وَعَنْ جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ ، قَالَ H: «ابْدَؤُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ». أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ, هَكَذَا بِلَفْظِ الْأَمْرِ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ الْخَبَرِ.
تخريج الحديث:
حديث جابر بلفظ الأمر: أخرجه النسائي (5/236)، قاله رسول الله H عندما دنا من الصفا، وقرأ قوله تعالى: ﴿ إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ ﴾ [ البقرة: ١٥٨ ]، ورواه مسلم (8/12)، ولكن بصيغة الخبر: «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ».
وقد جاء أيضًا عند أبي داود (1905) والنسائي (5/235) وغيرهما بصيغة الخبر، لكن بالجمع: «نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ»، والمحفوظ في الحديث أنه بصيغة الخبر، فهي رواية الأحفظ والأكثر([1])، وأما بلفظ الأمر فهو شاذ([2]).
فقه الحديث:
مذهب الشافعية، والمشهور عند الحنابلة، والذي وعليه جماعة من أهل العلم: أن الترتيب بين أعضاء الوضوء واجب، فلا يصح الوضوء إلا إذا كان مرتبًا، فلو ابتدأ الشخص بغسل ذراعيه قبل أن يغسل وجهه لا يصح وضوءه، ودليلهم:
الأول: حديث: «ابدَؤُوا بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ»، وهذا بصيغة الأمر يفيد الوجوب، وإن كان النبي H قاله في حجه عندما دنا من الصفا لكن العبرة بعموم اللفظ، فيستدل به على كل ما جاء في الشرع مما حقه التقديم والتأخير.
الثاني: أية الوضوء، قال الله E: ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُواْ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَيۡنِ ﴾ [ المائدة: ٦ ]، فذكر الله D أعضاء الوضوء مرتبة، والعطف بالواو الأصل أنه لا يقتضي الترتيب، لكنه هنا يحمل على الترتيب لأمرين:
الأمر الأول: مواظبة النبي H على الترتيب بين الأعضاء الواجبة في الوضوء، وهذا يدل على أن العطف الذي ذكر في الآية يفيد الترتيب.
الأمر الثاني: أن الله E أدخل ممسوحًا بين مغسولات، فالوجه يغسل، واليد تغسل، والرجل تغسل، والرأس يمسح، والمناسب عند العرب أن لا يفصل بين الأشياء التي هي من جنس واحد إلا لغرض وفائدة، والغرض هنا: لأجل الترتيب، وإلا لجمعت الأشياء التي من جنس واحد مع بعضها، ولم يفصل بينها بجنس أخر.
الثالث: ما رواه النسائي (2/225)، وأبو داود (858) وغيرهما، عن رفاعة بن رافع I قال: قال رسو ل الله للمسيء صلاته: «إِنَّهَا لَا تَتِمُّ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، يَغْسِلُ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَيَمْسَحُ بِرَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ»، وإسناده حسن. فأمره النبي H أن يتوضأ كما أمره الله D، والله E أمر بالوضوء وذكر فيه الأعضاء مرتبة، وهكذا ذكره له رسول الله H مرتبًا وأمره به، والأمر يقتضي الوجوب، وهذا القول هو الصحيح، فلا يصح الوضوء إلا مرتبًا.
ومذهب الحنفية والمالكية، ورواية لأحمد: أن الترتيب بين أعضاء الوضوء مستحب؛ لعدم الأمر به، ولما جاء عن المقدام بن معدي كرب في صفة وضوء النبي H: «فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ...»، رواه أبو داود (121) وغيره([4])، ففيه أن النبي H أخر المضمضة والاستنشاق إلى بعد غسل الذراعين، وهذا يدل على عدم وجوب الترتيب في الوضوء. والجواب على هذا الحديث من وجوه:
الوجه الأول: أن في سنده عبد الرحمن بن ميسرة، لم يوثقه معتبر، إلا أنه قد روى عنه من لا يروي إلا عن ثقة، فروايته عنه تعديلًا له.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث خالف أحاديث أخر، أكثر وأصح منه سندًا، فتكون هذه الرواية شاذة؛ لمخالفتها الروايات التي ذكرت المضمضة والاستنشاق قبل غسل الوجه، كحديث عثمان I في وضوء النبي H، وهو في الصحيحين.
الوجه الثالث: يحمل على جواز تقديم وتأخير المضمضة والاستنشاق خاصة، لا سيما عند من يقول باستحبابهما، أما غير المضمضة والاستنشاق فيجب فيها الترتيب.
([1]) تلخيص الحبير (2/269).
([2]) إرواء الغليل (4/318).
([3]) انظر الأوسط (1/422)، المجموع شرح المهذب (1/443)، المغني (1/189).
([4]) وحسنه الألباني في تمام المنة (ص88).