- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ I: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ H قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْتَطَبَ, ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا, ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ, ثُمَّ أُخَالِفُ إِلَى رِجَالٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ, فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ, وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
(397) 05- وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ H: «أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ: صَلَاةُ الْعِشَاءِ, وَصَلَاةُ الْفَجْرِ, وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(398) 06- وَعَنْهُ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ H رَجُلٌ أَعْمَى فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ, فَرَخَّصَ لَهُ, فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ, فَقَالَ: «هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ?» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَأَجِبْ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(399) 07- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ L, عَنْ النَّبِيِّ H قَالَ: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ». رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ, وَالدَّارَقُطْنِيُّ, وَابْنُ حِبَّانَ, وَالْحَاكِمُ, وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ, لَكِنْ رَجَّحَ بَعْضُهُمْ وَقْفَهُ.
(400) 08- وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ I: أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ H صَلَاةَ الصُّبْحِ, فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ H إِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا, فَدَعَا بِهِمَا, فَجِيءَ بِهِمَا تَرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا, فَقَالَ لَهُمَا: «مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا?» قَالَا: قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا. قَالَ: «فَلَا تَفْعَلَا, إِذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمْ, ثُمَّ أَدْرَكْتُمْ الْإِمَامَ وَلَمْ يُصَلِّ, فَصَلِّيَا مَعَهُ, فَإِنَّهَا لَكُمْ نَافِلَةٌ». رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَاللَّفْظُ لَهُ, وَالثَّلَاثَةُ, وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ, وَابْنُ حِبَّانَ.
تخريج الأحاديث:
حديث أبي هريرة I: رواه البخاري (644)، ومسلم (651).
حديث أبي هريرة I: رواه البخاري (657)، ومسلم (651).
حديث أبي هريرة I: رواه مسلم (653).
حديث ابن عباس L: رواه ابن ماجه (793)، والدارقطني (1/419)، وابن حبان (2061)، والحاكم (245)، ورجاله ثقات، لكن رجح بعض الحفاظ فيه الوقف، منهم أحمد والبخاري والبيهقي([1])، فقد رواه بعض الثقات عن شعبة ابن الحجاج مرفوعًا، وأكثر أصحاب شعبة رووا هذا الحديث عنه موقوفًا، وبعضهم أوثق وأحفظ ممن رواه مرفوعًا، فعليه: المحفوظ في الحديث الوقف.
وجاء من حديث أبي موسى بلفظه، رواه الحاكم (1/246)، والبيهقي (3/174) وقال: الصحيح وقفه. ا.هـ فهذا اللفظ لا يثبت عن النبي H، وإنما يثبت عن بعض الصحابة([2]).
حديث يزيد بن الأسود: رواه أحمد (4/160)، وأبو اود (575)، والترمذي (219)، والنسائي (2/112) وإسناده صحيح.
فقه الأحاديث:
اختلف العلماء في حكم صلاة الجماعة عليهم على أقوال:
القول الأول: صلاة الجماعة شرط لصحة الصلاة، فمن لم يصل الفريضة من الرجال في جماعة بغير عذر بطلت صلاته، وهو مذهب الظاهرية، وهو وجه للحنابلة.
ودليلهم: حديث ابن عباس وأبي موسى M أن النبي H قال: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ»، فحكم على صلاته بالبطلان إذا لم يكن له عذر.
القول الثاني: مذهب جمهور أهل العلم: أن صلاة الجماعة ليست واجبًا عينيًّا على الأفراد، فلا تجب على كل فرد، وإنما هي سنة مؤكدة أو فرض كفاية.
ودليلهم:
الأول: أن النبي H قال: «صَلَاةُ الجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً»، وفي رواية: «بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً»، فجعل لصلاة المنفرد فضلًا وأجرًا؛ فكان دليلًا على صحة الصلاة منفردًا، وأنه لا يأثم بتركه لصلاة الجماعة، وإلا لما جعل له أجرًا.
الثاني: حديث يزيد بن الأسود في الرجلين صليا الفريضة في رحالهما، ولم ينكر عليهما النبي H، ولكنه بيَّن لهم أنهم إذا صلوا الفريضة مع الجماعة بعد صلاتهم في رحالهم أنها لهم نافلة.
القول الثالث: أن صلاة الجماعة واجبة على كل رجل لا عذر له، ومن تركها عمدًا بلا عذر يأثم، ولا تبطل صلاته، وهو مذهب جماعة من السلف، وفقهاء أهل الحديث، وهو الصحيح عند الحنابلة، وهو وجه للحنفية والشافعية.
وأدلتهم الآتي:
الأول: حديث أبي هريرة I أن النبي H قال: «وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْتَطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رجلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفُ إِلَى رِجَالٍ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ»، فأراد النبي H أن يحرق بيوت من يتخلف عن صلاة الجماعة، وهذا وعيد شديد، لا يكون إلا على ترك واجب، ولكن النبي H ترك ما همَّ به من تحريق بيوتهم: إما لوجود من لا ذنب له من النساء والأطفال، وإما لأنه لا يعذب بالنار إلا الله D. وقَوْلُهُ: «وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ العِشَاءَ»، أي: هؤلاء الذين يتخلفون عن صلاة العشاء هم من أهل الدنيا، لو أنهم يعلمون أنهم سيحصلون على شيء حقير من الدنيا لأتوا وأجابوا، لو يجدون عرقًا سمينًا - وهو العظم الذي ذهب أكثر لحمه -، أو مرماتين - وهو العظم الذي يكون في الأظلاف -، وهذه الأشياء حقيرة، لكن لحرصهم على الدنيا يطمعون ولو بالحقير.
الثاني: أن ترك الجماعة من علامة النفاق، ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود I أنه قال: «لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنَ الصَّلَاةِ، إِلَّا مُنَافِقٌ قَدْ عُلِمَ نِفَاقُهُ، أَوْ مَرِيضٌ»، والمراد بالنفاق هنا: النفاق العملي، وليس النفاق الاعتقادي الذي يخرج من الملة. وفي الصحيحين عن أبي هريرة I قال: قال النبي H: «إِنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ»، أي: الصلاة في الجماعة ثقيلة على المنافقين، وأشدها ثقلًا: صلاة العشاء والفجر، فهم يتخلفون عن صلاة الجماعة. وقَوْلُهُ: «وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا»، أي: لو يعلمون الخير الكثير في هاتين الصلاتين؛ لأتوا لأدائها في المساجد ولو زحفًا.
الثالث: أن النبي H أمر بحضور صلاة الجماعة، ولم يرخص في تركها حتى للأعمى، فقد قال له رسول الله H: «هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَجِبْ»، وهذا أمر، وهو يقتضي الوجوب. وعند أحمد (3/423)، وأبي داود (552) وابن ماجه (792) عن ابن أم مكتوم الأعمى I قال له رسول الله H: «هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً»، وهو حديث حسن، والرخصة لا تكون إلا من واجب.
الرابع: أن القول بوجوب صلاة الجماعة هو مذهب الصحابة، قال ابن القيم: «ومن الأدلة إجماع الصحابة على وجوب صلاة الجماعة... [وذكر نصوصهم]، ثم قال: هذه نصوص الصحابة كما تراها صحة وشهرة وانتشارًا». اهـ. وهو الراجح.
وما جاء من فضل صلاة الجماعة على صلاة الفرد، ففيه: أن صلاة المنفرد تصح ويؤجر عليها، ولكن ليس فيه أنه لا يأثم بترك الجماعة بلا عذر، وإقرار النبي H للرجلين عندما صليا في رحالهما في حديث يزيد بن الأسود I يدل على أن الجماعة ليست شرطًا لصحة الصلاة، لكن لا يسلم تاركها من الإثم، ويحتمل أن هذين الرجلين كانا معهما عذر.
ولا تكون الجماعة شرطًا لصحة الصلاة؛ لعدم وجود ما يدل على شرطيتها.
وقَوْلُهُ: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ»، فالصحيح أنه لا يثبت عن النبي H، إنما هو من قول بعض الصحابة، وعلى فرض صحته عن النبي H؛ يحمل النفي فيه على نفي الكمال لا نفي الصحة، فمن صلى منفردًا بغير عذر لا تبطل صلاته، ولكنه يأثم، ولم يحصل على كمال الفضل والأجر، وهذا التأويل لغرض الجمع بين الأدلة.
لا خلاف بين أهل العلم أن الأنوثة والخوف والمرض والمطر أعذار تسقط بسببها وجوب الجماعة:
فالمرأة لا تجب عليها صلاة الجماعة، بل الأفضل لها أن تصلي في بيتها، وإذا أرادت أن تأتي المسجد لأداء صلاة الجماعة؛ فلا يمنعها زوجها، إلا لخشية فتنة أو ضرر.
والخوف عذر من أعذار التخلف عن الجماعة، سواء خاف على نفسه أو ماله أو عرضه.
والمرض كذلك من الأعذار إذا كان يشق على المريض بسببه أن يأتي الجماعة.
والمطر إذا كان الناس يتأذون بسببه لو حضروا إلى المساجد؛ فيكون عذرًا لترك الجماعة، وقد كان النبي H يأمر المؤذن في الليلة المطيرة أن يقول: «صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ»، وفي رواية: «صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ»، وهما في الصحيحين من حديث ابن عمر وابن عباس.
ومن أعذار التخلف عن صلاة الجماعة: حضور الطعام بضوابطه - كما سبق -. والفقهاء يذكرون أعذارًا كثيرة، لكن اقتصرنا على ما كان محل اتفاق.
لا خلاف بين أهل العلم أنه يستحب له أن يصلي مع هذه الجماعة مرة ثانية، إذا كانت الفريضة صلاة العشاء أو الظهر.
وكذلك يستحب عند جمهور العلماء إعادة الفجر والعصر، ويستحب عند جماعة من العلماء إعادة المغرب.
والصحيح: أنه يستحب له أن يلتحق مع الجماعة في جميع الصلوات، لقول النبي H: «إِذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمْ، ثُمَّ أَدْرَكْتُمْ الإِمَامَ وَلَمْ يُصَلِّ، فَصَلِّيَا مَعَهُ، فَإِنَّهَا لَكُمْ نَافِلَةٌ»، وهذا اللفظ عام، يشمل جميع الصلوات المكتوبة، ولما روى أحمد (3/5)، وأبو داود (575)، والترمذي (220)، عن أبي سعيد أَنَّ النَّبِيَّ H أَبْصَرَ رجلًا يُصَلِّي وَحْدَهُ، فَقَالَ: «أَلاَ رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّيَ مَعَهُ» وإسناده صحيح. وتكون الإعادة لهذه الصلاة نافلة، وهو مذهب جماعة من السلف، والصحيح عند الشافعية، ووجه للحنابلة.
وعلة من يستثني المغرب: حتى لا يصير شفعًا. ومن يستثني الفجر والعصر: للنهي عن التنفل بعدهما. ومن يستثني المغرب والفجر والعصر: للتعاليل السابقة.
([1]) التاريخ الكبير للبخاري (1/233)، فتح الباري لابن رجب (5/449).
([2]) المعرفة والآثار (2/339)، الاستذكار (5/320).
([3]) المغني (3/5)، المحلى [مسألة] (485)، مجموع الفتاوى (23/225)، فتح الباري (2/339)، فتح الباري لابن رجب (5/450).
([4]) المجموع شرح المهذب (4/205)، الأوسط (4/139)، المحلى [مسألة] (486)، الفتاوى الكبرى (1/314)، الإنصاف (2/302).
([5]) المجموع شرح المهذب (4/225)، المغني (2/519)، مجموع الفتاوى (23/188)، الإنصاف (2/205، 217)، الموسوعة الفقهية (27/173).