ بعينها ذلك الوقت، وليس المراد رفع وجودها؛ إذْ لو كان هذا المراد لم يأمر بالتماسها في الأيام التي ذكرها.
وخالفت الرافضة فقالت: برفعها أصلًا([3]).
القول الأول: هي ممكنة في السنة كلها، وليس في رمضان خاصة.
وهو قول بعض السلف، وبعض الحنفية، وقول للمالكية.
دليلهم: ما جاء عن ابن مسعود ا: أنه كان يقول: «من يقم الحول يصب ليلة القدر»([4]).
القول الثاني: أنها في رمضان فقط.
وهو قول جمهور العلماء.
دليلهم: قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة:١٨٥]، وقد قال أيضًا: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ فتبين من مجموع الآيتين: أنه أنزل في ليلة القدر في رمضان.
والأحاديث الكثيرة المصرحة بالتماسها بالعشر الأواخر من رمضان، لما سيأتي.
وما جاء عن ابن مسعود قد أخبر به أبي بن كعب فقال: «إن ابن مسعود أراد أن لا يتكل الناس، وإنه قد علم أنها في رمضان»([5]).
القول الأول: هي ممكنة في جميع ليالي رمضان.
القول هذا هو المشهور عند الحنفية، ووجه للشافعية، وقول للمالكية، وبعض الحنابلة.
دليلهم: حديث ابن عمر م: سئل رسول الله ﷺ عن ليلة القدر فقال: «هي في كل رمضان»([6]).
وما جاء أنها في العشر الأواخر منه فهذا في ذلك الوقت.
القول الثاني: أنها في أول ليلة من الشهر وآخر ليلة منه، والوتر من ليالي رمضان.
فعن أبي العالية أن رسول الله ﷺ قال: «اطلبوها في أول ليلة أو آخر ليلة وفي الوتر من الليالي»([7]).
القول الثالث: أنها في العشر الأواخر من رمضان فقط، ولا تكون قبل العشر الأواخر.
وهو قول الجمهور، وهو الصحيح عند الشافعية، والمذهب عند الحنابلة، وقول للمالكية، والظاهرية.
دليلهم: الأحاديث الكثيرة التي نصت على هذا، منها:
حديث عائشة أن الرسول ﷺ قال: «التمسوها – يعني ليلة القدر- في العشر الأواخر من رمضان»([8]).
وكان رسول الله ﷺ يعتكف في كل سنة العشر الأواخر من رمضان خاصة.
وأما حديث ابن عمر فالصواب وقفه – كما مر- وأيضًا يحمل على أنه أراد أن يبين أنها في جميع الرمضانات، لا تختص ببعض الرمضانات في بعض السنين، فقوله: «في رمضان كله» أي في رمضان من كل سنة.
الترجيح: الراجح: أنها في العشر الأواخر خاصة من رمضان([9]).
أي في إحدى وعشرين، وثلاثة وعشرين، وخمس وعشرين، وسبعة وعشرين، وتسعة وعشرين.
القول الأول: الجمهور وهو الصحيح عند الشافعية والمذهب عند الحنابلة.
قالوا: لا يلزم ذلك بل هي ممكنة، ومحتملة في العشر الأواخر كلها: وترها وشفعها، وهي في الوتر أوكد.
وعن ابن عباس مقال: قال رسول الله ﷺ: «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى»([10]).
فعلى هذا الحديث: إذا كان الشهر تسعة وعشرين؛ فهي في تاسعة تبقى، أي في ليلة إحدى وعشرين، وفي سابعة تبقى أي: في ليلة ثلاثة وعشرين، وفي خامسة تبقى أي: في ليلة خمس وعشرين، وإذا كان الشهر ثلاثين، فهي في ليلة الثاني والعشرين؛ لأنها تاسعة تبقى، وفي ليلة أربع وعشرين؛ لأنها سابعة تبقى، وفي ستة وعشرين؛ لأنها خامسة تبقى.
وحديث أبي بكرة ا قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «التمسوها في العشر الأواخر من تسع يبقين، أو سبع يبقين، أو خمس يبقين، أو ثلاث يبقين، أو آخر ليلة»([11]).
وهذا كذلك: سيكون في إحدى وعشرين أو في اثنين وعشرين الخ بحسب نقصان الشهر وإتمامه.
وقد فسره بهذا أبو سعيد الخدري ا، فنقل عن رسول الله ﷺ: «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» قال أبو نضرة: يا أبا سعيد إنكم أعلم بالعدد منا. قال: «أجل نحن أحق بذلك منكم». قال: قلت ما التاسعة والسابعة والخامسة ؟ قال أبو سعيد: «إذا مضت واحدة وعشرين، فالتي تليها ثنتين وعشرين وهي التاسعة، فإذا مضت ثلاث وعشرون، فالتي تليها السابعة، فإذا مضى خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة»([12]).
وما جاء من الحث على تحريها في الوتر من العشر الأواخر كحديث عائشة ك قالت: قال رسول الله ﷺ : «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان»([13]).
وحديث أبي سعيد ا قال: قال رسول الله ﷺ: «التمسوها في العشر الأواخر في كل وتر»([14])؛
فالجواب عليه:
الأول: أن الوتر هنا بحسب نقصان الشهر واكتماله، فإذا كان الشهر ثلاثين؛ كان الوتر باعتبار ما بقي فتكون ليلة القدر في ليالي الشفع، وإذا كان الشهر تسعًا وعشرين كان الوتر باعتبار ما مضى فتطلب في ليلة إحدى وعشرين الخ، والتاريخ هنا بالماضي كالتاريخ بالباقي.
الثاني: أن يكون الوتر بحسب الحساب المعروف الذي ضد الشفع، ويكون تخصيص الوتر هنا من باب أن لياليها أرجى وأوكد، لا أنها لا تكون إلا بالوتر، دون ليالي الشفع، بل تكون أيضًا بالشفع للأدلة الدالة عليها إلا أنها في الوتر أوكد وأقوى.
القول الثاني: هي في الأوتار من العشر الأواخر من رمضان.
وهو قول جماعة من علماء المذاهب، ورجحه ابن حجر.
دليلهم: ما مر من حديث أبي سعيد وعائشة م قال رسول الله ﷺ: «التمسوها في الوتر من العشر» فيكون قيدًا للرواية التي أطلقت التماسها في العشر الأواخر.
الترجيح: الراجح القول الأول([15]).
فيه خلاف:
القول الأول: ليلة إحدى وعشرين.
وهو الصحيح عند الشافعية، وبعض السلف.
دليلهم: حديث أبي سعيد الخدري ا قال رسول الله ﷺ: «لقد رأيتني أسجد فيها في ماء وطين» قال أبو سعيد الخدري: فمطُرنا ليلة إحدى وعشرين، فنظرت إلى رسول الله ﷺ ووجهه مبتل طينًا وماء([16]).
القول الثاني: أرجى لياليها ليلة إحدى وعشرين، أو ثلاثة وعشرين.
وهو وجه للشافعي، وقول بعض السلف.
دليله: أما ليلة إحدى وعشرين فلحديث أبي سعيد، وأما ليلة ثلاثة وعشرين فلحديث عبد الله بن أنيس قال: قال رسول الله ﷺ: «أراني صُبحها أسجد في ماء وطين» قال: فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين([17]).
وحديث ابن مسعود ا قال: قال لنا رسول الله ﷺ: «اطلبوها ليلة سبع عشرة وليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين» ثم سكت([18]).
القول الثالث: أرجاها ليلة سبع وعشرين.
وهو قول جمهور العلماء، وهو قول الحنابلة.
دليلهم: الأول: ما جاء عن أبي بن كعب ا: أنه كان يحلف بالله أنها في ليلة سبع وعشرين، فقيل له: بأي شيء تقول ذلك؟ قال: بالعلامة التي أخبرنا رسول الله ﷺ أنها «تطلع يومئذ لا شعاع لها»([19]).
الثاني: حديث ابن عباس ا قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: إني شيخ كبير يشق عليَّ القيام فأمرني بليلة، فقال رسول الله ﷺ: «عليك بالسابعة»([20]).
الثالث: حديث معاوية ا: أن رسول الله ﷺ قال - في ليلة القدر-: «هي ليلة سبع وعشرين»([21]).
الرابع: عن ابن عمر م قال: قال رسول الله ﷺ: «من كان متحريها فليتحرها في سبع وعشرين»([22]).
الخامس: حديث ابن مسعود ا: أن رجلًا أتى النبي ﷺ فقال: :"متى ليلة القدر؟" قال رسول الله ﷺ: «من يذكر منكم ليلة الصهباوات؟» فقال ابن مسعود: أنا بأبي أنت وأمي وذلك ليلة سبع وعشرين([23]).
السادس: أن رسول الله ﷺ قام بأصحابه ليلة سبع وعشرين إلى آخر الليل، مما يدل على تأكدها على سائر أفراد العشر.
فعن النعمان بن بشير ا قال: قمنا مع رسول الله ﷺ ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل الأول، وليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، وليلة سبع وعشرين حتى ظننا أن لا ندرك الفلاح يعني السحور([24]).
ومما يدل على استبعاد أن تكون ليلة الواحد والعشرين أرجى من ليلة سبع وعشرين ما جاء عن ابن عمر م: أن رجالًا من أصحاب رسول الله ﷺ أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله ﷺ: «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر»([25])
وفي رواية لمسلم (8/48) عن ابن عمر ا قال: قال رسول الله ﷺ: «التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي» وليلة الواحد والعشرين ليست من السبع الأواخر بلا شك.
القول الرابع: في ليلة أربعة وعشرين .
دليله: عن واثلة بن الأسقع ا قال: قال رسول الله ﷺ: «أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة بست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت من رمضان»([26]).
وله شاهد من حديث أبي سعيد ا قال: قال رسول الله ﷺ: «ليلة القدر ليلة أربع وعشرين»([27])
الترجيح: الأرجح مذهب الجمهور: أن أرجى وأوكد لياليها ليلة سبع وعشرين؛ لما جاء عن أبي بن كعب، ولأن رسول الله ﷺ خصها بقيام ليلتها كاملة.
وأما حديث ابن عباس وإن كان سنده صحيح لكن قوله ﷺ : «عليك بالسابعة» ليست صريحة بأنها ليلة سبع وعشرين؛ لاحتمال أنه أراد بالسابعة السابعة تبقى فتكون ليلة ثلاث وعشرين، كما مر عن ابن عباس في البخاري قال رسول الله ﷺ : «في تاسعة تبقى، وفي سابعة تبقى، وفي خامسة تبقى».
وروى عبد الرزاق (4/246) عن ابن عباس م أنه قال لعمر: «هي في سابعة تمضي أو في سابعة تبقى» وسنده صحيح.
وحديث واثلة وابن عباس ضعيفان([28]).
فيه خلاف بين العلماء:
القول الأول: هي متنقلة، وليست في ليلة معينة، ففي سنة تكون في ليلة، وفي السنة الأخرى قد تكون في ليلة أخرى، وهكذا.
وهو قول مالك، وأبي حنيفة، والمشهور عند أحمد، وبعض أئمة الشافعية، ورجحه ابن باز، وابن عثيمين.
دليلهم: الجمع بين الأحاديث، فقد جاءت أحاديث تدل على أنها في ليلة سبع وعشرين، وأحاديث أنها في ليلة أربعة وعشرين، وأحاديث أنها في ليلة، واحد وعشرين، وأحاديث أنها في ليلة ثلاث وعشرين.
وكذلك الآثار عن الصحابة: فمنهم من قال: في السابع والعشرين، ومنهم من قال: في إحدى وعشرين، ومنهم من قال: في ثلاثة وعشرين، ومنهم من قال: أربعة وعشرين، ومنهم من قال: في آخر ليلة من رمضان. فكلٌ منهم حكم بحسب السنة التي رآها فيه.
القول الثاني: في أنها في ليلة معينة، ولا تنتقل من ليلة إلى أخرى، بل هي ثابتة في ليلة معينة، سواء علمنا بهذه الليلة أم لم نعلم بها وخفيت علينا.
وهذا قول أبي يوسف، ومحمد بن الحسن، والظاهرية، وقول الشافعي، وجمهور الشافعية، وظاهر ما نقله بعضهم عن أحمد.
دليلهم: أن الله تعالى أخبر أن القرآن أنزل في ليلة القدر، فهو نزل في ليلة واحدة معينة، ولم ينزل في أكثر من ليلة.
وأخبر رسول الله ﷺ أنه علم بليلة القدر بعينها ثم نُسيها، ثم ذكر أنها في العشر.
وأيضًا لا يوجد دليل صريح ينص على أنها متنقلة.
وكذلك ظاهر كلام الصحابة أنها ليلة معينة، فجاءت أقوال لهم في تعيينها بليلة، ولم يقولوا: إنها متنقلة.
والأدلة السابقة ليست صريحة بأن ليلة القدر كانت في تلك الليالي جزمًا، وإنما هي محتملة، وأكثر ما يقال أنها أرجى وأقوى من بقية الليالي.
الترجيح: الراجح: أنها ليلة معينة ثابتة لا تنتقل لما مر من أدلة لهذا القول.
تنبيه (1): الذين قالوا: "إنها متنقلة" اختلفوا هل هي متنقلة في جميع السنة؟ أم في رمضان فقط؟ أم هي في العشر الأواخر فقط؟ أم هي في الوتر من العشر الأواخر خاصة؟
وهذا راجع بحسب مذاهبهم في الأوقات التي يحتمل، ويمكن أن توجد فيها ليلة القدر بحسب المسائل السابقة التي مرت معنا، والأشهر عندهم أنها تنتقل في ليالي العشر الأواخر فقط، ورجحه ابن عثيمين، وابن باز.
تنبيه (2): نسب بعض أهل العلم إلى الشافعي القول بأنها متنقلة، وذكر الشافعية أن هذا لا يعرف عن الشافعي([29]).
الأولى: أنها تطلع الشمس في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها حتى ترتفع، وهذه أشهر علامتها وأصحها.
لما جاء عن أبي بن كعب أن رسول الله ﷺ أخبرهم بذلك([30]).
الثانية: علامات متعددة جاءت من حديث عبادة بن الصامت ا عن رسول الله ﷺ قال: «أمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة كأن فيها قمرًا ساطعًا، ساكنة ساجية لا برد فيها ولا حر، ولا يحل لكوكب أن يُرمى به فيها حتى تصبح، وأن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر، لا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ»([31]).
فمع ضعفه فلبعضها شواهد تثبت بها دون غيرها:
الأول: عن جابر ا قال: قال رسول الله ﷺ : «إني كنت رأيت ليلة القدر ثم نُسيتها، وهي في العشر الأواخر، وهي ليلة طلقة بلجة لا حارة ولا باردة»([32]).
الثاني: عن ابن عباس م قال: قال رسول الله ﷺ: «ليلة القدر ليلة طلقة لا حارة ولا باردة تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة»([33]).
الثالث: عن الحسن البصري قال: رسول الله ﷺ: «ليلة القدر بلجة سمحة، تطلع الشمس ليس لها شعاع، ولا ينبح فيها كلب»([34]).
ومعنى بلجة، أي: مشرقة، وطلقة، أي: طيبة لا برد فيها ولا حر يؤذيان.
فثبت بمجموع الطرق أنها بلجة طلقة لا باردة ولا حارة.
وقوله: «لا ينبح فيها كلب» ضعيفة من مراسيل الحسن البصري.
وانظر ”السلسلة الضعيفة“ للألباني (4404)([35]).
قال العلماء: يستحب إحياء ليالي العشر بالعبادة، والحرص على مداومة القيام فيها، والإكثار من الدعاء، وأمر الأهل بالاستكثار من الطاعة فيها.
فعن عائشة ك قالت: «كان النبي ﷺ إذا دخلت العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله»([36]).
وحديث عائشة ك أنها قالت: يا رسول الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟ قال: «قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا»([37]).
أجمع العلماء على مشروعيتها، وقد أقامها رسول الله ﷺ ثم تركها بعد ذلك وبين عذره في تركها:
فعن عائشة ك: أن النبي ﷺ صلى في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة، فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة، فلم يخرج إليهم رسول الله ﷺ، فلما أصبح؛ قال: «رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم»([38]).
وعن أبي ذر ا قال: صمنا مع رسول الله ﷺ رمضان، فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقى سبع، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل، فقلت يا رسول الله لو نفلتنا قيام بقية هذه الليلة. قال فقال: «إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة ». قال: فلما كانت الرابعة لم يقم، فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح. قال: قلت ما الفلاح؟ قال: السحور، ثم لم يقم بنا بقية الشهر([39]).
وعن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب ا ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: «إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل» ثم عزم على جمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: «نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون» يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله([40]).
فجمعهم عمر على قاري واحد، وأجمع عليه الصحابة في عصره، وواظب عليها الخلفاء الراشدون والمسلمون.
وقول عمر: «نعمت البدعة» أي أنها بدعة في اللغة؛ لكونهم فعلوا ما لم يكونوا يفعلونه في حياة رسول الله ﷺ وهي سنة من الشريعة.
واختلف العلماء هل الأفضل أن يصلي الشخص مع الجماعة أم يصليها منفردًا في بيته؟
القول الأول: الأفضل أن تصلى في البيت لمن قوي عليها وينشط لفعلها في بيته، فإن لم يقو عليها وينشط لها فصلاته في الجماعة معهم أفضل.
وهذا قول بعض السلف، وهو المشهور عن مالك، وقول أبي يوسف الحنفي، وبعض الشافعية، ورواية لأحمد.
دليلهم: أن رسول الله ﷺ تركها، وبين في نفس الوقت أن صلاتها في البيت أفضل، فعن زيد بن ثابت ا قال: اتخذ رسول الله ﷺ حجرة في المسجد من حصير فصلى فيها ليالي حتى اجتمع عليه ناس، ثم فقدوا صوته ليلة، فظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم فقال: «مازال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة»([41]).
فبين سبب ترك الصلاة بهم أن صلاة البيت أفضل.
وأيضًا قول عمر لهم: «والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون فيها» يعني التي تؤدى آخر الليل.
القول الثاني: الأفضل أن يصلي التراويح في المسجد مع الجماعة.
وهو قول جمهور العلماء، وبعض المالكية.
دليلهم: الأول: حديث أبي ذر السابق وفيه: «إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة» فرغب بصلاة القيام مع الإمام، وجعله كمن قام ليلة كاملة، وإنما دلهم رسول الله ﷺ على أدائها في البيت مخافة أن تفرض عليهم، كما هو واضح في حديث عائشة وزيد بن ثابت، لا أن أداءها في البيوت أفضل، فصلاتهم هذه النافلة في البيت خير لهم وأفضل من أن تفرض عليهم في جماعة في المسجد كالصلاة المكتوبة.
الثاني: ولأن الذي صار عليه جمهور الصحابة، ومن بعدهم على أدائها خلف الإمام في الجماعة، فقد جمع عمر الصحابة والتابعين على إمام واحد يصلي بهم بعد أن كانوا يصلون فرادى أو جماعات متفرقة، فأداء الصحابة لها في جماعة يدل على أنه الأفضل، فعمر إنما أخذها من فعل رسول الله وإنما تركها رسول الله ﷺ خشية الافتراض.
الثالث: حديث زيد بن ثابت عام وحديث أبي ذر خاص في قيام رمضان فيقدم على عموم ما احتجوا به، ويمكن أن يحمل عموم حديثهم على ما لا يشرع فيه التجميع، أما ما شرعت له الجماعة من النوافل كالتراويح فالأفضل أداؤها في الجماعة.
الترجيح: كلا القولين قوي، وله دليله وحجته، والأقرب عندي: مذهب الجمهور: أن الأفضل الالتحاق بصلاة الجماعة في المسجد، فصلاة النافلة أفضل في البيت لكنه ليس على عمومه، فهناك نوافل الأفضل القيام بها مع الجماعة، وهي النوافل التي هي من شعائر الإسلام، كالكسوف والاستسقاء، فتكون التراويح مثلها، فهي من أعلام الدين الظاهرة.
وما جاء عن عمر أنه قال: «والتي ينامون عنها أفضل» وذلك لأنهم كانوا يقومون أول الليل، كما في أثر عمر السابق فالصلاة آخر الليل أفضل من أوله، لكن لا يلزم منه أن صلاة الفرد في بيته أفضل من صلاته مع الجماعة، فيمكن أن نقول: صلاة قيام رمضان مع الجماعة في آخر الليل إذا لم يشق على الناس أفضل من أدائها في أول الليل استفادة من كلام عمر ا([42]).
تم بحمد الله تعالى وصلى الله وسلم على عبده وسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم. كتبه/أبو مالك توفيق بن محمد بن نصر البعداني - معبر- اليمن .
تم الفراغ منه في 15/رمضان/1431هـ 25/8/2010م