وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ L قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ H: «لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ; مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ». رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، كَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
تخريج الحديث:
حديث ابن عباس L: رواه الدارقطني (1/387) بإسناد ضعيف جدًّا، لكنه صح موقوفًا عن ابن عباس L، رواه ابن المنذر في الأوسط (4/346)، والبيهقي (3/137).
فقه الحديث:
هذه المسألة فيها نحو ثمانية أقوال: أشهرها ثلاثة:
القول الأول: مذهب جمهور أهل العلم: تقصر الصلاة في مسيرة أربعة برد، فمن أراد أن يسافر مسافة تساوي أربع برد فما فوق؛ فإنه يقصر الصلاة، والبريد الواحد قدر مسيرة نصف يوم، وهو يساوي أربعة فراسخ، فأربعة برد تساوي ستة عشر فرسخًا، والفرسخ الواحد يساوي ثلاثة أميال، فستة عشر فرسخًا تساوي ثمانية وأربعين ميلًا، والميل الواحد يساوي نحو كيلو وسبعمائة متر، فثمانية وأربعون ميلًا تساوي ثمانين كيلو تقريبًا، واختارت هذا القول اللجنة الدائمة ([2]).
ودليلهم: ما جاء عن ابن عباس L قال رسول الله H: «لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ»، أي: أن الصلاة تقصر في أربعة برد فما فوق، وقد ثبت هذا التحديد عن ابن عمر وابن عباس M، وهما أعلم بمعاني الشرع، ويدل عليه ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس I: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» وهي أقل مدة ذكرت في الحديث؛ فيعتمد عليها. والبرد: مسيرة نصف يوم، فالأربعة البرد مسيرة يوم وليلة.
القول الثاني: مذهب الحنفية: تقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة أيام، فمن سافر مسافة تقطع بثلاثة أيام فما فوق؛ فإنه يقصر الصلاة، وإذا سافر مسافة أقل من ذلك فلا يقصر الصلاة؛ لما جاء في الصحيحين أن النبي H قال: «لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ»، فمنعها أن تسافر هذه المسافة بدون محرم؛ لأنها تعتبر مسافة سفر، فتلحق به بقية الأحكام كقصر الصلاة. ونختار هذه الرواية لأنها أكثر مدة مذكورة، فهي الأحوط.
القول الثالث: قول كثير من السلف، ورواية للإمام أحمد، وقول ابن تيمية وابن القيم، والشوكاني ورجحه الألباني([3]) وابن عثيمين([4]): لا تحديد لمسافة القصر، فلا تحد بمسيرة زمن معين، ولا بمقدار معين، وإنما يرجع الأمر إلى عرف الناس، فما عده الناس في أعرافهم سفرًا؛ فتقصر فيه الصلاة، وما لم يعد في عرف الناس سفرًا؛ فلا تقصر فيه الصلاة.
ودليلهم: أن الشرع ذكر القصر في السفر ولم يحدده بمسافة، ولا تحديد له في اللغة أيضًا، فإذا كان السفر لا حد لمسافته في اللغة ولا في الشرع؛ فيرجع في تحديد مسافته إلى العرف، فما عده أهل البلدة سفرًا قصروا الصلاة فيه، وذلك أن يتزود ويتأهب له ويشد رحله.
وأما الحديث في تحديد المسافة بأربعة برد؛ فهو ضعيف، وما جاء عن ابن عمر وابن عباس M من تحديد مسافة السفر بأربعة برد فقد جاءت عنهما أقوال أخرى، فقد ثبت عن ابن عمر L أنه قال: «تقصر الصلاة ولو بمسافة ساعة». وثبت عن ابن عباس L أنه قال: «يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي مَسِيرَةِ يَوْمٍ إِلَى اللَيْل»، وهذا يساوي – تقريبًا - اثنين برد، فابن عباس وابن عمر كانت لهما فتاوى متعددة في تحديد المسافة التي تقصر فيها الصلاة.
وأما حديث ابن عباس في نهي المرأة عن السفر بدون محرم؛ فقد اختلفت الألفاظ فيه، فجاء بلفظ: «ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ»، وجاء بلفظ: «يَوْمَيْنِ»، وجاء بلفظ: «مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ»، وجاء مطلقًا بدون تحديد: «لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ»، ويحمل هذه الاختلاف في الألفاظ على حسب السائر، فالمسافة واحدة، وتقدير الزمن بحسب سرعة السائر، ومع هذا لا زالت المسافة مجهولة.
قُلْتُ: مذهب الجمهور أقوى وأضبط.
([1]) الأوسط (4/346)، شرح مسلم (5/170)، المغني (3/105)، المحلى [مسألة] (513)، مجموع الفتاوى (24/12ـ47)، زاد المعاد (1/481)، فتح الباري (3/275)، السيل الجرار (1/308).
([2]) فتاواها (6/388).
([3]) الإرواء (3/16).
([4]) الشرح الممتع (4/496).