وَعَنْ أنس قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ H مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
(430) 07- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ L قَالَ: أَقَامَ النَّبِيُّ H تِسْعَةَ عَشَرَ يَقْصُرُ. وَفِي لَفْظٍ: بِمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ: سَبْعَ عَشْرَةَ.
وَفِي أُخْرَى: خَمْسَ عَشْرَةَ.
(431) 08- وَلَهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: ثَمَانِيَ عَشْرَةَ.
(432) 09- وَلَهُ عَنْ جَابِرٍ: أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ. وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ, إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ.
تخريج الأحاديث:
حديث أنس I: رواه البخاري (1081)، ومسلم (693).
حديث ابن عباس: رواه البخاري (1080)، وفي رواية في سنن أبي داود (1230): «سَبْعَ عَشْرَةَ»، وإسنادها صحيح. والجمع بين الروايتين كما ذكره بعض أهل العلم أن يقال: من قال، «تسعة عشر يومًا» عد يوم الدخول إلى مكة ويوم الخروج منها، ومن قال «سبع عشرة يومًا» لم يعد يوم الدخول والخروج، فبقيت سبعة عشر يومًا. وفي رواية أخرى عند أبي داود (1231): «خَمْسَ عَشْرَةَ»، وهي رواية شاذة مخالفة لما هو أصح منها، وقد حكم عليها بالشذوذ بعض العلماء([1]).
والحديث الثالث: من حديث عمران بن حصين، رواه أبو داود (1229) وإسناده ضعيف؛ فيه علي بن زيد بن جدعان، ضعيف.
والحديث الرابع: من حديث جابر، رواه أحمد (3/295)، وأبو داود (1232)، ورواته ثقات، لكن اختلف في وصله وإرساله، قال أبو داود عقبه: «رواه معمر وغيره لا يسنده» أي: أن معمرًا يرويه متصلًا وغير معمر يرويه مرسلًا. وقد ضعف هذا الحديث البيهقي والدارقطني، وصححه بعض أهل العلم، منهم النووي وابن حزم والألباني؛ لأن معمرًا ثقة حافظ، ومثله تقبل زيادته([2])، وهذا هو الأقرب.
فقه الأحاديث:
إذا عزم المسافر على أن يقيم في بلدة مدة معينة يقضي فيها حاجته؛ فهل يقصر الصلاة أم يتم الصلاة؟ فيه أقوال عند العلماء، أشهرها ثلاثة:
القول الأول: مذهب جمهور أهل العلم قالوا: إذا عزم على أن يقيم في بلدة أربعة أيام فما دون؛ فيشرع له القصر، وإذا عزم على البقاء أكثر من أربعة أيام؛ فيلزمه إتمام الصلاة.
واستدلوا بما ثبت في الصحيحين عن النبي H أنه أقام في مكة في حجة الوداع أربعة أيام وهو يقصر الصلاة، ثم توجه إلى منى، فقد وصل إلى الإبطح من مكة في اليوم الرابع من ذي الحجة، وبقي اليوم الخامس والسادس والسابع، وفي اليوم الثامن انتقل من مكة إلى منى، والنبي H يعلم أنه سيبقى هذه المدة في مكة؛ لأنه سينفر في اليوم الثامن إلى منى، وقد قال أنس I: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ H مِنْ المَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ»، وهذا في حجة الوداع.
ومن أدلتهم: أن من بقي في مكان مدة معينة؛ فإنه يعتبر مقيمًا في لسان الشرع والعرف، فقد قال الله D: ﴿ وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ ﴾ [النساء: ١٠١]، فمن بقي في بلدة مدة معينة لم يكن ضاربًا في الأرض، وقد انقطع ضربه، فصار مقيمًا؛ فلا يقصر الصلاة، وهكذا في العرف يعد الناس من بقي في بلدة مدة معينة أنه مقيم، ولو كانت مدة قصيرة، وإنما سمح له بالقصر أربعة أيام مع أنه مقيم؛ لدليل مخصص، وهو قصره H في مكة أربعة أيام وهو مقيم فيها، ولو لا هذا الدليل المخصص لكان الشرع والعرف يقتضيان أن من أقام في بلدة ولو يومًا واحدًا أنه يتم الصلاة.
وأجاب جمهور العلماء على ما جاء عن النبي H أنه قصر في مكة يوم الفتح تسعة عشر يومًا، وقصر في تبوك عشرين يومًا: بأنه يحمل على أن النبي H لم يعزم على البقاء مدة معلومة، وإنما كان مترددًا، ومن كان مترددًا لا يعرف هل ستنتهي حاجته ويخرج من هذه البلدة قبل أربعة أيام، أم بعد أربعة أيام؛ فله أن يقصر أكثر من أربعة أيام، فلم يعلم النبي H في فتح مكة هل سيخرج منها مبكرًا أم سيتأخر فيها، فهو متردد بحسب الحاجة لبقائه هناك.
وكذلك في تبوك كان ينتظر العدو، فلم يعزم على بقاء مدة معينة. وما جاء عن بعض الصحابة أنهم كانوا يقصرون عند إقامتهم أكثر من أربعة أيام، فيحمل على أنهم كانوا مترددين، ولم يقصدوا البقاء مدة معلومة، أو أنه اجتهاد منهم، وقد خالفهم غيرهم، فعلى سبيل المثال: ما رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهما عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة قال: «كُنَّا مَعَ سَعْدٍ يَعْنِي ابْنَ أَبِي وَقَّاصٍ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الشَّامِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَكُنَّا نُتِمُّ»، وهذا الأثر إسناده صحيح.
القول الثاني: مذهب الحنفية قالوا: إذا أراد البقاء خمسة عشر يومًا فما فوق أتم، وإذا أراد البقاء أقل من ذلك قصر.
ودليلهم: ما جاء عن النبي H في فتح مكة أنه قصر الصلاة مدة إقامته في مكة خمسة عشر يومًا، وأيضًا لأنه ثبت عن ابن عمر L أنه كان: «إِذَا أَجْمَعَ عَلَى إِقَامَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَرَّحَ ظَهْرَهُ، وَصَلَّى أَرْبَعًا»، رواه ابن أبي شيبة.
القول الثالث: مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، واختاره بعض العلماء المعاصرين كالألباني وابن عثيمين، قالوا: من بقي في بلدة ولا يريد استيطانها؛ فله أن يقصر مدة إقامته فيها ولو طالت، لأنه لا زال في حكم المسافر، ما دام أنه أراد البقاء حتى تنتهي حاجته ويرجع، ولم ينو استيطان البلدة، وذلك لأن الأدلة التي ذكرت القصر في السفر هي أدلة مطلقة، ليس فيها تحديد مدة القصر، فتبقى على إطلاقها، فليس هنالك حد شرعي للمدة التي يقصر فيها المسافر، ولا يؤخذ هذا الحد من اللغة؛ فعليه: يقصر مطلقًا بدون تحديد مدة، لهذا قصر النبي H بحسب بقائه في البلدان، فبقي في مكة في غزوة الفتح تسعة عشر يومًا وكان يقصر، وبقي في تبوك عشرين يومًا وكان يقصر، وبقي في مكة في حجة الوداع أربعة أيام وكان يقصر، وهذا الذي ثبت عن جماعة من الصحابة.
والذي ذهب إليه جمهور العلماء هو الأولى، فيعمل به لأمور:
الأمر الأول: أنه الأحوط، فقد حددوا مدة القصر بأربعة أيام فقط، وغيرهم يزيد على هذه المدة، فكان الأقل هو الأحوط، وقد قيل للإمام أحمد: لما لا يزاد القصر على أربعة أيام؟ فقال: «لأنهم اختلفوا؛ فيؤخذ بالأحوط»، وهذا الجواب من أحسن الفقه.
الأمر الثاني: أن في هذا القول محافظة على العبادة، وذلك لأن المسافر من أحكامه: أنه يقصر الصلاة، ويجمع بين الصلاتين، ويفطر رمضان، ولا يستحب له الإتيان بجميع النوافل، ولا تلزمه الجمعة عند جمهور العلماء، فإذا قلنا: لا يقصر فوق أربعة أيام؛ احتطنا للعبادة وحفظناها من التساهل.
الأمر الثالث: أنه قول الأكثر من أهل العلم، والصواب يكون حليفًا للأكثر في الغالب.
فعليه: من أتى إلى بلدة ونوى أن يبقى فيها أسبوعًا مثلا -؛ فإنه يتم من أول يوم، لأنه عزم على البقاء مدة أكثر من أربعة أيام، فهو في حكم المقيمين وليس في حكم المسافرين، وإذا نوى أن يبقى أربعة أيام أو أقل؛ فإنه يقصر. وإذا كانت له حاجة في بلدة، وتردد بين البقاء فيها أقل من أربعة أيام أو أكثر؛ فإنه يقصر الصلاة ما دام مترددًا، فإذا عزم على البقاء فوق الأربعة الأيام أتم.
([1]) نصب الراية (2/186)، تلخيص الحبير (2/48).
([2]) المعرفة والآثار (2/435)، تلخيص الحبير (2/47)، الإرواء (574).
([3]) المجموع شرح المهذب (4/242)، المغني (3/147)، الأوسط (4/355)، المحلى [مسألة] (515)، مجموع الفتاوى (24/18)، زاد المعاد (3/561)، فتح الباري (3/269).