فيه مسائل:
ذهب عامة أهل العلم إلى أنه لا يجوز لولي أمر المرأة الثيب البالغ تزويجها إلا بإذنها فعن أبي هريرة I أن رسول الله H قال: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن» قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: «أن تسكت»([2]).
والأيم: الثيب.
وعن خنساء بنت خدام أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك فأتت رسول الله H فرد نكاحها([3]).
وشذ الحسن البصري فقال: يجوز لوليها تزويجها ولو كانت كارهة.
والراجح: ما عليه عامة العلماء من اشتراط إذن الثيب في نكاحها.
هذه المسألة على حالتين:
الحالة الأولى: أن يزوجها أبوها بغير إذنها.
فيه خلاف يسير:
القول الأول: يجوز للأب تزويج ابنته بغير إذنها ما لم تبلغ الحلم بشرط أن يزوجها بكفء.
وهو قول جمهور العلماء منهم الحنفية والمالكية والشافعية وهو المذهب عند الحنابلة وقول الظاهرية.
دليلهم: الأول: قوله تعالى: ﴿ وَٱلَّٰٓـِٔي يَئِسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشۡهُرٖ وَٱلَّٰٓـِٔي لَمۡ يَحِضۡنَ ﴾ [الطلاق : ٤] فجعل للصغيرة عدة وسبب العدة شرعا هو النكاح فدل ذلك على أنها تزوج من صغرها وليس هو من خصائص رسول الله H بل هو عام ولا إذن لها معتبر حتى تستأذن.
الثاني: ما جاء عن عائشة J أنها قالت: إن أباها زوجها على رسول الله H وهي بنت ست أو سبع قالت: فلم يرعني إلا ورسول الله H ضحى فأسلمنني نسوة من الأنصار إليه([5]).
فقولها: «فلم يرعني» أي: فلم يفجأني إلا هذا فيفهم منه أنها لم تعلم بتزويج أبي بكر لها وأنه لم يأخذ إذنها.
القول الثاني: ليس له تزويج ابنته الصغيرة حتى تبلغ وتأذن.
قول ابن شبرمة ونحوه قول ابن عثيمين.
دليله: إن مقصود النكاح طبعا قضاء الشهوة وشرعا النسل والصغر ينافيهما وما جاء من تزويج أبي بكر لابنته عائشة قبل بلوغها برسول الله H فهو من خصائص رسول الله H.
وقال ابن عثيمين: ليس في قصة عائشة أن أبا بكر لم يستأذنها وبل نعلم علم اليقين أن عائشة لو استأذنها أبوها لم تمتنع. وقال أيضًا نحن نوافق عليه إذا جاؤونا بمثل رسول الله H وبمثل عائشة. اهـ
القول الثالث: إذا كانت دون تسع سنين فيزوجها أبوها بغير إذنها وإذا بلغت تسع سنين فما فوق لا يزوجها إلا بإذنها.
وهو رواية للإمام أحمد ورجحته اللجنة الدائمة في السعودية.
دليله: أما قبل التاسعة فلأن أبا بكر زوج عائشة I وعمرها سبع أو ست سنوات وظاهره أن هذا حصل بدون علمها وأيضًا ليس عندها أهلية في هذا السن لأخذ إذنها.
وأما إذا بلغت تسع سنين فلابد من إذنها لأنها بلغت سنا يمكن فيه حيضها وتصلح للنكاح فصار عندها من الأهلية ما تكفي لأخذ إذنها.
الترجيح: الراجع مذهب جمهور العلماء لأبيها تزويجها قبل البلوغ ودون أخذ إذنها في أي سن قبل البلوغ والظن أن أبا بكر استأذن عائشة يخالف ما ذكرته عائشة عن نفسها وأي استأذن يجدو مع من عمرها بين السادسة والسابعة وكونه من خصائص رسول الله H ترده الآية المذكورة وأيضًا الأصل عدم الخصوصية إلا ببرهان وتخصيص الإذن بمن بلغ التاسعة تحديد لا دليل عليه ونحن نشاهد البنات غالبًا في هذا السن لا يعرفن معنى النكاح ولا يعرفن مصالح النكاح فكيف يطلب إذنهن في شيء لا يعرفنه حق المعرفة وليس عندهن التصور الكافي حوله.
الحالة الثانية: أن يزوجها غير أبيها بغير إذنها.
اختلف أهل العلم هل لغير الأب من الأولياء أن يزوج البكر الصغيرة بغير إذنها:
القول الأول: يجوز لسائر أوليائها تزويجها بدون إذنها.
وهو مذهب الحنفية ورواية لأحمد.
دليلهم: الأول: قوله تعالى: ﴿ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ ﴾ [النساء : ٣] فمفهوم الآية يدل على أنه إذا لم يخف ألا يعدل فله نكاح اليتيمة.
واليتيمة هي من لا أب لها ولم تبلغ الحلم بعد.
وأما حديث: «تستأمر اليتيمة في نفسها»([6]) فالمراد باليتيمة هنا: البالغة لأنه إنما تستأمر البالغة دون الصغيرة لأن البالغة هي التي يؤخذ منها الأمر ولو ثبت أن المراد بها الصغيرة فيكون استئذانها على سبيل الندب فقط.
الثاني: أنه ولي قائم مقام الأب عند عدم وجوده فتصح ولايته قبل البلوغ كما تصح ولايته بعد البلوغ.
الثالث: قد توجد المصلحة الداعية لتزويجها قبل البلوغ فقد يتقدم لها كفء قد لا يظفر بمثله إذا فات فوجب أن يلحق سائر الأولياء بالأب في هذا المعنى.
القول الثاني: ليس لأحد من أوليائها تزويجها بغير إذنها إلا الأب وحده.
وهو مذهب المالكية والمذهب عند الحنابلة وقول ابن حزم الظاهري.
دليلهم: الأول: أن الأصل طلب الإذن من المنكوحة ولا يزوجها أولياؤها إلا بإذنها وإنما استثنى الأب لحديث عائشة J السابق في تزويج أبي بكر لها برسول الله H فيقتصر عليه ولما عند الأب من كبير رحمه وشفقه لها بخلاف غيره.
الثاني: حديث أبي موسى I أن رسول الله H قال: «تستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فقد آذنت وإن أبت لم تكره» وفي رواية: «لم تزوج»([7]).
وحديث عبد الله بن عمر L قال: توفي عثمان بن مظعون، وترك ابنة له من خويلة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص قال: وأوصى إلى أخيه قدامة بن مظعون، قال عبد الله: وهما خالاي، قال: فخطبت إلى قدامة بن مظعون ابنة عثمان بن مظعون فزوجنيها، ودخل المغيرة بن شعبة - يعني إلى أمها - فأرغبها في المال فحطت إليه، وحطت الجارية إلى هوى أمها، فأبيا حتى ارتفع أمرهما إلى رسول الله H، فقال قدامة بن مظعون: يا رسول الله، ابنة أخي أوصى بها إلي، فزوجتها ابن عمتها عبد الله بن عمر، فلم أقصر بها في الصلاح، ولا في الكفاءة، ولكنها امرأة، وإنما حطت إلى هوى أمها، قال: فقال رسول الله H: " هي يتيمة، ولا تنكح إلا بإذنها " قال: فانتزعت والله مني بعد أن ملكتها، فزوجوها المغيرة([8]).
فنفى الحديثان نكاح اليتيمة حتى تستأذن فدل ذلك على أنها لا تجبر على النكاح سواء كان المراد باليتيمة الصغيرة أو كان المراد باليتيمة هنا البالغة فإن مقتضاه أن لا يزوجها أحد من أوليائها حتى تبلغ ويؤخذ إذنها.
والمراد باليتيمة في الآية السابقة: اليتيمة البالغة بدليل قوله تعالى في آية أخرى: ﴿ وَمَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّٰتِي لَا تُؤۡتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرۡغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ ﴾ [النساء : ١٢٧]. وإنما يدفع المهر إلى الكبيرة.
القول الثالث: يلحق بالأب الجد فقط فيجوز له تزويج غير البالغ بدون إذنها.
قول الشافعية ورواية لأحمد واختاره ابن تيمية.
دليلهم: أن الجد أب وولايته لابنة ولده ولاية إيلاد فأشبهت ولاية الأب. وأما سائر الأولياء فليسوا في معنى الأب والجد ولم يرد نص فيهم.
الترجيح: الراجح أنه لا يلحق بالأب أحد من الأولياء كما قاله أهل المذهب الثاني لقوة أدلتهم والجد قاصر عن الأب فلم يملك إجبارها كالعم والأخ.
فائدة: القائلون بأنه يجوز لجميع أوليائها تزويجها بغير إذنها اختلفوا هل لها خيار الفسخ بعد البلوغ أم لا؟
فقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن والإمام أحمد: لها الفسخ بعد البلوغ إذا كرهت هذا النكاح بعد بلوغها لأنه زوجها من هو قاصر عن الأب في الشفقة فربما فرط فيها فلها الاستدراك إذا أرادت بعد البلوغ.
وقال أبو يوسف: ليس لها خيار الفسخ بعد البلوغ لأنه عقد تم بولاية مستحقة بالقرابة فلم يثبت فيه خيار.
تنبيه: هذه المسألة عند جمهور العلماء الذين يمنعون سائر الأولياء من إجبار البكر غير البالغ على النكاح ما عدا الأب أو الأب والجد.
وقد اختلفوا في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: يجوز لوليها ـ غير الأب ـ تزويجها إذا بلغت سن التاسعة فما فوق إذا أذنت له بذلك ولو لم تبلغ الحلم ولا خيار لها إذا بلغت.
وهو المذهب عند الحنابلة.
دليلهم: الأول: الأحاديث السابقة التي نصت على أن اليتيمة تستأذن يفهم منها جواز تزويجها بإذنها فإن أبت فلا تزوج واليتيمة حقيقة هي التي لا أب لها ولم تبلغ الحلم، فيحمل اللفظ هنا على المعنى الحقيقي لإمكانه ولا مانع منه، وقد انتفى إمكان أخذ الإذن فيمن دون تسع سنين إذ ليس لها إذن معتبر في هذه السن فيحمل على من بلغت تسع سنين فما فوق فلها في هذه السن إذن معتبر.
الثاني: أنها إذا بلغت التاسعة تكون قد بلغت سنا يمكن فيه حيضها فبالتالي تصلح للنكاح وتحتاج له فأشبهت البالغة.
القول الثاني: لا يجوز لأوليائها ـ غير الأب ـ تزويجها ولو أذنت حتى تبلغ.
وهو قول المالكية والشافعية ورواية لأحمد وقول ابن حزم ورجحه الشيخ العثيمين.
دليلهم: الأول: أنها ليس لها إذن معتبر لأنها لا تفهم مصالح النكاح كما ينبغي وما جاء أن اليتيمة تزوج بإذنها فالمراد باليتيمة في هذه الأحاديث: اليتيمة البالغة وسميت يتيمة مع بلوغها باعتبار ما كان من حالها قبل البلوغ ولفظ (اليتيمة) قد ينطلق على البالغة التي لا أب لها وهذا كنحو قوله تعالى: ﴿ وَءَاتُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰٓ أَمۡوَٰلَهُمۡ ﴾ [النساء : ٢]. فالمراد باليتامى هنا: البالغون فهم الذين تدفع لهم الأموال.
والدليل على أن المراد باليتيمة في قوله: «واليتيمة تستأمر» هي اليتيمة البالغة: أنه مده إلى وقت الاستئمار وإنما تستأمر الكبيرة دون الصغيرة فالصغيرة ليست أهلا للاستئمار فإذنها غير معتبر ومعنى الحديث لا تنكح اليتيمة حتى تبلغ فتستأمر.
الثاني: أن إذنها لا يعتبر في سائر التصرفات لأنها لم تبلغ الحلم وهو السن الذي تفهم فيه مصالحها فكذلك يكون الأمر في النكاح.
الثالث: أن النكاح شرع للحاجة والصغيرة لا حاجة لها في النكاح قبل البلوغ لعدم وجود الشهوة فيها.
الترجيح: الأرجح منع تزويجها قبل البلوغ ولو أذنت فيه ولو على الأقل من باب الاحتياط لعدم وجود الدليل الكافي الذي يصرح بجوازه ومع هذا إذا بلغت التاسعة أو العاشرة وخاف أولياؤها فساد حالها بفقر أو زنا أو ضياع مال أو ضياع دين فلهم تزويجها بعد مشاورة القاضي مع أخذ إذنها أيضًا كما نص عليه المالكية([10]).
في هذه المسألة خلاف يسير:
القول الأول: إذا بلغت تسع سنين.
وهو قول الإمام أحمد.
دليله: أن رسول الله H بنى بعائشة J وهي بنت تسع سنين([12]). فدل ذلك على أنها السن الصالحة لهذا. ولأن الحيض قد يأتي متى بلغت التسع السنين فتكون بالتالي صالحة للوطء.
القول الثاني: يجوز له وطئها إذا كانت تطيق الجماع وتصلح للوطء وليس له سن محددة وإنما يختلف باختلافهن.
وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي واختارته اللجنة الدائمة في السعودية.
دليله: حتى تسلم البنت من الضرر وليس في قصة عائشة السابقة تحديد له بالتسع ولا المنع من ذلك عمن أطاقته قبل التسع ولا الإذن فيه لمن لم تطقه وقد بلغت التسع فيبقى الأمر بحسب القدرة والإطاقة.
الترجيح: الراجح القول الثاني عدم تحديده بسن فلابد من مراعاة حال البنت واستطاعتها حتى لا يقع عليها الضرر.
اختلف الفقهاء هل يجوز للأب إجبارها على النكاح أم لا؟
القول الأول: يجوز للأب إجبار الثيب غير البالغ على النكاح فله أن يزوجها بغير إذنها كما في البكر الغير البالغ.
قول أبي حنيفة ومالك ورواية لأحمد.
دليلهم: الأول: القياس على البكر الصغيرة فقد أجاز الشرع للأب تزويجها بغير إذنها باعتبار صغرها فكذلك يجوز له تزويج الثيب الغير بالغ بغير إذنها باعتبار صغرها فبالثيبوبة لا يزول الصغر فالثيب الصغيرة ليست لها أهلية للاستئمار وطلب الإذن منها كالبكر الصغيرة فيزوجها بغير إذنها.
الثاني: تحقق الحاجة إلى إحراز الكفء إذ قد يفوت فلا يمكن الظفر بمثله بعد ذلك.
القول الثاني: لا يجبرها أبوها على النكاح ولا تزوج حتى تبلغ الحلم.
وهو قول الشافعي وبعض المالكية ووجه للحنابلة وقول ابن حزم.
دليله: ما سبق من حديث أبي هريرة I أن رسول الله H قال: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر» والأيم: هي الثيب، فيشمل الكبيرة والصغيرة.
ولأنه لا إذن لها معتبر قبل البلوغ لعدم وجود الأهلية فلا تزوج إلا إذا بلغت.
وحديث عائشة إنما يستفاد منه استثناء البكر الصغيرة وما عداها يبقى على المنع.
القول الثالث: إذا كانت دون التسع فلوالدها إجبارها على النكاح، وإذا كانت في التاسعة فما فوق فليس له إجبارها على النكاح.
وهو المذهب عند الحنابلة.
دليله: أنها إذا كانت دون التاسعة فليس لها إذن معتبر فلوالدها تزويجها بغير إذنها وأما إذا كانت وصلت إلى التاسعة فما فوق فلها إذن معتبر فلم يجز له إجبارها على النكاح.
الترجيح: الراجح والله أعلم القول الأول أن لأبيها إجبارها على النكاح فلا فرق بين صغيرة بكر وثيب فالعلة واحدة فقد توجد مصلحة لتزويجها والأب مأمور بتحصيل المصلحة والفائدة لابنته وليس لها في نفس الوقت الأهلية لأجل يؤخذ إذنها فالقياس هنا صحيح ولا معنى للمغايرة بينهما وتفصيل الحنابلة تحديد لا دليل عليه.
تنبيه: الحنفية يجوزون هنا لسائر الأولياء إجبار الثيب الصغيرة على النكاح كالبكر الصغيرة وذهب مالك وأحمد على الاقتصار على الأب وهو الصواب لكمال شفقته ورحمته بها وقصور غيره عن هذا.
اختلف العلماء: هل يجوز لأبي البكر البالغ تزويجها بدون إذنها أم لا؟
القول الأول: لا يجوز لأبيها إجبارها على النكاح ويجب عليه استئذانها ولو زوجها بغير إذنها لم يصح عقد النكاح.
وهو مذهب الحنفية والظاهرية ورواية لأحمد واختاره ابن تيمية وابن القيم ونقله عن جمهور السلف.
دليلهم: الأول: حديث أبي هريرة I أن النبي H قال: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن» قالوا: يا رسول الله كيف إذنها؟ قال: «أن تسكت»([15]).
ووجه الدلالة من الحديث: أن رسول الله H نهى عن تزويجها بغير إذنها والأصل في النهي أنه للتحريم فعليه يحرم تزويجها بغير إذنها.
الثاني: حديث عائشة J أن رسول الله H قال: «البكر تستأذن» قالت: يا رسول الله إن البكر تستحي قال: «رضاها صماتها»([16]).
وعن ابن عباس L أن رسول الله H قال: «الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وأذنها صماتها»([17]).
فقوله H: «البكر تستأذن» هذا خبر في معنى الأمر، والأصل في الأمر أنه للوجوب فعليه يجب استئذانها في النكاح.
الثالث: حديث ابن عباس L أن جارية بكرًا أتت رسول الله H فذكرت له أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها رسول الله H. وفي رواية: ففرق بينهما([18]).
والشاهد من هذا الحديث أن رسول الله H رد نكاحها عندما أنكحها أبوها وهي كارهة وكانت بكرًا وجعل سبب الرد كون الناكح لها لم يكن كفئا لها قول لا دليل عليه وهو خلاف ما يظهر من الحديث مع أن العرب إنما كانوا يعتبرون الكفاءة في النسب وهذا ابن عمها والمراد بقولها في حديث عائشة «يرفع بي خسيسته» أي: الموافقة على تزويجها بقريبه وصعوبة رده مع أن هذه اللفظة إنما جاءت من حديث عائشة وفي سنده ضعف ـ كما مر ـ ولم يثبت رد نكاحها إلا بمجموع طرقه.
والرد على أدلة المخالفين كالآتي:
أما حديث «اليتيمة تستأمر» أي: التي لا أب لها فخرجت غير اليتيمة وهي من لها أب فيفهم منه أن أباها يزوجها ولا يجب أن تستأمر ولو كانت بالغة فهو فهم غير صحيح فقد جاءت أحاديث أخرى صحيحة عامة في استئذان كل بكر فتعم من لها أب واليتيمة التي لا أب لها كما مر من حديث أبي هريرة وعائشة في الصحيحين ومن حديث ابن عباس في صحيح مسلم وجاء من بعض طرق ابن عباس أن رسول الله H قال: «الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر يستأذنها أبوها في نفسها»([19]). فهذا صريح في أن البكر لا يزوجها أبوها إلا بإذنها، فعليه يكون ذكر اليتيمة في بعض الأحاديث أنها تستأمر ليس معناه أن البكر البالغ غير اليتيمة لا تستأمر وإنما خصت اليتيمة بالذكر في تلك الأحاديث للتنبيه حتى لا تظلم.
ولو قال قائل: إن المراد باليتيمة هنا البكر لم يدفع جمعا بين الروايات، وأما إثبات الحق للثيب في نفسها دون البكر كما في حديث ابن عباس عند مسلم فذلك لأن البكر تستحي أن تتكلم في أمر نكاحها فلم تخطب إلى نفسها بل تخطب إلى وليها وهو يستأذنها وأما الثيب فيصح أن تخطب إلى نفسها وتأمر الولي أن يزوجها وعليه تزويجها بالكفء فالولي مأمور من جهة الثيب ومستأذن للبكر ولابد من رضا البكر والثيب.
وأما تزويج أبي بكر لابنته عائشة برسول الله H دون علمها إنما حصل ذلك لكونها صغيرة ليس عندها من الفهم ما يصلح لطلب أمرها ولا تعرف مصلحتها بسبب صغرها بخلاف البكر البالغ فهي على خلاف ذلك.
القول الثاني: يجوز لأبيها أن يزوجها بغير إذنها ولو كرهت ويصح عقد النكاح.
وهو مذهب المالكية والشافعية والمذهب عند الحنابلة وغيرهم.
دليلهم الأول: حديث ابن عباس أن رسول الله H قال: «الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها»([20]).
والشاهد من الحديث أن رسول الله H أثبت الحق للثيب فدل ذلك على نفيه عن البكر فيكون وليها أحق بها من نفسها والأمر باستئذان البكر في هذا الحديث وغيره يحمل على الاستحباب لاستطابة نفسها بدليل أن الإجماع منعقد على أن للأب تزويج ابنته البكر الصغيرة بغير إذنها أو أن الأمر باستئذان البكر المراد به البكر اليتيمة التي لا أب لها فلا يزوجها وليها بغير إذنها أما من لها أب فيزوجها أبوها بغير إذنها. وقد جاء في بعض طرق حديث ابن عباس هذا أن رسول الله H قال: «اليتيمة تستأمر وإذنها صماتها»([21]).
الثاني: ما جاء من حديث أبي موسى وأبي هريرة وابن عمر L ـ بألفاظ متقاربة ـ أن اليتيمة تستأذن([22]).
فخص اليتيمة في الأمر باستئذانها فيفهم منه أن غير اليتيمة وهي التي لها اب لا يجب استئذانها فيزوجها أبوها ولو بغير إذنها.
الثالث: حديث عائشة في قصد زواجها من رسول الله H كما مر فالعلة في تزويج أبي بكر لها دون علمها كونها بكرًا لا تعرف أمر النكاح ولم تجربه فهي شديدة الحياء وهذا موجود في البكر الصغيرة والكبيرة بخلاف الثيب فهي قد عرفت النكاح وجربته فهي لا تزوج إلا برضاها ولو كانت العلة تزويج عائشة دون علمها كونها صغيرة فقط لانتظر حتى تبلغ فتأذن بالتزويج.
فعليه يستفاد من قصة عائشة J جواز تزويج البكر البالغ وغير البالغ دون استئذانها.
وأما حديث أن رسول الله H رد نكاح البكر الكارهة لهذا النكاح فهو حديث ضعيف وعلى ثبوته فإنما رده رسول الله H لكون الناكح لها ليس كفئا لها لهذا قالت كما في حديث عائشة: إنه زوجها به ليرفع بها خسيسته.
الترجيح: الراجح المذهب الأول أنه لا يجوز تزويج البكر البالغ إلا بإذنها لقوة أدلتهم وقوة أجوبتهم على أدلة المخالفين واستأذان البكر في حديث ابن عباس السابق جاء عنه بثلاثة ألفاظ:
الأول: نص في اليتيمة خاصة فقال: «اليتيمة تستأمر».
والثاني: نص في غير اليتيمة فقال: «والبكر يستأذنها أبوها».
والثالث: عام في كل بكر فقال: «والبكر تستأذن في نفسها».
وكل هذه الألفاظ جاءت بأسانيد صحيحة إلى ابن عباس فلعله أخذها كلها من رسول الله H وأصحها إسنادا اللفظ الثالث العام وهو يشمل اليتيمة وغير اليتيمة.
تنبيه1: ألحق الشافعية بالأب الجد فقالوا: له الحق كذلك في تزويج ابنة ابنه بدون إذنها كالأب وأما سائر الأولياء فلا خلاف بين العلماء في أنه لا يجوز لهم تزويج البكر البالغ بغير إذنها.
تنبيه 2: استدل الشافعية على أحقية الأب في إجبار ابنته البكر البالغ على التزويج بحديث: «الثيب أحق بنفسها والبكر يزوجها أبوها» وعزوه إلى الدارقطني وذكره الرافعي وعزاه للدارقطني فقال الحافظ ابن حجر عند تخريجه: وليس موجودا في سنن الدارقطني إنما فيه: «يستأمرها أبوها» بدل: «يزوجها أبوها»([23]). اهـ. والأمر كما ذكر ابن حجر وهو اللفظ الذي رواه مسلم أيضًا «يستأمرها أبوها».
أولا: الثيب.
لا خلاف بين أهل العلم أنه يشترط أن يكون رضاها وموافقتها على هذا النكاح بالنطق والكلام كأن تقول: رضيت، قبلت. ولا يقبل سكوتها ولا يكون إذنا منها فالنطق أعلى من السكوت وصار عندها قوة وشجاعة على النطق بالموافقة فقد ذهب كثير من حيائها بنكاحها السابق وقد سبق في الأحاديث «والأيم تستأمر» وفي لفظ: «الثيب أحق بنفسها».
ثانيا: البكر.
في كيفية معرفة رضاها بعض الخلاف عند الفقهاء:
القول الأول: لا يكون إذنها إلا بالسكوت فإن تكلمت بالرضا لم يصح نكاحها وهو قول ابن حزم الظاهري.
دليله: أن رسول الله H نص على أن إذنها يكون بالسكوت فقال: «البكر تستأذن وإذنها صماتها» وفي رواية: «سكوتها» فعليه: إذا تكلمت بالرضا لم يؤخذ إذنها المطلوب شرعا وهو السكوت.
القول الثاني: إذا كان ولي أمرها أبوها فسكوتها يكفي للدلالة على رضاها وإذا كان ولي أمرها غير أبيها فيلزم أن تتلفظ بالموافقة والرضا ولا يكفي الصمت منها.
وهو قول بعض الشافعية وبعض الحنابلة.
دليله: إنه يجب على وليها غير الأب استئذانها والصمت محتمل للرضى ولغيره فلا يكون إذنا كما في حق الثيب وأما إذا كان ولي أمرها أبوها فيكفي صماتها لأن رضاها غير معتبر أصلا عند وجوده.
القول الثالث: يكفي سكوتها دليلا على رضاها مع كل أوليائها ولو نطقت بما يدل على الرضا جاز منها.
وهو قول جمهور العلماء منهم أبو حنيفة ومالك وهو الصحيح عند الشافعية والحنابلة.
دليله: عموم قوله H: «البكر تستأذن وإذنها صماتها» فإنه يشمل جميع الأبكار مع جميع الأولياء.
ولا بأس إذا نطقت بما يفهم منه الرضا والموافقة لأنه الذي يعرف منه الرضا يقينا وإنما قبل السكوت من البكر لأنها قد تستحي فلا تتكلم لشدة حياء الأبكار لهذا لما قال رسول الله H: «تستأذن البكر» قالت عائشة: إن البكر تستحي يا رسول الله فقال: «رضاها صماتها»([25]).
الترجيح: الراجح ما عليه جمهور العلماء أن سكوتها يكفي مع جميع الأولياء ولو تكلمت صح منها بلا ريب
ريب فهو أفهم للغرض وأقطع للاحتمال.
فائدة: الفرق بين قوله: «تستأمر» وقوله: «تستأذن»:
أن قوله: «تستأمر» معناه: يستدعى أمرها وهذا يظهر منه أن يصدر منها بالقول ما يسمى أمرا وهذا ممكن من الثيب لأنها لا يلحقها من الخجل والانقباض ما يلحق البكر فلا يكتفى منها إلا بالنطق وقد يحصل أيضًا من البكر.
وأما قوله: «تستأذن» فإنه يقتضي أن يظهر منها ما يدل على رضاها وإذنها بأي وجه كان من سكوت أو غيره ولا تكلف النطق([1]).
أي: ذهبت بكارتها بزنا إما مكره وإما مطاوعة.
اختلف الفقهاء هل تلحق هنا بالأبكار أم بالثيبات؟
القول الأول: إذا لم يتكرر زناها فهي بحكم الأبكار فيكفي في معرفة رضاها في النكاح سكوتها وإذا تكرر زناها صارت ثيبا فلابد من نطقها.
وهو قول أبي حنيفة وبعض المالكية.
دليلهم: أنها إذا لم يتكرر زناها لم يشتهر زناها فيعرفها الناس بأنها بكر فتمتنع من النطق عند الموافقة مخافة أن يعلم زناها حياء من ظهوره فلا زالت فيها العلة التي في البكر وهي الاستحياء من النطق أما إذا تكرر زناها فقد اشتهر زناها فيكون حياء البكر قد ذهب عنها فلا يكتفى منها بالسكوت فلابد من النطق كالثيب.
القول الثاني: أنها لا زالت في حكم البكر ولو تكرر زناها.
وهو المشهور عند المالكية وظاهر قول ابن حزم.
دليلهم: أن الحياء هو علة الاكتفاء بسكوت البكر والحياء من الشيء لا يزول إلا بمباشرته وهذه لم تباشر الإذن في النكاح حتى يزول حياؤها فيبقى حياؤها منه بحاله.
القول الثالث: تصير في حكم الثيب ولو لم يشتهر زناها فلا يكتفى بسكوتها الدال على الرضى فلابد من نطقها ولا يجوز لأبيها تزويجها بدون استئذانها فهي ثيب فلابد من أخذ إذنها في النكاح.
وهو مذهب أبي يوسف ومحمد بن الحسن صاحبي أبي حنيفة وقول بعض المالكية وهو مذهب الشافعية والحنابلة.
دليلهم: الأول: أن الثيب هي الموطوءة في القبل وهذه كذلك.
الثاني: أنه لو اشترطها في التزويج أو الشراء ـ إذا كانت أمة ـ بكرًا فوجدها بدون بكارة بسبب زناها فله حق الفسخ.
الثالث: أن الحياء إنما يعتبر بمظنته وهي البكارة أي عدم وجود الوطء المسبق وبقاء حياء هذه كالبكر غير صحيح لأنها إنما تستحي من ذكر وقوع الفجور بها وأما الحياء من أصل النكاح فقد زال عنها فليست كالبكر التي لم تجربه قط.
الترجيح: الراجح القول الأخير أنها تأخذ حكم الثيب هنا فالأصل أن الإذن يؤخذ بالنطق فالسكوت محل احتمال وإنما استثنيت البكر لما تتصف به غالبًا من شدة الحياء لأنها لم تمارس الرجال وهذه قد وطئت فلا فرق بين أن تمارس الرجال بوطء شرعي أو غير شرعي وأما أخذ الإذن منها فلابد منه سواء قلنا إنها ثيب أو قلنا هي بكر على الراجح كما مر.
بوثبة أو بسقطة أو بإصبع أو بعود ونحوه فهل لا زالت بكرا؟
فيه خلاف بين أهل العلم:
القول الأول: تلحق بحكم الثيب فيلزم منها النطق لمعرفة رضاها في النكاح ولا يكفي السكوت.
وهو وجه للشافعية ورواية لأحمد.
دليلهم: بزوال بكارتها ـ العذرة ـ أشبهت الموطوءة.
القول الثاني: لا زالت بكرًا فيكفي صماتها ولا يلزم النطق.
وهو مذهب الحنفية والمالكية والأصح عند الشافعية والصحيح عند الحنابلة.
دليلهم: الأول: أنها لم تمارس الرجال فلا زالت على حيائها.
الثاني: أنها لم توطئ فبكارتها لم تذهب بالوطء.
الترجيح: الراجح القول الثاني أنها لا زالت في حكم الأبكار ودليله واضح.
اختلف العلماء: هل يصح العقد إذا رضيت به بعد ذلك وأجازته أم لا يصح؟
القول الأول: لا يصح العقد ولو أجازته بعد ذلك فلابد من عقد جديد.
وهو قول الشافعية والمذهب عند الحنابلة وقول للمالكية.
دليلهم: الأول: أن رسول الله H نهى عن تزويجها بغير إذنها فإذا عقد لها بغير إذنها فقد وقع في النهي والنهي يقتضي الفساد فيكون العقد فاسدا.
الثاني: ما رواه البخاري عن خنساء بنت خدام أن أباها زوجها وهي كارهة فرد رسول الله H نكاحها([5]). ولم يقل رسول الله: إذا أجازت والدها صح العقد وظاهره أنه لم يخيرها.
القول الثاني: إذا أجازته صح العقد وإذا لم تجزه لم يصح.
وهو مذهب الحنفية ورواية لأحمد.
دليلهم: حديث البكر التي زوجها أبوها وهي كارهة فخيرها رسول الله H([6]). أي: بين إبقاء النكاح وبين إبطاله وهذا نص صريح في صحة النكاح إذا أجازته المرأة.
القول الثالث: إذا أجازته في وقت قريب، أي: الفاصل بين وقت العقد وإجازتها مدة قصيرة صح وإن أجازته في مدة بعيدة عن وقت العقد، أي: أن الفاصل بين وقت العقد وإجازتها مدة طويلة لم يصح العقد.
وهو مذهب مالك.
دليلهم: التساهل في أمر اليسير دون الكثير كالعمل في الصلاة فإجازته في قريب المدة دون بعيدها كإجازة يسير العمل في الصلاة دون كثيره ولأنه يكون في وقت واحد وقدر واحد.
الترجيح: لعل المذهب الثاني أرجح وهو صحة العقد إذا أجازته بناء على ثبوت الحديث المذكور في تخيير البكر التي زوجها أبوها وهي كارهة. وأما حديث خنسا فليس فيه أن رسول الله H لم يخيرها بل مسكوت عنه. و على فرض أن رسول الله H لم يخيرها فلعل رسول الله H لمس من حالها وكلامها أنها لا ترغب بهذا الرجل أبدا وذلك لأجل الجمع بين الأدلة ويشترط أن تجيزه برضى وقناعة حتى يصح العقد دون إجبار أو ضغط عليها أو إحراج لها، ومع هذا الأحوط أن يجددوا العقد خروجا من الشبهة للاحتمال الوارد في حديث خنساء ولا سيما أنه أصح سندا.
اختلف العلماء هل لأبيها تزويجها وهي مجنونة أم لا؟
القول الأول: يجوز لأبيها تزويجها في حال جنونها إذ وجدت مصلحة سواء كانت ثيبا أم بكرًا أو سواء كان جنونها أصليا أو طارئها إذا كان جنونا مطبقا.
وهذا هو الصحيح عند الحنفية ومذهب المالكية والصحيح عند الشافعية والصحيح عند الحنابلة.
دليلهم: إن المصلحة قد تقتضي تزويجها وقد تحتاج له ولا يحتاج لإذنها لأنها لا تعقل ذلك ولا تفهمه وسواء كان جنونا طارئا أم أصليا ما دام أنها في حالة لا تفهم معنى الاستئذان حتى تستأذن بشرط أن يكون جنونها دائما بخلاف من كان جنونها غير مطبق، أي: أنها تعقل أحيانا فهذه لها حكم العاقلة فلا يزوجها إلا بإذنها في الزمن الذي تفيق فيه.
القول الثاني: فيه تفصيل: إذا كانت بكرًا صغيرة فله تزويجها ولو كانت مجنونة أما إذا كانت بكرًا بالغا أو ثيبا فليس له تزويجها حتى تعقل.
وهو قول ابن حزم وبعض الحنابلة.
دليله: أنه يجوز له تزويجها إذا كانت بكرًا لم تبلغ بدون إذنها فلا فرق إذًا بين كونها عاقلة أو مجنونة أما إذا كانت ثيبا أو بكرًا بالغا فإنه لا يصح أصلا تزويجها إلا بإذنها والمجنونة لا إذن لها فلا يملك تزويجها حتى تعقل وتستأذن.
القول الثالث: إذا كان جنونها جنونا أصليا فله تزويجها وإذا كان طارئا ففيه تفصيل:
فإن طرأ في وقت يجوز له إجبارها فيه على التزويج لو كانت عاقلة فله تزويجها في هذه الحالة وإن كان طرأ عليها الجنون في وقت لا يجوز له إجبارها فيه على النكاح لو كانت عاقلة فلا يجوز له في هذه الحالة تزويجها ولو كانت مجنونة.
وهو قول بعض الحنفية وبعض الشافعية.
دليلهم: أما في حالة الجنون الأصلي فيملك تزويجها على كل حال لأنها لم تعقل في فترة يلزم فيها إذنها في النكاح.
وأما إذا كان طارئا وعقلت في فترة لو نكحت فيها لما صح إلا بإذنها فإنها هنا إذا جنت تكون في فترة لا يجوز له إجبارها على النكاح لو كانت عاقلة فلم تزوج في هذه الفترة وهي مجنونة.
الترجيح: الراجح القول الأول أنها تزوج مطلقا فهي في حالة لا يمكن معها أخذ إذنها لأنها لا تعقل ولا فرق بين أن يكون جنونا طارئا أو أصليا ما دام أن العلة موجودة في الحالتين وهي عدم فهمها لمصلحتها.
فرع: عند الحنفية وبعض الحنابلة يجوز لسائر أوليائها تزويجها عند الحاجة وعند الباقين أن هذا حق للأب فقط وزاد الشافعية الجد فلا يزوجها بقية أوليائها في حال جنونها حتى تعقل لأنه لابد من إذنها.
قلت: وهو الصواب فربما تساهلوا في أمرها وربما أضروا بها لكن عند المالكية والصحيح عند الشافعية وعند الحنابلة أن للحاكم تزويجها إذا كانت المصلحة في تزويجها كحاجتها لنفقة أو صيانة لعرضها أو كان في نكاحها شفاء لها فيعرض عصبتها أمرها على الحاكم فينظر الحاكم في أمرها بحسب الحاجة والمصلحة له.
قلت: الأمر على ما قالوا إن شاء الله.
هذه المسألة له صورتان:
الصورة الأولى: إذا كان أبو الصغير حيا.
اختلف الفقهاء: هل لأبيه تزويجه في صغره قبل بلوغه أم لا؟
القول الأول: ليس له تزويجه حتى يبلغ فإن فعل فالعقد باطل وهو قول ابن حزم الظاهري.
دليله: عدم وجود دليل ينص على أن للأب تزويج الصغير قبل بلوغه إنما جاء الدليل في جواز تزويج الصغيرة الأنثى ولا يقاس عليها فالقياس باطل.
القول الثاني: يجوز للأب تزويجه ولو بغير إذنه.
وهو مذهب جمهور العلماء بما فيهم أهل المذاهب الأربعة.
دليلهم: الأول: القياس على الصغيرة الأنثى فإذا جاز للأب تزويجها فكذلك جاز له تزويج الصغير الذكر فلا فرق بين الصورتين فهو قياس صحيح.
الثاني: ما جاء عن ابن عمر L أنه زوج ابنا له وهو صغير([9]). وهذا فعل صحابي فيؤخذ به.
الثالث: أنه قد يحتاج الصغير للنكاح وقد تكون مصلحته في النكاح.
الترجيح: الراجح مذهب الجمهور يجوز للأب تزويجه في هذا السن إذا وجدت الحاجة لذلك.
الصورة الثانية: إذا كان الصغير يتيما لا أب له.
اختلف أهل العلم هل لوليه تزويجه أم لا؟
القول الأول: يجوز لسائر أوليائه تزويجه إذا وجدت الحاجة وله خيار الفسخ بعد البلوغ.
وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وبعض الحنابلة.
دليلهم: أنه ولي شرعي للصغير فكان من مقتضى ولايته له النظر بما يناسبه ويحتاج إليه وله الخيار بعد ذلك إذا بلغ وذلك لنقصان قرابة هذا الولي وقصور شفقته بالمقارنة بالأب فربما لا يحسن النظر ويتوهم منه الخلل فكان للصبي الاستدراك بإعطائه الخيار بعد البلوغ.
القول الثاني: لسائر أوليائه تزويجه وليس له الخيار بعد البلوغ.
وهو قول أبي يوسف الحنفي.
دليله: أن عقد زواجه تم عن طريق ولي شرعي استحقها لقرابته فلم يكن للصغير الفسخ بعد بلوغه.
القول الثالث: ليس لسائر أوليائه تزويجه فهذا حق للأب فقط.
وهو قول المالكية والصحيح عند الحنابلة.
دليلهم: أن قرابته قاصرة وناقصة عن قرابة الأب فربما قصر في النظر في الأصلح للصغير فليس عنده ما عند الأب من كمال الشفقة والحرص على ولده.
القول الرابع: ليس لسائر أوليائه تزويجه إلا الجد فقط.
وهو قول الشافعية.
دليلهم: أن الجد يعتبر أبا وعنده من الحرص على الصغير ما عند الأب.
الترجيح: الراجح أنه ليس لأحد من أوليائه تزويجه حتى يبلغ فيعرف الأصلح لنفسه لا سيما وأنه لا يتصور من الصبي أي احتياج لهذا النكاح وعلى فرض وجود حاجة ماسة لتزويجه فيرجع الأمر إلى الحاكم الشرعي للنظر في أمره كما قرره الحنابلة.
اتفق أهل المذاهب الأربعة أنه يجوز لأبيه تزويجه إذا وجدت حاجة أو مصلحة لتزويجه كأن تظهر رغبته في النساء بدورانه حولهن وتعلقه بهن أو يكون محتاجا للحفظ والإيواء أو يرجى له بهذا النكاح الشفاء إذا كان مجنونا مطبقا أي دائما أما إذا كان يفيق أحيانا فلا يجوز له تزويجه في هذه الحالة وإنما ينتظر إفاقته ثم يستأذن فيه لأنه من أهل التكليف والتصرف في حالة إفاقته.
واختلف أهل المذاهب الأربعة في المجنون المطبق وليس له أب واحتاج للنكاح فهل يزوجه بقية أوليائه؟
القول الأول: يجوز لسائر أوليائه تزويجه.
وهو مذهب الحنفية وبعض الحنابلة.
دليلهم: أنه احتاج للنكاح ومقتضى الولاية النظر في مصلحته والسعي في سد حاجته.
القول الثاني: ليس لسائر أوليائه تزويجه لكن يرفع الأمر للحاكم فيزوجه الحاكم.
وهو قول المالكية والشافعية والصحيح عند الحنابلة.
دليلهم: خشية أن يحصل تساهل من وليه لنقصان شفقته وقلة حرصه عليه فلا يقاس على الأب ولا بأس أن يزوجه الحاكم إذا رأى مصلحة وحاجة له فيه إلا أن الشافعية زادوا الجد لأنه يعتبر أبا له.
الترجيح: الراجح لا يزوجه أولياؤه حتى الجد لقصور الجميع عن الأب ويعرض أولياؤه أمره على الحاكم فإن رأى الحاجة والمصلحة في تزويجه أذن لهم في تزويجه بتوكيلهم أمر زواجه أو زوجه هو بنفسه.
تنبيه: الكبير الذكر العاقل ليس لأبيه ولا لأحد من أوليائه تزويجه بغير إذنه لأنه أهل للتصرف ولأخذ الإذن منه وظاهر كلام أهل المذاهب أنهم لا يختلفون في هذا لكن إذا كان قد فعل مع والده شيئا يدل على أنه سامح بذلك أي أن يعقد له من كلمة مناسبة أو شيء يدل على أنه موافق وأنه يرضى بأن يزوجه والده فالنكاح صحيح فإذا وجد من الولد ما يدل على إذنه لوالده وسماحه لوالده بالتزويج عنه فإنه صحيح([11]).
([1]) المفهم للقرطبي (4/117).
([2]) مراجع: فتح القدير (3/270) حاشية ابن عابدين (4/124)، فتح الباري (10/243)، مغني المحتاج (3/194)، حاشية الخرشي المالكي (4/144)، المغني (9/410)، مجموع الفتاوى لابن تيمية (32/29، 42)، الإنصاف (8/64).
([3]) مراجع: حاشية ابن عابدين (4/123)، فتح القدير (3/270)، حاشية الدسوقي (3/17)، مغني المحتاج (3/194)، المغني (9/411)، الإنصاف (8/65).
([4]) مراجع: فتح القدير (3/307)، المنتقى للباجي (3/310-312)، شرح الزرقاني على الموطأ (3/144)، فتح الباري (10/244)، مجموع الفتاوى لابن تيمية (32/29، 42)، الإنصاف (8/82)، المغني (9/379).
([5]) سبق تخريجه.
([6]) سبق تخريجه.
([7]) مراجع: بدائع الصنائع (2/241)، حاشية ابن عابدين (4/127)، حاشية الدسوقي (3/16)، حاشية الخرشي (4/142)، المجموع شرح المهذب (17/268)، مغني المحتاج (3/218)، المغني (9/412)، الإنصاف (8/55، 56، 61)، المحلى مسألة (1826).
([8]) مراجع: حاشية ابن عابدين (4/27، 130)، فتح القدير (3/275، 278)، بداية المجتهد (2/6-7)، حاشية الخرشي (4/194)، المجموع شرح المهذب (17/293)، مغني المحتاج (3/218)، المغني (9/415-417)، الإنصاف (8/52، 61)، المحلى مسألة (1827).
([9]) سنده صحيح: رواه البيهقي (7/143).
([10]) مراجع: بدائع الصنائع (2/241)، حاشية ابن عابدين (4/127)، حاشية الخرشي (4/194)، مغني المحتاج (3/217)، المغني (9/415-417)، الإنصاف (8/52، 61).
([11]) فتاوى نور على الدرب لابن باز (3/1528).
([1]) مراجع: بداية المجتهد (2/5)، فتح الباري (10/239-240)، المغني (9/406).
([2]) رواه البخاري (5136)، ومسلم (1419).
([3]) رواه البخاري (5138).
([4]) مراجع: فتح القدير (3/275، 278)، المسبوط (2/831، 833)، بداية المجتهد (2/6)، المفهم للقرطبي (4/118، 120)، فتح الباري (10/239-240)، النجم الوهاج (7/72-73)، المغني (9/398، 402)، الإنصاف (8/54، 57، 62)، مجموع فتاوى ابن تيمية (32/43)، المحلى مسألة (1826)، فتاوى اللجنة الدائمة (18/129-130)، الشرح الممتع (12/55، 56).
([5]) رواه البخاري (3894)، ومسلم (1422).
([6]) سيأتي تخريجه.
([7]) سنده صحيح: رواه أحمد (4/394، 411)، وأبو يعلى (7327)، وابن حبان (4085)، والدارقطني (3/241)، والحاكم (2/166)، والبيهقي (7/120)، وغيرهم. وجاء بنحوه من حديث أبي هريرة I وسنده حسن، رواه عبد الرزاق (10297)، وأحمد (2/259)، وأبو داود (2093)، والترمذي (1135)، والنسائي (6/87)، وأبو يعلى (7328)، وابن حبان (4079)، والبيهقي (7/120) وغيرهم.
([8]) سنده حسن: رواه أحمد (2/130)، والدارقطني (3/230)، والبيهقي (7/120-121)، وكذا أخرجه ابن ماجه (1878) مختصرا بسند ضعيف.
([9]) مراجع: فتح القدير (3/275-276)، المبسوط (2/833)، بداية المجتهد (2/7)، فتح الباري (10/248)، مغني المحتاج (3/194)، المغني (9/404)، الإنصاف (8/57، 62)، كشاف القناع (5/46)، مجموع الفتاوى لابن تيمية (32/43)، زاد المعاد (5/100)، المحلى مسألة (1826)، الشرح الممتع (12/65).
([10]) حاشية الخرشي (4/149).
([11]) مراجع: شرح مسلم للنووي (9/176)، المفهم للقرطبي (4/121)، نيل الأوطار (4/191)، فتاوى اللجنة الدائمة (18/125).
([12]) رواه البخاري (5134)، ومسلم (1422).
([13]) مراجع: فتح القدير (3/274، 277)، المبسوط (2/836)، بداية المجتهد (2/5)، مغني المحتاج (3/194)، الإنصاف (8/56)، كشاف القناع (5/43)، المحلى مسألة (1826).
([14]) مراجع: فتح باب ال عناية (2/32)، حاشية الدسوقي (3/16)، بداية المجتهد (2/5)، النجم الوهاج (7/70)، فتح الباري (10/243)، سنن البيهقي مع الجوهر النقي (7/115)، المغني (9/399)، مجموع الفتاوى (32/22، 29)، زاد المعاد (5/98)، الإنصاف (8/55)، المحلى مسألة (1826).
([15]) رواه البخاري (5136)، ومسلم (1419).
([16]) رواه البخاري (6971)، ومسلم (1420).
([17]) رواه مسلم (1421).
([18]) حسن بشواهده: رواه أحمد (1/273)، وأبو داود (2096، 2097)، والنسائي في الكبرى (3/284)، وابن ماجه (1875)، والدارقطني (3/235)، والبيهقي (7/117)، وابن أبي حاتم في علله (1/417)، موصولا ومرسلا ورجح أبو داود وأبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني والبيهقي إرساله. وله شواهد:
الأول: عن جابر مرفوعا بنحوه وفيه: «فرد نكاحها» رواه النسائي في الكبرى (3/283)، والدارقطني (3/233)، والبيهقي (7/117)، والصواب فيه الإرسال كما رجحه الإمام أحمد والدارقطني والبيهقي ومع إرساله في سنده إبراهيم بن مرة فيه مقال.
الثاني: عن عائشة وفيه أن فتاة جاءت إلى النبي H فقالت: يا رسول الله، إن أبي زوجني ابن أخيه يرفع بي خسيسته " فجعل الأمر إليها " قالت: فإني قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء. وهو عن عبد الله بن بريدة عن عائشة. رواه أحمد (6/136)، والنسائي (6/87)، والدارقطني (3/233)، والبيهقي (7/118)، وهو مرسل فعبد الله بن بريدة لم يسمع من عائشة كما قاله الدارقطني والبيهقي وقال النسائي في سننه الكبرى (3/284) على حديث عائشة: هذا الحديث يوثقونه. اهـ.
الثالث: عن بريدة بلفظ حديث عائشة رواه ابن ماجه (1874) وهو وهم إنما هو من حديث عائشة. رواه هناد بن السري عن وكيع عن كهمس عن ابن بريدة عن أبيه به. ورواه غير هناد عن وكيع عن كهمس عن ابن بريدة عن عائشة به. وهكذا رواه الجماعة عن كهمس عن ابن بريدة من حديث عائشة.
الرابع: من حديث ابن عمر بنحو حديث ابن عباس السابق رواه الدارقطني (3/236) وضعفه. وسئل الإمام أحمد عن حديث ابن عمر هذا فقال: باطل. كما في نصب الراية للزيلعي (3/192).
وبالجملة هذا الحديث بمجموع هذه الشواهد يكون حسنا لغيره قال الحافظ ابن حجر في الفتح (10/246) أما الطعن في الحديث فلا معنى له فإن طرقه يقوي بعضها ببعض. اهـ
ورجح الألباني في حديث ابن عباس السابق الإرسال ثم قال: لكن للحديث طرق أخرى وشواهد يقوي بعضها بعضا. صحيح أبي داود (1827).
([19]) رواه مسلم (9/175)، وأبو داود (2099) وقال: زيادة (أبوها) غير محفوظ. وهكذا قال الدارقطني في سننه (3/241) والبيهقي في سننه (7/116) فقد تفرد بها سفيان بن عيينة عن زياد بن سعد ورد الحافظ ابن حجر هذا الإعلال فقال: وهذا لا يدفع زيادة الثقة الحافظ ـ أي زيادة لفظ (أبوها) ـ الفتح (10/243). وقال ابن التركماني في الجوهر النقي مع سنن البيهقي (7/116) متعقبا إعلال البيهقي: لو كانت غير محفوظة لم يخرجها الإمام مسلم. اهـ.
([20]) سبق تخريجه.
([21]) صحيح: رواه عبد الرزاق (10299)، وأحمد (1/261، 334)، وأبو داود (2100)، والنسائي (6/84)، والدارقطني (3/239)، والبيهقي (7/118)، وغيرهم، وإسناده صحيح وله شواهد مرت.
([22]) سبق تخريجها عند ذكر المسألة الثانية.
([23]) التلخيص الحبير تخريج أحاديث الرافعي الكبير (3/184).
([24]) مراجع: حاشية ابن عابدين (4/122)، فتح الباري (10/243)، شرح مسلم (9/175)، المغني (9/407)، مجموع الفتاوى لابن تيمية (32/24)، الإنصاف (8/64)، المحلى مسألة (1839)، الشرح الممتع (12/67).
([25]) متفق عليه، سبق تخريجه.