وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ I: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ H قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ, يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ, ثُمَّ تَرَكَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(303) 39- وَلِأَحْمَدَ وَالدَّارَقُطْنِيِّ نَحْوُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ, وَزَادَ: فَأَمَّا فِي الصُّبْحِ فَلَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا.
(304) 40- وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ H: كَانَ لَا يَقْنُتُ إِلَّا إِذَا دَعَا لِقَوْمٍ, أَوْ دَعَا عَلَى قَوْمٍ. صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
(305) 41- وَعَنْ سَعْدِ بْنِ طَارِقِ الْأَشْجَعِيِّ I قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: يَا أَبَتِ! إِنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ H وَأَبِي بَكْرٍ, وَعُمَرَ, وَعُثْمَانَ, وَعَلَيٍّ, أَفَكَانُوا يَقْنَتُونَ فِي الْفَجْرِ? قَالَ: أَيْ بُنَيَّ, مُحْدَثٌ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ, إِلَّا أَبَا دَاوُدَ.
تخريج الأحاديث:
حديث أنس:
اللفظ الأول: رواه البخاري (4089)، ومسلم (677).
واللفظ الثاني: «فَلَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا»، رواه أحمد (3/162)، والدارقطني (2/39)، وسنده ضعيف، ففيه أبو جعفر الرازي عيسى بن ماهان، سيء الحفظ، وأيضًا هذا الحديث في الصحيحين، وليس فيه هذه الزيادة.
حديث أنس أيضًا: رواه ابن خزيمة (620)، وإسناده صحيح.
حديث سعد بن طارق الأشجعي I: رواه أحمد (3/472)، والنسائي (2/203)، والترمذي (402)، وابن ماجه (1241) وإسناده صحيح.
فقه الأحاديث:
المسألة الأولى: القنوت في صلاة الفجر([1]):
الصحيح من أقوال أهل العلم: أنه لا يشرع المداومة على القنوت في الركعة الأخيرة من صلاة الفجر، وهو مذهب جماعة من السلف والحنفية والحنابلة وعامة فقهاء الحديث، وهو المأثور عن الخلفاء الراشدين، فلم يثبت عن النبي H أنه داوم عليه، وإنما قنت في الفجر شهرًا؛ لنازلة حدثتْ في زمنه، ثم ترك، فعن أنس بن مالك I: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ H قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ، يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ، ثُمَّ تَرَكَهُ»، وفي رواية في الصحيحين: «قَنَتَ شَهْرًا فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ...».
وأما ما جاء عن أنس من وجه آخر: «فَأَمَّا فِي الصُّبْحِ فَلَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا»، فهو حديث ضعيف - كما مر في التخريج -.
وعن سعد بن طارق الأشجعي I عن أبيه، أنه صلى خلف النبي H وخلف الخلفاء الراشدين فلم يكونوا يقنتون في صلاة الفجر، وقال: محدث، أي: بدعة.
وإذا صلى المأموم الذي لا يرى بمشروعيته خلف الإمام الذي يقنت في صلاة الفجر؛ ففي متابعته له قولان عند الحنفية والحنابلة:
الأول: يتابع إمامه في القنوت، وإن لم يكن يرى بمشروعيته، وذلك لأن القنوت في صلاة الفجر مما يسوغ الاجتهاد فيه، لهذا اختلف السلف والفقهاء في مشروعيته، وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة I أن النبي H قال: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ»، ولما فيه من تأليف للقلوب، وسد لأبواب الفتنة والاختلاف بين المصلين.
الثاني: أن المأموم لا يتابع الإمام في القنوت، لأنه لا يرى بمشروعيته، وإنما يتابع المأمومُ الإمامَ، ولا يختلف عليه فيما يراه مشروعًا. وهو الأقرب والله أعلم.
ومذهب المالكية والشافعية: أنه يشرع المداومة على القنوت في صلاة الفجر ولو لم توجد نازلة، فقد داوم عليه رسول الله H حتى توفي، كما ذكره أنس I، ولأنه جاء عن بعض الصحابة.
المسألة الثانية: القنوت في النوازل([2]):
الصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم: أنه يسن القنوت في النوازل إذا هجم العدو على المسلمين أو تسلط عليهم، ويكون القنوت في هذه النازلة بالدعاء للمسلمين بالنصر والنجاة، وبالدعاء على الكافرين بالهزيمة والهلاك؛ فقد ثبت عن النبي H أنه قنت في بعض النوازل، ففي حديث أنس I: «قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ H شَهْرًا حِينَ قُتِلَ الْقُرَّاءُ»، ولا بأس بالتعيين في قنوت النوازل، بأن يقول: اللهم نج فلانًا أو قبيلة فلان، واللهم عليك بفلان أو قبيلة فلان، كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة I أن النبي H قال في قنوته: «اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ».
ويشرع قنوت النازلة في الصلوات الخمس، وهو الصحيح عند الشافعية والحنابلة، وقول بعض المالكية، وهو الراجح؛ فقد جاء في الصحيحين من حديث أنس I: «أَنّ رَسُولَ اللَّهِ H قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، يَدْعُو عَلَى بَنِي عُصَيَّةَ»، وفي رواية: «وَصَلَاةِ الْمَغْرِبِ»، وجاء في الصحيحين عن أبي هريرة I أنه قال: «لَأُقَرِّبَنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ H فَكَانَ يَقْنُتُ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَصَلَاةِ الْعِشَاءِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ»، وروى أحمد (1/301) وغيره عن ابن عباس L: «قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ H شَهْرًا مُتَتَابِعًا فِي الظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ، وَالْعِشَاءِ، وَالصُّبْحِ... الحديث»، وإسناده حسن.
المسألة الثالثة: محل القنوت([3]):
ذهب جماعة من السلف، ومذهب الشافعية، والصحيح عند الحنابلة، وقول للحنفية: أنه يستحب القنوت في النوازل بعد الركوع من الركعة الأخيرة، فأكثر الأحاديث على هذا، منها: حديث أنس I قال: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ H قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ»، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة I قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ H يَقُولُ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ، مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَيُكَبِّرُ، وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ...»، ونحوه في صحيح مسلم من حديث خفاف بن إيماء الغفاري I، وهو الراجح.
ويشكل عليه ما جاء في الصحيحين عن عاصم الأحول: «سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ I عَنْ الْقُنُوتِ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: كَانَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ؟ قَالَ: قَبْلَهُ، قُلْتُ: فَإِنَّ فُلَانًا أَخْبَرَنِي عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتُ: بَعْدَهُ، قَالَ: كَذَبَ، إِنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ H بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا».
والجواب عليه من وجوه، منها:
الأول: أن هذه الرواية معلة، أعلها بعض الحفاظ كأحمد والبيهقي، وذلك لأن الأكثر والأحفظ من الرواة ذكروا هذا الحديث عن أنس I، ولم يذكروا ما رواه عاصم الأحول، فكانت روايته مضطربة متناقضة.
الثاني: أنه لا تعارض؛ لإمكان الجمع، بأن النبي H كان يقنت بعد الركوع، والذي كان يفعله بعض السلف في زمن أنس I أن القنوت قبل الركوع، وأنس كان يأخذ باجتهادهم، إما لأنه لا يريد أن يختلف معهم، وإما لأنه بلغه أن النبي H قنت قبل الركوع، والذي شاهده من رسول الله H القنوت بعده، وإما أنه يرى بأنه منسوخ.
والظاهر: أنه لا بأس بالقنوت قبل الركوع أحيانًا، ولكن المستحب أن يكون القنوت بعد الركوع، فالأحاديث فيه أكثر وأصح. وأما ما رواه النسائي (3/235)، وابن ماجه (1182) عن أبي بن كعب I: «أَنّ رَسُولَ اللَّهِ H كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ، كَانَ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى بِـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) وَفِي الثَّانِيَةِ بِـ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) وَفِي الثَّالِثَةِ بِـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ»، فقَوْلُهُ: «قَبْلَ الرُّكُوعِ» زيادة شاذة، فأكثر الرواة رووا هذا الحديث بدون هذه الزيادة([4]).
المسألة الرابعة: التأمين ورفع اليدين في القنوت([5]):
لا نعلم خلافًا بين أهل العلم في مشروعية التأمين خلف الإمام في دعاء النازلة، وقد روى أحمد وغيره عن ابن عباس L: «قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ H شَهْرًا مُتَتَابِعًا فِي الظُّهْرِ، وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ، وَالْعِشَاءِ، وَالصُّبْحِ،... يَدْعُو عَلَيْهِمْ، عَلَى حَيٍّ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ، وَيُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ»، وإسناده حسن كما سبق.
والصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم: أنه يستحب رفع اليدين في القنوت، فقد روى أحمد (3/137)، والبيهقي (2/211) عن أنس I في قنوت النبي H عندما قُتل القراء وفيه: «رَفَعَ يَدَيْهِ فَدَعَا عَلَيْهِمْ»، وأصل الحديث في الصحيحين دون قَوْلُهُ: «رَفَعَ يَدَيْهِ»، ولكنها زيادة صحيحة، والله أعلم.
ويساعده: ما جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الرحمن بن سمرة I: «بَيْنَمَا أَنَا أَرْمِي بِأَسْهُمِي فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ H، إِذِ انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَنَبَذْتُهُنَّ، وَقُلْتُ: لأَنْظُرَنَّ إِلَى مَا يَحْدُثُ لِرَسُولِ اللهِ H فِي انْكِسَافِ الشَّمْسِ الْيَوْمَ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ يَدْعُو» مع ما جاء من الأدلة في الحث على رفع اليدين عند الدعاء.
([1]) المغني (2/585)، شرح مسلم (5/150)، الفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/249)، مجموع الفتاوى (23/107، 115)، الإنصاف (2/174)، العناية بشرح النقاية (1/325).
([2]) المغني (2/584)، شرح مسلم (5/105)، المجموع شرح المهذب (3/505)، فتح الباري (3/177)، الإنصاف (2/172)، نيل الأوطار (2/155).
([3]) انظر المراجع السابقة، المحلى (3/55)، فتح الباري لابن رجب (9/193).
([4]) سنن البيهقي (3/39)، تلخيص الحبير (2/19).
([5]) انظر المراجع السابقة.