وَعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ I أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ H: رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ, فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ, وَأَبُو دَاوُدَ, وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ, وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
(416) 24- وَلَهُ عَنْ طَلْقٍ «لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ».
[416] 25- وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ وَابِصَةَ: «أَلَا دَخَلْتَ مَعَهُمْ أَوْ اجْتَرَرْتَ رَجُلًا?»
تخريج الحديثين:
الحديث الأول: حديث وابصة بن معبد I، رواه أحمد (4/228)، وأبو داود (682)، والترمذي (230)، وابن ماجه (1004) من طرق، وهو حديث صحيح، وقد صححه أحمد وإسحاق وغيرهما([1])، وزاد الطبراني في «المعجم الكبير» (22/145): «ألا دَخَلْتَ مَعَهُمْ أَوْ اِجْتَرَرْتَ رَجُلًا؟»، وهذه الزيادة لا تصح، إسنادها ضعيف جدًّا، فيها السري بن إسماعيل، متهم بالكذب.
والحديث الثاني: «لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ»، قال المؤلف: عن طلق وليس كذلك، إنما هو عن علي بن شيبان. رواه أحمد (4/23)، وابن ماجه (1003) وغيرهما، وإسناده حسن.
فقه الحديثين:
ذهب جماعة من السلف والحنفية والمالكية والشافعية: إلى أن صلاته صحيحة، فقد ركع أبو بكرة خلف الصف، فلم يأمره رسول الله H بالإعادة، وصلت أم سلمة وحدها خلف أنس واليتيم. وحديث وابصة وعلي بن شيبان ضعفيان، أو يحملان على الأفضل والأكمل؛ جمعًا بين الأدلة.
وذهب جماعة من السلف، ومذهب الحنابلة والظاهرية: إلى أن صلاة الرجل وحده خلف الصف باطلة، فقد رأى النبي رجلًا يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد الصلاة؛ فهذا دليل على أن صلاته الأولى لم تصح، وأيضًا قال رسول الله: «لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ»، أي: لا صلاة صحيحة له إذا انفرد خلف الصف.
وهذان الحديثان ثابتان عن النبي H، ولم يصب من ضعفهما، وأبو بكرة I ركع خلف الصف، ثم مشى حتى التحق بالصف، فلم يدم انفراده إلى بعد الركوع. ودلت السنة على صحة صلاة المرأة وحدها خلف الصف، ونهت الرجل عن ذلك، وأمرته بإعادة الصلاة، وهو الأرجح.
والصحيح من أقوال أهل العلم: أن الانفراد الذي يؤثر في صلاة الرجل فلا تصح صلاته معه إذا استمر هذا الانفراد إلى بعد الركوع، فلو ابتدأ منفردًا، ثم التحق به آخر قبل انتهاء الركوع؛ فإن صلاته تصح، وذلك لأن الجماعة تدرك بإدراك الركوع.
ولو صلى الركعة كاملة منفردًا، ثم جاء آخر وانضم معه في الركعة الثانية وما بعد؛ فالصحيح من أقوال أهل العلم أنها تبطل الركعة فقط، ولا تبطل الصلاة كاملة، لأن الانفراد حصل في ركعة منها، ولم يحصل في جميع الركعات.
و إذا جاء المسبوق وقد امتلأت الصفوف ولا توجد فرجة؛ فمذهب الحنفية، والصحيح عند الشافعية: أنه يجتذب له رجلًا من الصف يصلي معه؛ لأنه مضطر، وقد جاء من حديث وابصة I أن النبي قال لمن صلى منفردًا خلف الصف: «ألا دَخَلْتَ مَعَهُمْ أَوْ اِجْتَرَرْتَ رَجُلًا؟»، أي: جذبت رجلًا من الصف يرص معك، لكن هذه الزيادة لا تصح، وأيضًا هذا الجذب فيه مفاسد: فيشوش على المصلين، ويقطع الصف، ويحرم من جذبه من فضيلة الصف السابق الذي كان فيه.
والصحيح عند الحنابلة: أنه يخترق الصفوف ويصلي عن يمين الإمام، فإن لم يستطع أشار إلى أحد المصلين في الصف ليرجع إلى الخلف فيصلي معه، ولا يجذبه وإنما يستأذنه، وهذا الفعل من باب: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن عثيمين([3]) وغيرهم: يصلي منفردًا خلف الصف؛ لأنه يكون معذورًا شرعًا، فلم يحصل منه تقصير أو تفريط، فقد جاء والصفوف ممتلئة ولا توجد فرجة فيها، وقد قال الله D: ﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ ﴾ [التغابن: ١٦]، وقال B: ﴿ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَا ﴾ [البقرة: ٢٨٦]، وفي الحديث قال النبي H: «وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»، ولأن واجبات وأركان الصلاة تسقط عند العجز، فمن عجز عن القيام سقط عنه ويصلي قاعدًا، ومن عجز عن الركوع والسجود سقطا عنه ويصلي بالإيماء، فليكن كذلك: من عجز عن الدخول في الصفوف يسقط عنه هذا الواجب ويصلي منفردًا خلف الصف، فهذه استطاعته، ولأنه مطالب بواجبين: بواجب الدخول في الصف، وبواجب الصلاة في الجماعة، فإذا فات الأول - وهو الدخول في الصف - بقي الثاني - وهو وجوب الصلاة في الجماعة - وهو الأرجح، والأحوط: أن يصف عن يمين الإمام؛ لعدم وجود دليل منصوص على التفرقة بين الحالين.
الذي عليه جمهور أهل العلم: أن صلاتها صحيحة؛ لأنها وحدها تكون صفًّا، ففي الصحيحين عن أنس I أن النبي H صلى بهم في بيت أم سليم J فصف خلفه أنس I ويتيم وأم سليم J خلفهما وحدها، فإذا صح أن تكون صفًّا وحدها؛ فلا تبطل صلاتها إذا صلت وحدها خلف الصف، ولو وجدت صفوف نساء، ولكنها مأمورة بوصل الصف إذا لم يكن لها عذر.
والمذهب عند الحنابلة: أن صلاتها باطلة؛ لعموم قوله H: «لا صلاة لمنفرد خلف الصف» وإنما جاز أن تصف وحدها مع الرجال؛ حتى لا تصف معهم، وهو الأصح.
([1]) الأوسط لابن المنذر (4/184).
([2]) الأوسط (4/183)، فتح الباري (2/450)، المحلى [مسألة] (414)، مجموع الفتاوى (23/393)، القواعد النورانية (ص/99)، الإنصاف (2/288)، إعلام الموقعين (2/21)، فتح الباري لابن رجب (7/120).
([3]) المجموع الثمين (15/190).
([4]) المحلى [مسألة] (414)، فتح الباري (2/449)، فتح الباري لابن رجب (6/287)، الإنصاف (2/299)، الشرح الممتع (4/275).