2025/01/15
المبحث الثالث: العدل بين الزوجات في غير القسم

المبحث الثالث: العدل بين الزوجات في غير القسم

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: سفر الزوج ببعض نسائه([1]).

اختلف العلماء في الرجل يسافر ويريد أن تصحبه بعض نسائه:

القول الأول: يجب عليه أن يقرع بين نسائه ولا يختار من شاء منهن.

مذهب جمهور العلماء منهم الشافعية والحنابلة والظاهرية وقول للمالكية.

دليلهم: أن هذا الذي كان يفعله رسول الله H فعن عائشة قالت: كان النبي H إذا أراد السفر أقرع بين نسائه وأيتهن خرج سهمها خرج بها معه([2]).

وهذا الفعل من رسول الله H لبيان كيفية العدل بين النساء إذا أراد الزوج السفر ببعضهن.

فإذا كان القسم واجبًا في حقه فالاستدلال بالحديث على وجوب القرعة واضح وإذا كان القسم غير واجب عليه فقد كان يفعله ويلزم نفسه به كفعل الواجب واختيار الزوج من شاء من نسائه للسفر معه لتفاوت منافعهن لا دليل عليه ولم يأت عن رسول الله H أنه فعله مع تفاوت نسائه في المنفعة وتخصيصه ببعض أنواع السفر تخصيص لا دليل عليه.

وأيضا السفر بإحداهن بغير قرعة فيه تفضيل لها وميل إليها وظلم للأخريات والعدل بين الزوجات واجبًا لا يخص منه شيء إلا بدليل ولم يخص الدليل إلا السفر وبالقرعة فما دونه يكون ظلما ومنه السفر بمن شاء منهن بدون قرعة.

القول الثاني: يختار من شاء من نسائه والأفضل الإقراع بينهن.

مذهب الحنفية وهو المذهب عند المالكية إلا أن المشهور عندهم استثناء الحج والغزو.

دليلهم: أن بعض النساء قد تكون أنفع في السفر من غيرها فلو خرجت القرعة للتي لا نفع فيها في السفر لأضر بحال الزوج وربما وجد ما يمنع من سفر إحداهن كخشية الفتنة عليها أو كانت مريضة أو سمينة جدا أو معها أولاد يحتاجون رعاية فتعين السفر بها لخروج القرعة عليها فيه ضرر شديد وأيضًا قد تكون بعض النساء أقوم برعاية مصالح بيت الرجل في الحضر فلو خرجت عليها القرعة بالسفر لأضر بحال الرجل من رعاية مصالح بيته في الحضر فقد يثق ببعضهن في الحضر والبقاء في المنزل لحفظ الأمتعة ولخوف الفتنة.

وأما ما جاء عن رسول الله H أنه كان إذا أراد السفر أقرع بين نسائه فهو مجرد فعل ولم يأمر به أمته فلا يلزم منه الوجوب وإنما هو للاستحباب مع أنه H لم يكن القسم واجبًا عليه إنما كان يقسم تفضلا عليهن فلا يؤخذ من فعله وجوب القرعة بين الزوجات أو أنه يدل على وجوب القرعة بينهن إذا خرج للغزو لأن رسول الله H إنما كان سفره للغزو والأفضل الإقراع بينهن اقتداء برسول الله H وتطييبا لقلوبهن.

وما ذكره المالكية من إيجاب القرعة بينهن في سفر الغزو والحج لأن المشاحاة بين النساء تعظم في سفر القربات ولفعل رسول الله H وسفره إنما كان للغزو والحج.

الترجيح: الأرجح ما عليه جمهور العلماء أن من أراد السفر وأراد أخذ بعض نسائه فإنه يجب عليه أن يقرع بينهن فهذا القول هو الذي يؤيده الدليل لكن إذا كان يتضرر فعلا بسبب سفر إحداهن معه كأن يريد أن يسافر إلى بلاد الكفر أو لمدة طويلة أو له أولاد يتضررون بسفر أمهم أو هنالك مانع فله أن يصطلح معها على مال أو سفر آخر أو نحو ذلك ويختار من نسائه من يحتاج إليه سفره من باب: (المشقة تجلب التيسير).

وإذا سافر بإحدى نسائه بالقرعة لم يلزمه القضاء للباقيات بعد قدومه، بل يبدأ قسما جديدا وعلى هذا عامة العلماء لأن عائشة J في الحديث السابق لم تذكر أن رسول الله H كان يقضي للحاضرات بعد قدومه.

ولأنه خرج بها بحق لا بحيف ولا ميل ولأن هذه التي سافر بها وإن حظت بصحبة الزوج فقد تعبت لمشقة السفر فلو قضى للحاضرات لكان قد ظلم المسافرة.

وأما إذا سافر بها بدون قرعة ولا رضى من بقيت نسائه فيلزم عليه القضاء للباقيات ليتحقق العدل.

وهو مذهب الشافعية والظاهرية وهو المذهب عند الحنابلة.

واختلفوا إذا عزم على الإقامة أثناء سفره في بلده مدة هل يلزم عليه القضاء للباقيات أم لا؟

القول الأول: يلزم عليه أن يقضي لهن إذا أقام أكثر من أربعة أيام، وأما إذا أقام أقل منها فلا يقضي.

مذهب الشافعية وبعض الحنابلة.

دليلهم: أن من عزم على الإقامة في بلده فوق أربعة أيام فإنه في حكم المقيم فتلزمه أحكام المقيم فتكون إقامته معها في غير سفر، وأما أقل من أربعة فهو في حكم المسافرين.

القول الثاني: يلزمه القضاء ولو بقي أقل من أربعة أيام.

المذهب عند الحنابلة.

دليلهم: أنه نوى الإقامة والزوج يقسم بين نسائه إذا كان مقيما فلا فرق بين بلدة وغيرها ولا يقضي ما بقاه مع من سافر معها إذا كان في زمن السير.

القول الثالث: لا يلزمه القضاء للباقيات مطلقا.

مذهب الحنفية والمالكية والظاهرية.

دليلهم: أما عند الظاهرية أنه سافر بها بقرعة فلا ظلم ولا حيف فلا يلزمه القضاء.

وأما عند الحنفية والمالكية فلأن القسم في الحضر فقط لهذا يجوز له أن يسافر ولا يأخذ معه أحد من نسائه ولأن القسم يفوت لفوات زمانه فلا قضاء فيه ـ كما مر معنا سابقا من مذهبهما ـ.

الترجيح: الأرجح القول الثالث لا يلزمه القضاء للأخريات فلا دليل على لزوم القضاء عليه بشرط أن تكون إقامته أثناء سفره في بلدة للحاجة لذلك وبقدر الحاجة أما لغير حاجة أو زيادة على الحاجة فيلزمه القضاء لأجل العدل، والله أعلم.

المسألة الثانية: التسوية بين النساء في الحب والجماع([3]).

عامة العلماء على أنه لا يجب على الرجل التسوية بين نسائه في الحب والجماع لأن المحبة ميل القلب وهو لا يُملك فلا حرج عليه إن كان يحب بعضهن أكثر من بعض فالرجال بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض دون بعض.

ولأن الجماع موقوف على المحبة والميل وهذا بيد مقلب القلوب فهو مما لا يملكه ولأن المجامعة تبنى على النشاط والانتشار والشهوة وهذه لا تأتي في كل وقت ولا سبيل للرجل إلى التسوية بينهن في ذلك فلا حرج عليه أن يطأ بعضهن أكثر من بعض وأن ينشط للجماع عند واحدة دون الأخرى، وقد قال تعالى: ﴿ وَلَن تَسۡتَطِيعُوٓاْ أَن تَعۡدِلُواْ بَيۡنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوۡ حَرَصۡتُمۡ ﴾ [النساء : ١٢٩] أي في الحب والجماع.

فأخبر تعالى بنفي الاستطاعة في العدل بين النساء وذلك في ميل الطبع بالمحبة والجماع والحظ من القلب.

وقال تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَا ﴾ [البقرة: ٢٨٦] وقال: ﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ ﴾ [التغابن : ١٦]

وعن عائشة قالت: كان رسول الله H يقسم فيعدل ويقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك([4])» يعني: القلب.

وعن عمر I أنه قال لحفصة: لا يغرنك إن كانت جارتك ـ يعني عائشة ـ أوضأ منك وأحب إلى رسول الله منك. وفي رواية: لا يغرنك هذه التي أعجبها حسنها وحب رسول الله إياها. يريدعائشة([5]).

والمستحب أن يسوي بينهن في جميع الاستمتاعات من الوطء وغيره.

لكن إذا ترك جماعها مع وجود الداعي إليه منه وميله للجماع لتتوفر لذته للأخرى لأن داعيه إليها أقوى فلا يجوز له لأن هذا مما يدخل تحت قدرته وملكه كما نص عليه جماعة من العلماء فزالت العلة وبقي الحكم على الأصل وهو العدل.

المسألة الثالثة: التسوية بين النساء في النفقة والكسوة والمسكن([6]).

اختلف الفقهاء في وجوب التسوية بين الزوجات في النفقة والكسوة والمسكن:

القول الأول: لا يجب على الزوج التسوية بين نسائه في النفقة والكسوة والسكنة إذا قام بالواجب لكل واحدة منهن فله أن يفضل إحداهما على الأخرى فيما سبق ويوسع عليها إذا أعطى الأخرى ما يكفيها من نفقة وكسوة وسكنه.

وهو مذهب جمهور الفقهاء فهو قول بعض الحنفية والمذهب عند المالكية ومذهب الشافعية والمذهب عند الحنابلة.

دليلهم: أن العدل بينهن يكون بعدم ظلم بعضهن فيما وجب لهن من نفقة وكسوة وسكنة.

وأما ما زاد عن الحد الواجب لكل واحدة فهو تطوع منه فله أن يجعله فيمن شاء منهن والأصل تصرف الإنسان في ماله مطلقا إذا أدى ما يجب عليه.

ولأن التسوية فيها تشق فلو وجب عليه لم يمكنه القيام به إلا بحرج ومشقة فسقط وجوبه كالتسوية في الوطء.

وأما التسوية في القسم فهي ممكنه وبدون مشقة.

وقد جاء عن أم سلمة أن رسول الله H قال لها: إني قد أهديت إلى النجاشي حلة وأواق من مسك، ولا أرى النجاشي إلا قد مات، ولا أرى هديتي إلا مردودة علي فإن ردت علي فهي لك قال وكان كما قال رسول الله H وردت عليه هديته فأعطى كل امرأة من نسائه أوقية مسك وأعطى أم سلمة بقية المسك والحلة([7]). فخص أم سلمة بالحلة دون بقية نسائه.

وأدلة المخالفين تحمل على التسوية في القسم أو على القيام بالقدر الواجب لما تحصل به الكفاية دون الزيادة فعدم القيام بالكفاية ينافي العدل وليست هذه الأدلة عامة بدليل خروج التسوية في الوطء منها.

القول الثاني: يجب على الزوج التسوية بين زوجاته في النفقة والكسوة والسكنة فلا يفضل إحداهما على الأخرى ولا يخص إحداهما بزائد عن الأخرى.

وهو المذهب عند الحنفية وقول بعض المالكية واختيار ابن تيمية والشوكاني والسعدي وابن باز وابن عثيمين واللجنة الدائمة.

دليلهم: قوله تعالى: ﴿ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً ﴾ [النساء : ٣] فهذا يشمل القسم والنفقة والسكنى.

وقوله تعالى: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِ ﴾ [النساء : ١٩] وليس من المعاشرة بالمعروف عدم العدل بينهن بالمأكول والمشروب والملبوس والمسكن مع قدرته على ذلك.

وحديث أبي هريرة: «من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما...([8])» وهذا عام يشمل الميل في النفقة والكسوة والسكنة فلو أعطى إحداهما ما يجب عليه من النفقة وزاد الأخرى عن الواجب كان قد مال فالحديث أعم من الإنفاق الواجب.

وأيضا قياسا على وجوب التسوية في القسم وإلا لجاز له أن يقسم للواحدة ليلة من أربع لأنه الواجب ويبيت الباقي عند الأخرى.

ولا يقاس على عدم وجوب التسوية بينهن في الوطء وذلك لحصول المشقة في التسوية في الوطء وأما التسوية بينهن في النفقة والكسوة والسكنة فهي تحت قدرة الزوج فتلحق بالقسم.

فعدم التسوية فيها ظلم وجور ليس لأجل عدم القيام بالواجب بل لأن كل عدل يقدر عليه بين زوجاته فإنه واجب عليه بخلاف ما لا قدرة له عليه كالوطء وتوابعه.

الترجيح: الأحوط والأسلم للزوج أن يسوي بينهن في النفقة من المأكل والمشرب والكسوة والسكنى وهذا كله بعد إعطاء الواجب والقدر الواجب يتفاوت بحسب تفاوت النساء في الحاجة وقدر الكفاية فإذا أعطى لكل واحدة ما يجب لها عليه بقدر حاجتها وكفايتها فالأحوط له والأسلم لدينه من الإثم ولعرضه من طعن الناس أن يسوي بينهن فيما 

زاد عن القدر الواجب.

فائدة: قال ابن عثيمين: من العدل على القول الراجح أن يعدل بينهما في المخاطبة فلا يجوز أن يخاطب إحداهما بعنف وقسوة والثانية برفق ولين لأن هذا خلاف العدل ولأنه يكسر قلب إحداهما. اهـ

المسألة الرابعة: الجمع بين الزوجات في مسكن واحد([1]).

اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز للرجل أن يجمع بين زوجاته في مسكن واحد إلا برضاهن سواء كان البيت صغيرا أم كبيرا لأن فيه ضررا عليهن لما بينهما من العداوة والغيرة واجتماعهما يثير المخاصمة بينهن.

وكما أنه لا يعطيهن جميعا ملبسا واحدا فكذلك المسكن.

ولأن هذا هو الذي فعله رسول الله H مع نسائه مع شدة فقره وحاجته فكان له تسع نسوة لكل واحدة منهن بيت مستقل.

 

 

وآخر دعوانا ﴿ أَنِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٠

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

تم الانتهاء من تأليفه مع مراجعته في:

10/11/1437هـ

الموافق: 13/8/2016م

كتبه/

أبو مالك توفيق بن محمد بن نصر البعداني

دار الحديث ـ معبر ـ اليمن

 


([1]) مراجع: حاشية ابن عابدين (4/291)، حاشية الدسوقي (3/208)، روضة الطالبين (5/661)، مغني المحتاج (3/322)، المغني (10/234)، الإنصاف (8/359).

 

([1]) مراجع: حاشية ابن عابدين (4/286، 288)، فتح باب العناية (2/81)، الذخيرة (4/464)، إكمال المعلم (7/453)، حاشية الدسوقي (3/205، 209)، مواهب الجليل من أدلة خليل (3/127)، روضة الطالبين (5/671)، شرح مسلم للنووي (15/168، 171)، البيان في مذهب الشافعي (9/522)، معالم السنن للخطابي (3/188)، مغني المحتاج (3/328)، فتح الباري (10/389)، المغني (10/253)، الإنصاف (8/368)، كشاف القناع (5/204)، المحلى (9/217) مسألة (1896)، سبل السلام (3/346)، أحكام تعدد الزوجات (ص170).

([2]) رواه البخاري (5211)، ومسلم (2445).

([3]) مراجع: فتح القدير (3/432)، حاشية ابن عابدين (4/283)، إكمال المعلم (4/660)، الجامع لأحكام القرآن (7/167)، حاشية الدسوقي (3/204)، مغني المحتاج (3/321)، المغني (10/245)، مجموع فتاوى ابن تيمية (32/269)، زاد المعاد (5/154)، كشاف القناع (5/200)، الشرح الممتع (12/428).

([4]) فيه ضعف: رواه أحمد (6/144)، وأبو داود (2134)، والنسائي (7/64)، والترمذي (1172)، وابن ماجه (1971)، وابن حبان (4305) وغيرهم، وقد اختلف في وصله وإرساله. والصواب فيه الإرسال كما رجحه جماعة منهم الترمذي في سننه وأبو زرعة في علل ابن أبي حاتم (1/425) وهو ترجيح الشيخ الألباني في الإرواء (2018).

([5]) رواه البخاري (5191، 5218)، ومسلم (1479).

([6]) مراجع: بدائع الصنائع (2/332)، حاشية ابن عابدين (4/282)، إعلاء السنن للتهانوي (8/3787)، المنتقى للباجي (3/353)، مواهب الجليل (5/254)، المفهم للقرطبي (4/205)، حاشية الدسوقي (3/204)، فتح الباري (10/392)، مغني المحتاج (3/321)، المغني (10/242)، مجموع فتاوى ابن تيمية (32/270)، الاختيارات للبعلي (ص356)، الإنصاف (8/264)، كشاف القناع (5/200)، السيل الجرار (2/302)، فتاوى اللجنة الدائمة (19/198، 200، 205)، فتح ذي الجلال والإكرام (11/431)، الفتاوى الإسلامية للمسند (2/366)، الفتاوى الجامعة للمرأة لأمين الوزان (2/626)، أحكام القسم بين الزوجات (ص44).

([7]) إسناده ضعيف: رواه أحمد (6/404)، وابن حبان (5114)، والبيهقي (6/26) وغيرهم، وفي سنده مسلم بن خالد الزنجي ضعيف وأم موسى بن عقبة لا تعرف.

([8]) سبق تخريجه.

هذه الصفحة طبعت من - https://sheikh-tawfik.net/art.php?id=2078