وَعَنْ ثَوْبَانَ I قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ H سَرِيَّةً, فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى الْعَصَائِبِ - يَعْنِي: الْعَمَائِمَ - وَالتَّسَاخِينِ- يَعْنِي: الْخِفَافَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَأَبُو دَاوُدَ, وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
تخريج الحديث:
حديث ثوبان I: رواه أحمد (5/281)، وأبو داود (146)، وهو من طريق راشد بن سعد عن ثوبان، وقد اختلف العلماء في سماع راشد من ثوبان، فأثبت ذلك بعضهم ونفاه بعضهم، والمثبت مقدم على النافي([1])، فالسند صحيح.
وتفسير العصائب والتساخين في الحديث ليس من قول النبي H أو من قول الصحابي، إنما ذكره بعض أهل اللغة.
فقه الحديث:
الجورب: ما يلبس على القدم، وهو مصنوع من صوف أو قطن أو كتان، وهو أطول من خف.
والمنقول عن أكثر أهل العلم: مشروعية المسح على الجوربين؛ لأدلة تدل على جواز ذلك:
الدليل الأول: حديث ثوبان I، ففيه: أن النبي H أباح المسح على التساخين. والتساخين: كل ما يسخن القدم، فيشمل: الخفاف، والجوارب.
الدليل الثاني: أن الجوارب عند العرب تسمى خفافًا أيضًا، روى الإمام الدولابي في كتابه «الكنى» (ص/181) عن أنس I: «أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا مِثْلَ الْخُفَّيْنِ»، وقال: «إِنَّهُمَا خُفَّانِ»، وإسناده صحيح.
الدليل الثالث: أنه قد ثبت عن جماعة من الصحابة المسح على الجوربين، صح عن علي بن أبي طالب، وأبي مسعود الأنصاري، والبراء، وأبي أمامة، وأنس، إلى نحو السبعة من الصحابة، وتعليل بعض أهل العلم بأنها كانت مجلدة، لا يلزم منه أن يكون شرطًا في صحة المسح عليها؛ بل جاء عن النبي H فيما رواه أبو داود (159، 160) وغيره عن جماعة من الصحابة، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ H مَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ»، لكن هذا الحديث لا يثبت([3]).
الدليل الرابع: أن الغرض من الترخيص في المسح: التخفيف والتسهيل على الناس؛ فعليه: لا يكون هناك فرق بين الخف والجورب. وهو الأرجح.
ومذهب المالكية، والذي نص عليه أبو حنيفة والشافعي: أنه لا يشرع المسح عليهما، فالثابت عن رسول الله H المسح على الخفين. وما جاء عن الصحابة يحمل على أنها كانت مجلدة حتى يمكن متابعة المشي عليها؛ لأنه يشترط في الخفين الذين يمسح عليهما أن يمكن متابعة المشي عليهما.
الصفة الأولى: أن يكون ساترًا لمحل الفرض، أي: لجميع القدم مع الكعبين، وهذا الشرط عند عامة أهل العلم؛ فعليه: لا يصح المسح على النعلين.
وقد جاء عن النبي H أنه «مَسَحَ عَلَى النَّعْلَيْنِ»، رواه أحمد (4/9)، والبزار في مسنده (3/42)، والبيهقي (1/386)، وابن خزيمة (1/287) من حديث ابن عمر وعلي وأوس بن أبي أوس وابن عباس y. وقد أجيب على هذا الحديث بأجوبة عديدة منها:
الجواب الأول: أن هذا الحديث لا يصح عن النبي H؛ لكن قد صحح هذا الحديث بعض العلماء([5]). وجاء في الصحيحين إشارة إلى ذلك؛ فعن ابن عمر I قال: «فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ H يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا».
الجواب الثاني: أن متن هذا الحديث مهجور؛ فقد اتفق الفقهاء على عدم مشروعية المسح على النعلين، لكن أجيب عليه: أن الخلاف موجود؛ فقد ثبت عن علي I أنه توضأ ومسح على النعلين. رواه ابن أبي شيبة وغيره، واختاره ابن حزم الظاهري، ونقله عن الأوزاعي.
الجواب الثالث: أن المراد بمسح النبي H على النعلين: أي: مع الجوربين، فمسح على الجوربين والنعلين، لا أنه H مسح على النعل مفردًا. ويدل عليه: ما رواه أبو داود (159، 160) وغيره، عن المغيرة وبلال وأبي موسى الأشعري: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ H مَسَحَ عَلَى الجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ»، وهو حديث ضعيف.
الجواب الرابع: أن المراد: أن النبي H مسح على النعلين غير مسبوق بحدث، كان على وضوء، فأراد أن يجدد الوضوء، فمسح على النعلين، ولم ينتقض الوضوء، فالأمر فيه سهل إذا كان الوضوء من غير حدث.
الجواب الخامس: أن النبي H غسل الرجلين وعليهما نعلان، فكان H لابسًا للنعلين، فتوضأ وغسل القدمين ولم يخلع النعلين، لهذا بوب البخاري على حديث ابن عمر السابق بقَوْلُهُ: «باب غسل الرجلين في النعلين ولا يمسح على النعلين».
الصفة الثانية: أن يكون ثخينًا، وهذا في الخف واضح؛ لأنه من جلد. وأما الجوارب فتتفاوت، وقد اشترط جمهور أهل العلم فيه أن يكون ثخينًا لا رقيقًا، وذلك لأن النبي H أمرهم أن يمسحوا على التساخين، أي: ما يلبس على القدم ويسخن القدم، والجورب إذا كان رقيقًا شفافًا فلا تسخن القدم بسببه، وهو الراجح، وقد ادعى بعضهم اتفاق الأئمة عليه.
الصفة الثالثة: أن يمكن المشي عليه، فلا يكون واسعًا جدًّا ولا ضيقًا جدًّا، وهذا الشرط عند جمهور أهل العلم، لأن الشرع أباح المسح على الخفاف، والخفاف المعتادة هي التي يمكن المشي فيها، وهذا الشرط صحيح أيضًا.
الصفة الرابعة: أن يكون حائلًا لا يصل الماء عن طريقه إلى بشرة القدم، وهذا اشترطه الحنفية، وهو الصحيح عند الشافعية، ووجه للحنابلة. ولم ير باشتراطه الحنابلة في المذهب عندهم، وهو وجه مشهور للشافعية، وهو الأصح، فلا دليل على اشتراطه، ولا معنى مناسب يقتضي اشتراطه.
([1]) التاريخ الكبير (3/292).
([2]) انظر الأوسط (1/462)، المحلى [مسألة] (212)، المجموع شرح المهذب (1/483)، المغني (1/373)، تهذيب سنن أبي داود مع عون المعبود (1/188).
([3]) نصب الراية (1/185).
([4]) انظر المغني (1/372)، المحلى [مسألة] (217)، المجموع شرح المهذب (1/530)، مجموع الفتاوى (21/192)، (21/214)، بدائع الصنائع (1/10)، معونة أولي النهى (1/321)، موسوعة أحكام الطهارة للدبيان (5/83، 205).
([5]) منهم الألباني في تمام المنة (ص/113).