وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ I قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ H: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ, فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ, فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً, فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا - وَفِي رِوَايَةٍ: سِنًّا - وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ, وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
تخريج الحديث:
حديث ابن مسعود: رواه مسلم (673).
فقه الحديث:
الصحيح من أقوال أهل العلم: أن الأقرأ للقرآن أحق بالإمامة من الأفقه والأعلم بالسنة، وهو قول جماعة من السلف، والمذهب عند الحنابلة، ومذهب الظاهرية، وقول للحنفية؛ لوجود الأدلة التي تنص على تقديم الأقرأ للقرآن على الأعلم بالسنة، ففي حديث أبي مسعود I قال النبي H: «يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِي القِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ»، فقدم الأقرأ على الأعلم. وفي حديث عمرو بن سلمة I قال النبي H: «وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا». وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري I عن النبي H قال: «إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً، فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ، وَأَحَقُّهُمْ بِالإِمَامَةِ، أَقْرَؤُهُمْ»، ولأن القراءة ركن من أركان الصلاة، فيحتاج لها من كان أجود في القراءة.
وقدم رسول الله H أبا بكر في الإمامة، مع وجود الأقرأ منه؛ للتنبيه على أنه الخليفة بعده.
وقال جماعة من السلف، والمالكية والشافعية، وبعض الحنفية: يقدم الأعلم والأفقه؛ لأنه قد ينوبه في الصلاة ما لا يدري ما يفعل معه إلا بالفقه، ولأن رسول الله H قدم أبا بكر يصلي بالناس، ولم يقدم أبي بن كعب، وهو أقرأهم لكتاب الله تعالى.
فإذا كانوا في القراءة سواء؛ فيقدم الأعلم بالسنة، بلا خلاف بين أهل العلم، وهذا واضح؛ ففي حديث أبي مسعود I قال: «فَإِنْ كَانُوا فِي القِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ».
فإذا كانوا في العلم بالسنة سواء؛ فقال الحنفية والشافعية: يقدم أورعهم، أي: من كان أكثر اتقاء للشبهات.
وقال المالكية: يقدم الأكثر عبادة.
ثم اتفق الثلاثة على أنه يقدم بعد ذلك من كان أكبر سنًّا.
وقال الحنابلة: يقدم أولًا الأكبر سنًّا، ثم بعد ذلك الأورع والأتقى لله D، وهو الأصح؛ لحديث أبي مسعود I. وفي الصحيحين عن مالك بن الحويرث I أن رسول الله قال لهم: «فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ»، ومن حيث المعنى: من كان أكبر سنًّا يكون أخشع قلبًا في العبادة غالبًا.
فعلى هذا: يقدم أولًا الأقرأ، ثم الأعلم بالسنة، ثم الأكبر سنًّا، ثم من كان أورع وأتقى وأعبد، بلا خلاف بين الفقهاء؛ لأنه أهل لهذه العبادة.
وهذا فيما إذا كانوا مسلمين أصلًا، أما إذا كان إسلامهم بعد كفر؛ فيقدم أقدمهم إسلامًا على أكبرهم سنًّا وعلى أكثرهم دينًا عند جمهور أهل العلم، ففي الحديث: «فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا. وَفِي رِوَايَةٍ: سِنًّا»، وأهمل أكثر الفقهاء ذكر تقديم من كان أقدم هجرة في الإمامة؛ لانقطاع الهجرة بعد موت النبي H.
ثم هذا الترتيب هو من باب الاستحباب بلا خلاف بين أهل العلم، فإذا تقدم الأعلم على الأقرأ، أو تقدم الأصغر سنًّا على الأكبر سنًّا؛ فلا شيء في ذلك.
اتفق الفقهاء على أن السلطان كأمير أو قاض أو وال مقدم في الإمامة على جميع الناس، حتى على إمام المسجد، وعلى صاحب البيت، إذا كان يحسن الصلاة، وذلك لأن ولايته ثابتة على جميع من تحت يده من الرعية.
وذهب جمهور أهل العلم إلى أن الإمام الراتب للمسجد، وصاحب البيت مقدمان في الإمامة على غيرهما من الناس، ولو كان هنالك من هو أقرأ وأفقه منهما، فإذا كان الناس في المسجد؛ فلا يُتَقدم على الإمام الراتب إلا بإذنه، ولو وجد بعض الناس في بيت؛ فصاحب البيت مقدم في الإمامة، ولا يتقدم أحد بإمامة الصلاة إلا بإذنه، ففي حديث أبي مسعود I أن النبي H قال: «وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ»، أي: لا يؤم رجل غيره في محل ولايته، وهذا يشمل الولاية العامة كولاية السلطان والولاية الخاصة، كإمامة صاحب البيت أو المسجد.
وقَوْلُهُ: «وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ»، أي: لا يجلس أحد على الفراش الخاص بصاحب البيت إلا بإذنه، وهذه من الآداب الشرعية.
([1]) شرح مسلم (6/147)، المغني (3/11، 17)، المحلى [مسألة] (487)، فتح الباري لابن رجب (6/113)، الموسوعة الفقهية (6/207).
([2]) المجموع شرح المهذب (4/284)، المغني (2/42)، المحلى [مسألة] (487)، فتح الباري لابن رجب (6/135)، الموسوعة الفقهية (6/207).