وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: صَلَّى مُعَاذٌ بِأَصْحَابِهِ الْعِشَاءَ, فَطَوَّلَ عَلَيْهِمْ, فَقَالَ النَّبِيُّ H «أَتُرِيدُ أَنْ تَكُونَ يَا مُعَاذُ فَتَّانًا? إِذَا أَمَمْتَ النَّاسَ فَاقْرَأْ: بِـ {الشَّمْسِ وَضُحَاهَا} , وَ {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} , وَ {اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} , {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
تخريج الحديث:
حديث جابر: رواه البخاري (705)، ومسلم (465).
فقه الحديث:
اتفق الفقهاء على أن الأفضل للإمام أن يقرأ في صلاته من سور المفصل، والمفصل على الأشهر يبتدئ من سورة (الحجرات) أو (ق)، وينتهي بآخر المصحف، والقراءة من هذا الموضع تعتبر خفيفة ليس فيها إطالة بالنسبة للقراءة من غيره، وقد كان النبي H يقرأ في كثير من أحيانه إذا صلى بالناس من سور المفصل، كما سبق عن سليمان بن يسار عن أبي هريرة I في قراءة النبي H. وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة I: «كَانَ النَّبِيُّ H يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِ (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى)، وَفِي الْعَصْرِ نَحْوَ ذَلِكَ». وعند أبي داود (800) عن جابر بن سمرة I: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ H كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ السُّوَرِ»، وسنده حسن. وكان النبي H يحث الأئمة على القراءة بسور من المفصل، كما فعل مع معاذ I: فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ H: «أَتُرِيدُ أَنْ تَكُونَ فَتَّانًا يَا مُعَاذُ؟» ثم قال له: «إِذَا أَمَمْتَ النَّاسَ، فَاقْرَأْ بِ الشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى، وَاقْرَأْ: بِاسْمِ رَبِّكَ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى».
ولا بأس بالقراءة أحيانًا من غير المفصل، فقد ثبت عن النبي H أنه صلى بهم وقرأ بـ(الأعراف) و(الروم) و(يس) و(المؤمنين) و(الصافات).
فيه خلاف بين العلماء:
القول الأول: يشترط اتحاد المأموم والإمام في النية؛ فلا تصح صلاة المفترض خلف المتنفل، ولا صلاة المفترض خلف من يصلي فريضة أخرى، وهو مذهب جماعة من السلف، والحنفية والمالكية، والمذهب عند الحنابلة؛ لما في الصحيحين أن رسول الله H قال: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ» وصلاة معاذ بقومه يحتمل أنه كان يصلي مع رسول الله H نافلة وبقومه فريضة، لهذا تصح صلاة المتنفل خلف المفترض، أو يحتمل الخصوصية، وكذلك ما جاء في صلاة الخوف؛ فهو خاص بحالة الخوف.
القول الثاني: لا يشترط اتحاد المأموم والإمام في النية، فتصح صلاة المتنفل خلف المفترض، وصلاة المفترض خلف المتنفل، وصلاة الفريضة خلف من يصلي فريضة غيرها، مع اشتراط الاقتداء بالإمام في الأفعال.
وهذا مذهب جماعة من السلف، والشافعية والظاهرية، ورواية لأحمد.
ودليله: أن معاذ I كان يصلي العشاء مع النبي H ثم يعود إلى قومه فيصلي بهم العشاء، ففي الصحيحين عن جابر «كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ H ثُمَّ يَأْتِي فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ فَصَلَّى لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ H الْعِشَاءَ ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ فَأَمَّهُمْ» فصلى الفريضة مع النبي H، وصلاها مرة ثانية نافلة ليؤم قومه، فهي نافلة له وفريضة لهم.
والقول: إن معاذ كان يصليها عند رسول الله نافلة غير صحيح، فلم يكن معاذ I ليترك صلاة الفريضة مع النبي H وفي مسجده لأجل قومه، ولأنها إذا أقيمت الصلاة؛ فلا صلاة إلا المكتوبة، فإذا كان معاذ في مسجد النبي H عندما تقام صلاة العشاء؛ فإنه سيصلي المكتوبة، وهي العشاء، وقد جاء عند البيهقي (3/86) صريحا: «كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ H الْعِشَاءَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى قَوْمِهِ فَيُصَلِّيهَا لَهُمْ، هِيَ لَهُ تَطَوُّعٌ، وَهِيَ لَهُمْ مَكْتُوبَةٌ الْعِشَاءُ»، صححه بعض العلماء، لكن الحديث في الصحيحين دون قَوْلُهُ: « هِيَ لَهُ تَطَوُّعٌ...»، فالأقرب أنها مدرجة من قول بعض الرواة، كما ذكره بعض أهل العلم([3]).
ودعوى الخصوصية تحتاج إلى دليل، ولا دليل عليها هنا، فتبقى على العموم، ولما جاء في الصحيحين عن جابر I في صلاة الخوف أن رسول الله H «صلى بطائفة ركعتين وسلم، ثم صلى بالأخرى ركعتين وسلم». فلا شك أن إحدى صلاتي رسول الله H كانت نافلة والأخرى فرض، ومع هذا أتم به الجميع، وصلاتهم جميعًا كانت فريضة.
وحديث: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ» فهذا في الائتمام بالأقوال والأفعال، لا في النية، وهو الأصح، والله أعلم.
([1]) المجموع شرح المهذب (4/271)، الإنصاف (2/55)، فتح الباري (2/496، 508)، فتح الباري لابن رجب (7/28).
([2]) المجموع شرح المهذب (4/271)، المحلى [مسألة] (494)، المغني (3/67)، مجموع الفتاوى (23/389)، فتح الباري لابن رجب (6/240)، كشاف القناع (1/484).
([3]) فتح الباري لابن رجب (6/245)، معرفة السنن والآثار للبيهقي (2/365).