وَعَنْ جابر قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ H يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحَدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ, ثُمَّ يَقُولُ: «أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ?»، فَيُقَدِّمُهُ فِي اللَّحْدِ, وَلَمْ يُغَسَّلُوا, وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
تخريج الحديث:
حديث جابر I: رواه البخاري (1347).
فقه الحديث:
الشهداء على أقسام:
الأول: شهيد قتل في معركة بين المسلمين والكفار.
الصحيح أنه لا يغسل، فلم يغسل النبي H الشهداء الذين قتلوا في أحد، فقد ذكر جابر I أن شهداء أحد لم يغسلوا، وذلك لأن دماءهم تفوح مسكًا يوم القيامة، وهذا مذهب جمهور أهل العلم.
الثاني: شهيد قتل في معركة بين أهل العدل وأهل البغي.
وقد اختلف العلماء في حكم تغسيل هذا الشهيد؛ فذهب الحنفية والحنابلة في الصحيح عندهم، وهو قول للمالكية والشافعية: بأنه لا يغسل، وإنما يدفن بدمه؛ لأنه شهيد قاتل على حق ضد أهل الباطل، فكان كمن قاتل ضد الكفار، ولوجود المشقة بالقول بوجوب تغسيله، ولأنه لا يعلم أن من قتل في معركة صفين والجمل أنه غسِّل، بل قد نُقل عن بعضهم يوم الجمل أنه أوصى ألا يغسَّل.
وذهب المالكية والشافعية في المشهور عندهم، وهو رواية لأحمد: أنه يغسَّل كما يغسل سائر المسلمين، لأن الأصل هو التغسيل، ولم يخرج عن هذا الأصل إلا الشهيد يقتل في معركة ضد الكفار، فيبقى غيره على الأصل، وهو وجوب تغسيله، فقد قتل في غير حرب مع الكفار، فأصبح كالمقتول في غير القتال، وقد صح أن أسماء J غسلت ابنها عبد الله بن الزبير L عندما صلبه الحجاج، رواه البيهقي (4/117). وهو الأقرب، والله أعلم، بناء على الأصل، إلا إذا كان في تغسيله مشقة بالغة؛ فيدفن بلا تغسيل للضرورة.
الثالث: شهداء غير شهداء المعركة.
كالمبطون والمهدوم والغريق والنفساء والمطعون، هؤلاء شهداء بنص الأحاديث، ويجب تغسيلهم باتفاق الفقهاء إلا من شذ؛ لأنهم شهداء في ثواب الآخرة، وليس في أحكام الدنيا، فيغسلون كغيرهم.
جاء في حديث جابر I «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ H كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، وَالثَّلَاثَةِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ»، قال بعض أهل العلم: معناه: أنه كان يجمع بينهما في ثوب واحد، يلَفَّان به مع بعضهما، وذلك لقلة الأكفان.
وقال أكثر أهل العلم: معناه: أنه كان يقطع الثوب الواحد ويقسمه بينهما، لا أنهما يُجعَلان مع بعضهما في ثوب واحد؛ لما فيه من التقاء البشرتين.
والاحتمال الأول هو الأظهر، فيجوز أن يجمع بين الاثنين والثلاثة في ثوب واحد، يلف عليهم للضرورة، والله أعلم، فالأصل أن يكفن كل ميت في ثوب مستقل، لكن عند الضرورة لقلة الأكفان لا بأس أن يكفن الاثنين والثلاثة في الثوب الواحد.
لا خلاف بين أهل العلم أن الشهيد يدفن في ثيابه، فقد روى أحمد (5/431)، والنسائي (4/382) عن عبد الله بن ثعلبة I أن النبي H قال يوم أحد في الشهداء: «زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ»، أي: لفوهم بأثوابهم الملطخة بالدم، والحديث إسناده صحيح. وجاء عند أحمد من طريق أخرى بلفظ: «زَمِّلُوهُمْ فِي ثِيَابِهِمْ»، وفي سندها ضعف.
واختلفوا في حكمه:
فقال الشافعية والحنابلة في المشهور عندهم: يستحب أن يكفن الشهيد بثيابه ولا يجب، فيجوز نزعها وتكفينه بغيرها، فقد جاء عن النبي H أنه كفن بعض الشهداء، وهذا يدل على أن ثيابهم نزعت منهم، ففي الصحيحين أن النبي H كفن مصعب بن عمير I بنمرة، وجاء عند أحمد (1/165)، والبيهقي (3/401) عن الزبير بن العوام I قال: «لما كان يوم أحد جاءت صفية أخت حمزة بثوبين فكفن حمزة بأحدهما وكفن رجل من الأنصار بالآخر»، وهو حديث صحيح. وروى النسائي (4/60) عن شداد بن الهاد أن النبي H كفن الأعرابي الذي استشهد في المعركة في جبته، وإسناده صحيح.
وقال الحنفية والمالكية وأحمد في رواية وابن حزم الظاهري: يجب أن يكفن الشهيد بثيابه ولا تنزع منه، للأمر بذلك في حديث عبد الله بن ثعلبة I، والأمر للوجوب. والأحاديث التي فيها أن النبي H كفن بعض الشهداء، ليس فيها أنهم نزعوا منهم ثيابهم، وإنما كفنوا وعليهم ثيابهم، وهو الأصح، والله أعلم.
جاء في حديث جابر I أن النبي H لم يصل على شهداء أحد، وقد أخذ به جمهور أهل العلم فقالوا: لا يجوز الصلاة على الشهيد. وردوا على الأحاديث التي فيها أن النبي H صلى على الشهداء: بأن حديث جابر I أصح منها، فيقدم عليها، أو أن المراد بالصلاة عليهم: الدعاء لهم، لأن الصلاة في اللغة هي الدعاء.
وقال الحنفية، وبعض أهل العلم: يجب الصلاة على الشهيد كغيره من الأموات، فقد جاء عن عدة من الصحابة أنهم قالوا: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ H يُصَلِّي عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ»، رواه أبو داود في «المراسيل» (ص/306، 309)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/503)، والطبراني في الكبير (11/62) وغيرهم، وهو ثابت بمجموع طرقه([4])، فالمثبِت مقدم على النافي، وقد جاء في الصحيحين «أَنَّ النَّبِيَّ H خَرَجَ يَوْمًا، فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاَتَهُ عَلَى المَيِّتِ».
وذهب أحمد في رواية، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة، وهو اختيار ابن حزم وابن تيمية وابن القيم: إلى جواز الأمرين؛ لثبوت الأدلة لكل واحد منهما، فيجمع بين الأمرين بالقول باستحباب الصلاة على الشهيد، مع جواز تركها إذا رأى ذلك ولي الأمر، وهو الأرجح، والله أعلم.
مذهب الحنفية، والمشهور عند الشافعية والحنابلة: أنه لا يجوز أن يدفن أكثر من واحد في قبر واحد، إلا عند الضرورة، فقد كان النبي H لا يضع في القبر إلا واحدًا، وإنما دفن أكثر من واحد في قبر واحد يوم أحد للضرورة.
ومذهب المالكية، وبعض الشافعية، وهو رواية لأحمد، واختاره ابن تيمية: أنه يجوز أن يدفن أكثر من واحد في قبر واحد، ولو بغير ضرورة مع الكراهة، فالأفضل أن يدفن في كل قبر واحدٌ، ولا دليل على تحريمه، وهو الأرجح، والله أعلم.
واتفق فقهاء المذاهب على أنه يقدم في القبر أفضلهم، ففي حديث جابر I كان النبي H يسأل: «أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَيُقَدِّمُهُ فِي اللَّحْدِ».
([1]) المجموع شرح المهذب (5/264-267)، المغني (3/470-476)، فتح الباري (3/574)، الإنصاف (2/499).
([2]) المغني (3/471)، المحلى [مسألة] (562)، المجموع شرح المهذب (5/267)، نيل الأوطار (4/40).
([3]) المحلى مسألة (562)، المجموع شرح المهذب (5/266)، المغني (3/467)، فتح الباري (3/571)، نيل الأوطار (4/43).
([4]) صححه الألباني في أحكام الجنائز (ص/84).
([5]) المغني (3/513)، الإنصاف (2/552)، كتاب دفن الموتى، د/ سعد هلالي (ص/87).